التصدّي لإدارة المؤسسات الاجتماعية

 

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاللهِ كَذلِكَ، إِنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَهْلاً، فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ»[1] .

في ذكرى شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لا بُدَّ أن نحتفي بهذه المناسبة، عبر الاستضاءة بهدي علي والاستنارة بسيرته العطرة، وإذا كان ذكر فضائله وصفاته العظيمة مما تطرب له النفوس، وتشتاق إليه القلوب، فإنه يجب أن يكون دافعاً للاقتداء به والتأسّي بأخلاقه، كما ورد عنه : «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاما، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيء بِنُورِ عِلْمِهِ» 

من أهم ميزات شخصية الإمام علي ومعالم سيرته هي المبادرة، حيث كان يبادر لتحمّل المسؤولية، لم يكن ينتظر أن يسبقه أحدٌ في أيِّ شأنٍ من شؤون الخير وخدمة الدين والمجتمع، نجدُ هذه الظاهرة في سيرة علي منذ صغره وحداثة سنه.

حديث الإنذار

حينما دعا الرسول عشيرته الأقربين، بعد نزول قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ليعرض عليهم دعوته، ويطلب منهم العون وكانوا أربعين رجلاً، قال لهم : أَيُّكُم يُؤازِرُني عَلى هذَا الأَمرِ عَلى أن يَكونَ أخي ووَصِيّي وخَليفَتي فيكُم؟ 

قالَ علي : فَأَحجَمَ القَومُ عَنها جَميعا، وقُلتُ: أنَا يا نَبِيَّ اللّـه، أكونُ وزَيرَكَ عَلَيهِ، فَأَخَذَ بِرَقَبَتي، ثُمَّ قالَ: إنَّ هذا أخي ووَصِيّي وخَليفَتي فيكُم، فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا[2] .

كان الإمام في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره، لكنّه كان يتسم بصفة المبادرة. 

قصة الخندق

وفي واقعة الخندق خَرَجَ عَمرُو بنُ عَبدِ وَدٍّ فَنادى: مَن يُبارِزُ؟ 

فَقامَ عَلِيٌّ وهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الحَديدِ فَقالَ: أنَا لَها يا نَبِيَّ الله.

فَقالَ: إنَّهُ عمَرٌو، اِجلِس. 

ونادى عَمرٌو: ألا رَجلٌ! وهُوَ يُؤَنِّبُهُم ويَقولُ: أينَ جَنَّتُكُمُ الَّتي تَزعُمونَ أنَّهُ مَن قُتِلَ مِنكُم دَخَلَها؟ أفَلا يَبرُزُ إلَيَّ رَجُلٌ؟! 

فَقامَ عَلِيٌّ فَقالَ: أنَا يا رَسولَ الله.

فَقالَ: اِجلِس.

ثُمَّ نادَى الثّالِثَةَ وذَكَرَ شِعراً.

فَقامَ عَلِيٌّ فَقالَ: يا رَسولَ اللّـهِ، أَنا.

فَقالَ: إنَّهُ عَمرٌو!

قالَ: وإن كانَ عَمرٌو! فَأَذِنَ لَهُ رَسولُ الله.

كان هو المبادر لأيِّ مُشكِلة أو قضية اجتماعية، يبادر بالتصدي لها ولا يتهرّب من المسؤولية، ولا يطلُب من الآخرين أو ينتظرهم أن يقوموا بتلك المسؤولية وإنّما هو يُبادِر لها.

وفي أيام خلافته كان يخرج إلى الأسواق، ويعيش بين الناس، يبحث عن المشاكل حتى يتصدى لحلّها، ولا ينتظر أن تعرض عليه المشكلة.

روي أنّ سَعيدَ بنَ القَيسِ الهَمدانِيَّ رَأى عَليًّا يَوما في شِدَّةِ الحَرِّ في فِناءِ حائِطٍ، فَقالَ: يا أميرَ المُؤمِنينَ! بِهذِهِ السّاعَةِ؟

أي في هذا الحرّ الشديد وقت الظهر؟!

قالَ: ما خَرَجتُ إلّا لأعينَ مَظلوماً أو أغيثَ مَلهوفًا.

حينما يرى أيّ مشكلة يتصدى لحلّها، وإن كانت صغيرة قد يترفع بعض الناس عن الدخول فيها، لكنه لا يحقر من فعل الخير شيئاً، قولاً وعملاً.

مواقف ونماذج

روي أنّ قصّاباً كان يبيع اللحم لجارية، وكان يحيف عليها، فبكت وخرجت، فرأت عليًّا فشكته إليه، فمشى معها نحوه، ودعاه إلى الإنصاف في حقّها.

