حتى لا تزول النعمة

 

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ»[1] .

يُغدق الله سبحانه وتعالى على الإنسان النعم، ليستمتع بها ويؤدي وظيفته ودوره في هذه الحياة، وفي الوقت ذاته فإنّ كلّ نعمة من النعم تشكل ميدان امتحان للإنسان، لاختبار لياقته وأهليته للتعامل مع النعمة.

هل يشكر النعمة؟ هل يحسن إدارتها، أم لا؟!

لذلك يقول تعالى على لسان نبيه سليمان : ﴿هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ.

نتائج شكر النعم

إذا وعى الإنسان هذه الحقيقة وأهَّل نفسه للتعامل السليم مع نعم الله وأحسن التصرف فيها، فإنه يحقق النتائج التالية:

أولاً: يستمتع بالنعمة ويستفيد منها بأفضل شكل وأصح طريق.

ثانياً: ينمّي النعمة؛ لأنّ النعمة بحسن التصرف والإدارة تنمو وتزداد، كما يقول الله تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[ سورة إبراهيم، الآية:7 ].

ثالثاً: ينال الأجر والثواب من قبل الله تعالى.

وعلى العكس من ذلك تكون نتائج سوء التعامل مع النعمة، إذا أساء الإنسان التعامل مع نعم الله عليه، فإنها تضيع من يده وتزول عنه، ويتعرض للحساب والعقاب الإلهي، وقد تتحول النعمة إلى نقمة إذا لم يحسن التعامل معها والتصرف فيها! 

نماذج من نعم الله

نستعرض بعض النماذج من أهم نعم الله تعالى على الإنسان، لنرى كيف يتعامل الإنسان معها.

النموذج الأول: نعمة الصحة

الصحة نعمة كبيرة من الله تعالى على الإنسان، بل هي من أهم النعم، كما ورد عن الإمام علي : ﴿الصِّحَّةُ أفْضَلُ النِّعَمِ؛ لأنها إذا فُقدت تتكدر سائر النعم على الإنسان، فلا يرتاح ولا يستلذ بها.

فالصحة في مختلف درجاتها ومستوياتها من أفضل النعم، وعلى الإنسان أن يستثمر صحته في الحركة والنشاط لعمل الخير وخدمة الحياة، وإفادة الناس، فهو الاستثمار الصحيح لنعمة الصحة، كما ينبغي على الإنسان أن يحافظ على صحته فلا يعبث بها.

كثير من الناس يعبثون بصحتهم بسبب الرغبة العاجلة الملحة، فيتناولون ما يضرهم أو يكثرون من الطعام والشراب!

صحيح أنّ الإنسان يستلذّ بما يأكل وما يشرب من الطعام اللذيذ، لكنه إن زاد عن حدّه تحول إلى ضرر، كما يقول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا لهذا وردت نصوص كثيرة تتفق مع نصائح الأطباء وتوعية الجهات الصحية. 

ورد عن علي : «مَنْ قَلَّ طَعامُهُ قَلَّتْ آلامُهُ»[2] .

وعنه : «مَن كَثُرَ أكلُه قَلَّت صَحَّتُهُ وَثَقُلَتْ عَلى نَفسِهِ مُؤنَتُه»[3] .

وعنه : «لا تَجْتَمِعُ الصِّحَّةُ وَالنَّهَمُ»[4] .

النهم يعني كثرة الأكل، والإفراط في الطعام والشراب، وهو لا يجتمع مع الصحة، فإذا تساهل الإنسان في صحته، وأفرط في الطعام والشراب كما في بعض المناسبات، في أيام الأعياد يجد الإنسان إغراءات الطعام والشراب، بالألوان البراقة والروائح الجاذبة، والأساليب المنمقة، أو يكون مدعواً إلى وليمة حيث الطعام مجاناً، فيراها فرصة لا تعوض!

لكنه في الواقع يعبث بصحته ويعرّض نفسه للأمراض والأسقام.

وهنا يقول الإمام علي : «احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ» نِفار مأخوذ من نفار الدابة التي تنفر وتفرّ، «فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ» إذا نفرت الصحة وشردت من الإنسان فإنه لا يضمن عودتها!

من يصاب بمرض السكري أو ارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب، هل يضمن حصول الشفاء؟!

إذا نفرت منه نعمة الصحة، في أيّ درجة من درجاتها، يبدأ مرحلة البحث عن علاج، وغاية ما توصل إليه العلماء والأطباء في كثير من هذه الأمراض محاصرة المرض، يجعلون المرض ضمن مستوى معيّن، بحيث يتمكن المريض أن يتعايش مع المرض، لكن في الغالب لا تعود الصحة إلى ما كانت عليه.