ووعظه بقوله: ينبغي أن يكون الضعيف عندك بمنزلة القوي، فلا تظلم الجارية[3] .

وروي أنّ أمير المؤمنين مرّ بأصحاب التمر فإذا جارية تبكي، 

فقال: يا جارية ما يبكيك؟ قالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به، فلم يرضوه، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله!

قال: يا عبدالله، إنّها خادم وليس لها أمر فأردد إليها درهمها وخذ التمر، فقام إليه الرجل فلكزه، (أي دفعه )!!

فقال الناس: هذا أمير المؤمنين، فاهتزّ الرجل واصفرّ، وأخذ التمر وردّ إليها درهمها، ثمّ قال يا أمير المؤمنين: اِرْضَ عنّي.

فقال : ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك، ووفيت الناس حقوقهم[4] .

وعن الإمام الباقر قال: رجع عليٌّ إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إنّ زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى عليَّ وحلف ليضربني.

فقال : يا أمّة الله، اصبري حتّى يبرد النهار ثمّ أذهب معك إن شاء الله، فقالت: يشتدّ غضبه وحرده عليّ.

فطأطأ رأسه ثمّ رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقّه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه (فوقف) فقال: السلام عليكم، فخرج شاب، فقال علي : يا عبدالله، اتّق الله فإنّك قد أخفتها وأخرجتها.

فقال الفتى: وما أنت وذاك والله لأحرقها لكلامك!

فقال أمير المؤمنين : آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر. تستقبلنـي بالمنكر وتنكر المعروف، فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فأسقط الرجل في يديه.

فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي، فوالله لأكون لها أرضاً تطأني.

فأغمد عليٌّ سيفه وقال: يا أمة الله، اُدخلي منزلك ولا تُلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه[5] .

والروايات كثيرة في هذا السّياق، مضمونها تأكيد هذه الظاهرة في حياة علي، وأنهُ كان يتصدى لحلّ مشاكِل الناس وقضاء حاجاتهم.

هذا هو الدرس المُهم الذي يجب أن نأخذه من هذه السيرة العطرة، أن يُبادر كلّ مؤمن للتصدي لحاجات أبناء مجتمعه وخدمتهم، خاصة في هذا العصر، فقد فرضت تطورات الحياة على الناس تحدّيات كثيرة، هناك مشاكل نفسية تنتشر، وضغوط اقتصاديه يعاني منها كثير من الناس، إضافة إلى وجود الخلافات والنزاعات العائلية والاجتماعية.

هناك حاجات تربوية ودينية، من يتصدّى لهذه التحديات ويواجه هذه المشكلات؟!

لا بُدّ وأن تنبري في المجتمع فئة خيرة يعتمد عليها وتسدُّ هذه الفراغات.

المؤسسات الاجتماعية الخيرية

بحمد الله تكونت في مجتمعنا مؤسسات متعددة، هناك جمعيات خيرية في كلّ مدينة وقرية، وأندية رياضية تستوعب الشباب، وتتيح لهم المجال لتصريف طاقاتهم، واستثمار أوقات فراغهم فيما ينفعهم ويبعدهم عن السلبيات والمضار. وهناك لجانٌ اجتماعية ودينية وثقافية، ونحن نفخر بأنّ مجتمعنا فيه مثل هذه المؤسسات، التي تتوفر على الإمكانات المالية، حيث تتوفر درجة من البذل والعطاء، صحيحٌ أننا نريد رفع هذا المستوى ونطالب بعطاءٍ أكبر، لكن لم تعُد المشكلة في مدى تجاوب الناس، أو في إتاحة الفرصة لعمل هذه المؤسسات،

بل تكمن المشكلة في توفر العنصر البشري الذي يتصدّى للإدارة.

زيارات ميدانية

وفقني الله تعالى في ليالي هذا الشهر الكريم (شهر رمضان1440هـ) لزيارة معظم الجمعيات الخيرية، والأندية الرياضية في المنطقة، واطلعت على أنشطتها، وسعدت بما رأيت.

كم يفرح الإنسان حينما يدخل أيّ نادٍ من الأندية الرياضية، فيرى عشرات بل مئات الشباب يمارسون الأنشطة الرياضية المختلفة.

أحد الأندية كان فيه وقت زيارتنا حوالي (400 إلى 600) شاب في مختلف الصالات، لو لم يكن هذا المكان يجمعهم، أين كانوا سيذهبون، وأين يُفرغون طاقتهم ونشاطهم؟!

وهكذا في كل جمعية ذهبنا إليها كنا نسمع شرحاً وإيضاحاً عن أنشطتهم المختلفة، لديهم آلاف العوائل والأيتام يرعونها، إضافة إلى الأنشطة المختلفة، من برامج التأهيل والتدريب.

إحدى الجمعيات لديها مركز للمكفوفين، وجمعية أخرى لديها مكان للمتعافين حيث تدير مؤسسة لإنقاذ المتورطين في المخدرات، كما أنّ معظم الجمعيات فيها أقسام لبرامج القرآن الكريم.

مهمة التصدي للإدارة

تقوم الجمعيات والأندية بدور كبير في مجتمعنا، لكنها تواجه تحدّيًا مهمًّا، وهو التصدي للإدارة، فالإقبال على مجالس الإدارة والترشح لتحمّل الأدوار القيادية ضعيف، وفي بعض الجمعيات والأندية يحين موعد انعقاد الجمعية العمومية ولم يتقدم عدد كافٍ للترشح لإدارتها!!.. لماذا هذا العزوف؟!

يوجد إقبال عام وتجاوب في جانب الدعم المالي، أو التعاون مع بعض الأنشطة، وهو أمر حسن، لكن المطلوب هو التصدّي للإدارة وقيادة هذه المؤسسات.

يتساءل الإنسان: أين كفاءات المجتمع وطاقاته؟!

الإدارة في كلّ مؤسسة هي الركن الأساس، فإذا كانت ذات مستوى عالٍ من الكفاءة والجدية، فإنها تستطيع الارتقاء بمستوى المؤسسة وتطويرها.

يفترض أن يتصدّى ذوو الكفاءة والمكانة الاجتماعية، لكنّ الشخصيات الاجتماعية ـ في الغالب ـ لا تتصدّى!

إما لأنها ترى نفسها أكبر من هذه الأدوار، وهنا يأتي قول عليٍّ : «وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ»، أو لعدم الرغبة في مواجهة المشاكل المترتبة على الإدارة من آمال وتوقعات الجمهور، لكن هذه المشكلات لا توازي الأجر العظيم والثواب الجزيل من قبل الله تعالى، وكذلك النتائج التي تعود على المجتمع من خلال هذه المؤسسات.

ونرى كيف أنّ كبار رجال الأعمال في المناطق الأخرى يتصدون لإدارة النوادي الرياضية، والجمعيات الخيرية.

إننا لا نستهين بأيِّ طاقة من الطاقات، فكلّ من يتصدّى للإدارة يستحق التقدير والثناء، لكن كلّما كان المتصدي أكثر كفاءة وأكثر نفوذاً استطاع أن يخدم المؤسسة وأن يرتقي بها أكثر.

البعض يتعذر بانشغالاته الكثيرة، لكنّ الجهد المبذول هو زكاة الوقت، ويصب في مصلحة المجتمع.

لا بُدّ أن ينبري أبناء المجتمع من أصحاب الكفاءات لهذه المواقع القيادية، 

لذلك أدعو المؤمنين الواعين الأكفاء من أبناء المجتمع، ألّا يبخلوا بأنفسهم، وأن يُرشحوا أنفسهم لهذه المواقع.

إذا كان المطلوب عشرة أعضاء لإدارة المجلس، فالمأمول أن يتقدم مئة، حتى تتوفر الخيارات المتعددة أمام الناس، وحتى يشيع الجوّ التنافسي في المبادرة لعمل الخير.

هذا ما نأمله ونتوقعه من المؤمنين الواعين، وإذا كنّا نجد إقبالاً على الأنشطة الدينية، كإقامة المجالس وهو أمرٌ محمود، وينبغي أن نشجع عليه، فإننا نريد أن نجد إقبالاً مشابهاً في الأعمال الاجتماعية، وإذا كان القصد هو الأجر والثواب، ومنفعة المجتمع، فهو في إدارة المؤسسات الاجتماعية متوفر، بل ربما يكون أكثر أهمية وأكثر ثواباً ونفعاً.

إنّ من أهم الدروس التي يجب أن نستوحيها من سيرة أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب هو أن نرفع في أنفسنا درجة الاستعداد والتصدي لإدارة المؤسسات والأنشطة الاجتماعية، فهي تمثل مكاسب كبيرة لمجتمعنا ولبلدنا، فلا ينبغي أن نفرّط فيها، ولا يجوز أن نخسرها، وأن نتركها تعاني من هذه المشكلات الإدارية والقيادية.

* خطبة الجمعة بتاريخ 19 رمضان 1440هـ الموافق 24 مايو 2019م.
[1]  نهج البلاغة، حكمة 422.
[2]  محمد بن جرير الطبرى. تاريخ الطبري، ج2، الطبعة الخامسة 1409هـ، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات)، ص63.
[3]  بحار الأنوار، ج٤١، ص٢٠٣.
[4]  بحار الأنوار، ج41، ص48.
[5]  بحار الأنوار، ج٤١، ص٥٧.