النموذج الثاني: نعمة المال والثروة 

المال والثروة نعمة من الله تعالى على الإنسان، من أجل أن يستفيد منها، وأن يبذلها في أمور الخير ومساعدة الناس، فإذا أحسن الإنسان التصرف في المال واستثمره ونمّاه بالشكل السليم، فإنّ الله يبارك له في رزقه.

أما إذا أساء التعامل مع نعمة المال، بخل به أو أسرف وبذر، أو صرفه في غير وجوهه، ولم يحسن إدارته بالشكل الصحيح، فإنّ هذه الثروة تتبخر وتحصل حالات كثيرة، أنّ أشخاصًا بعد أن تكون لديهم الثروة والإمكانات يفقدون ذلك بسوء التصرف وسوء التعامل ورد عن الإمام الصادق : «ضَمِنْتُ لِمَنِ اقْتَصَدَ أَنْ لا يَفْتَقِرَ»[5] .

وعن الإمام الكاظم : «مَنِ اقتَصَدَ وقَنَعَ بَقِيَت عَلَيهِ النِّعمَةُ، ومَن بَذَّرَ وأسرَفَ زالَت عَنهُ النِّعمَةُ»[6] .

ومن حسن التصرف في المال الموجب لنمائه وزيادته، الإنفاق والبذل للفقراء والمحتاجين وفي وجوه الخير عامة، ورد في الحديث عن الإمام علي : «مَنْ كَثُرَتْ نِعْمَةُ نِعَمُ اَللهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ اَلنَّاسِ إِلَيْهِ فَمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ للهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَةَ اَلله لِدَوَامِهَا وَمَنْ ضَيَّعَ مَا يَجِبُ لِلهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَتَهُ لِزَوَالِهَا»[7] . 

النموذج الثالث: نعمة الأمن

حينما يعيش الناس الأمن والاستقرار، فإنهم يحظون بنعمة كبرى، تمكنهم من ممارسة حياتهم الطبيعية، ولا يدرك الإنسان قيمة نعمة الأمن، إلّا حينما يفقدها، أو يرى من فقدها.

ورد عن رسول الله أنه قال: «نِعمَتانِ مَكفورَتانِ: الأمنُ والعافِيَةُ»[8] .

وعن الإمام علي : «إنَّما يُعْرَفُ قَدْرُ النِّعَمِ بِمُقاساةِ ضِدِّها»[9] .

لقد رأينا كيف أنّ بعض الشعوب والمجتمعات، كانوا يعيشون الأمن والاستقرار، يقصد السياح بلدانهم، وحينما عبثوا بهذه النعمة لأسباب داخلية وتدخلات خارجية، دخلوا في أتون الحروب والفتن والصراعات، فتحولت بلدانهم إلى جحيم لا يطاق، فقد الألوف حياتهم، وتعرض عشرات الآلاف لإصابات معيقة، وتشرّد الملايين من بيوتهم، وفروا من أوطانهم، وحلّ بالبلاد الدمار والخراب.

على الإنسان أن يدرك ويقدّر ما حباه الله به من نعم، ويحسن مجاورتها، كما في الحديث عن رسول الله : «أَحْسِنُوا مُجَاوَرَةَ النِّعَمِ، لَا تَمَلُّوهَا، وَلَا تُنَفِّرُوهَا، فَإِنَّهَا قَلَّ مَا نَفَرَتْ مِنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ»[10] .

عندما تنفر نعمة الأمن والاستقرار من بلد، فربما تحتاج إلى عقود من الزمن كي تعود!!

لذلك على الإنسان أن يكون حريصًا على حسن التعامل مع كلّ نعمة من نعم الله تعالى عليه.

* خطبة الجمعة بتاريخ 4 شوال 1440هـ الموافق 7 يونيو 2019م.
[1]  نهج البلاغة، حكمة 246.
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[3]  عيون الحكم والمواعظ، ص434.
[4]  المصدر نفسه، ص٥٣٣، حديث ٩٧٣٥.
[5]  من لا يحضره الفقيه، ج٢، ص٦٤.
[6]  بحار الأنوار، ج٧٥، ص٣٢٧.
[7]  نهج البلاغة، خطبة 372.
[8]  بحار الأنوار، ج٧٨، ص١٧٠.
[9]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[10]  مستدرك الوسائل، ج١٢، ص٣٦٩.