الآفاق المعرفية للسياحة والسفر

 

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[سورة الحج، الآية: 46].

أصبحت حركة السياحة والسفر جزءا من حياة كثير من الناس في الزمن الحاضر، حيث توفرت وسائل المواصلات الحديثة، وأصبح بإمكان الإنسان أن يقطع آلاف الكيلومترات في وقت قصير، بخلاف الماضي، إذا كان السفر يستلزم جهدًا كبيرًا، حيث يقطع المسافر الفيافي المقفرة، أو يركب عباب البحر بسفن لم تكن مهيأة، فيتعرض في سفره إلى مختلف المخاطر!!

تطور المواصلات عبر التاريخ

في سنة 6000 قبل الميلاد، كانت أسرع وسيلة نقل للمدى البعيد هي الجمال، بمتوسط 8 أميال في الساعة، وظلّ هذا المستوى (4400 سنة) إلى حوالي (1600 سنة قبل الميلاد) حين اخترع الإنسان العربة ذات العجلات، وارتفع معدل السرعة إلى حوالي (20 ميلاً في الساعة)، وبقي هذا المستوى آلاف السنين.

وفي الثمانينيات من القرن الماضي، وبفضل القاطرات البخارية المتطورة، استطاع الإنسان أن يصل إلى سرعة (100 ميلٍ في الساعة)، أي بعد (3400 سنة)

لكنه بعد (58 عاماً) على استخدام القاطرات البخارية، استطاع في (سنة 1938م) أن يطير بسرعة (400 ميلٍ في الساعة)، أي أربعة أضعاف المستوى السابق.

وبعد عشرين عاماً، في الستينيات من القرن الماضي وصلت سرعة الطائرات الصاروخية إلى (4000 ميلٍ في الساعة)، واستطاع الإنسان أن يدور حول الأرض في كبسولات الفضاء التي تسير بسرعة (18000 ميل في الساعة).

وهناك عوامل أخرى ساعدت على زيادة حركة السياحة والسفر، فقد أصبحت الطرق آمنة، كما توفرت القدرة المالية عند كثير من الناس، ففي الماضي لا يتوفر لمعظم الأفراد الإمكانات والقدرة المالية الكافية للسفر، بل حتى الفريضة الواجبة وهي الحج لا يتمكن منها إلا عدد محدود! 

فإذا أدى أحدهم فريضة الحج حجز له لقب (الحاج)، حيث كان لقباً مميزاً؛ لأنّ الذين يذهبون للحج أعداد قليلة، أما الآن فقد أصبح أفراد بعض المجتمعات كلهم حجاجاً.

كما أنّ فائض الوقت توفر عند الناس، ففي الماضي كان تحصيل لقمة العيش يستلزم العمل كلّ أيام السنة، بلا إجازة!

أما الآن فقد فرضت لوائح وقوانين العمل نظام الإجازات، فهناك عطلة نهاية الأسبوع، والعطلة الصيفية، والإجازات السنوية، بما يتيح للإنسان مجال السفر والسياحة دون أن يتعارض ذلك مع عمله ووظيفته.

اليوم العالمي للسياحة

قررت منظمة السياحة العالمية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة تعيين اليوم الدولي للسياحة في دورتها الثالثة المنعقدة في إسبانيا، أيلول/ سبتمبر 1979، بداية من عام 1980.

وقد اختير هذا التاريخ ليتزامن مع الذكرى السنوية لاعتماد النظام الأساسي لمنظمة السياحة العالمية في 27 سبتمبر 1970.

والغرض من الاحتفال بهذا اليوم زيادة وعي المجتمع الدولي بأهمية السياحة وقيمتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، كما يهدف إلى التصدي للتحديات العالمية للأهداف الإنمائية، وتسليط الضوء على المساهمة التي يمكن أن تقدمها صناعة السياحة لبلوغ هذه الأهداف.

وفي كلّ عام يصدر الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية رسالة للاحتفال بهذه المناسبة كما ويرأس الاحتفالات الرسمية

في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2015، عيّنت الجمعية العامة في أثناء دورتها السبعين، عام 2017 بوصفه السنة الدولية للسياحة المستدامة لأجل التنمية، وشجعت الجمعية العامة في ذلك القرار جميع الدول، ومنظومة الأمم المتحدة، وجميع العناصر الفاعلة الأخرى، على الاستفادة من السنة الدولية، لتشجيع اتخاذ الإجراءات على جميع المستويات، وللنهوض بدور السياحة المستدامة وسيلة للنهوض بالتنمية المستدامة وتسريع وتيرتها، ولا سيما القضاء على الفقر.

وقفات مهمة مع السياحة والسفر

لا شك أنّ السياحة تمثل فرصة للترفيه عن النفس، وخاصة على المستوى العائلي، فينبغي للإنسان أن يوسع على عياله ويوفر لهم الوسائل والبرامج التي تريحهم، وتدخل البهجة والسرور على نفوسهم، وقد وردت نصوص كثيرة حول التوسعة على العيال، منها ما ورد عن الإمام علي بن الحسين : «أَرْضَاكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَسْبَغُكُمْ عَلى عِيَالِهِ»[1] .

ونشير هنا إلى نقاط مهمة ينبغي أخذها بعين الاعتبار:

أولاً: مراعاة الظروف والأولويات

أحياناً يصبح السفر مجالاً للتباهي، بين الأصدقاء، وبين العوائل والأقارب!

خصوصاً مع توفر وسائل التواصل الاجتماعي، وإرسال أحداث السفر لحظة بلحظة، مما يؤدي إلى المقارنات الضاغطة على الآباء، وتتكرر عبارات (الكلّ سافر، فلماذا لا نسافر؟!!)

فمن غير المناسب أن يضغط الإنسان على نفسه، ويخالف الأولويات التي تفرض نفسها عليه، أو يتخلى عن توفير الحاجات الضرورية لحياته من أجل السفر.

إذا كان الترفيه عن العيال أمرًا محبّذاً ومطلوباً فإنّ مراعاة الأولويات وعدم الوقوع في مزالق الاقتراض أهم وأولى.

والله تعالى يقول: ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا

﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[سورة الطلاق، الآية:7 ].

ثانياً: مراعاة الأحكام الشرعية والأخلاق الدينية

ينبغي للإنسان أن يهتم بمراعاة الأحكام الشرعية والأخلاق الدينية، فالبعض يتقيد في بالأحكام ما دام بين أهله ومعارفه، فإذا سافر تخلى عن الالتزام، حيث لا يعرفه أحد!

وهذا خطأ كبير؛ لأنّ الالتزام بالأحكام والآداب ينبغي أن يكون سلوكا دائمًا في حياة الإنسان المؤمن، كما أنّ عليه أن يكون خير سفير لمجتمعه ودينه في أخلاقه وفي التزامه وكسبه المعرفي.

ووسائل معرفة الأحكام الشرعية والضوابط الدينية حال السفر متوفرة، فعلى الإنسان أن يجنب عياله وأبناءه الأجواء المنحرفة والأوضاع غير المناسبة.

ثالثاً: الاهتمام بالأفق المعرفي للسياحة

إلى جانب الترفيه عن النفس، هناك أفق آخر للسياحة، يتمثل في التعرف على تاريخ الأمم، وثقافة الشعوب، وأوضاع المجتمعات، وهذا ما تؤكد عليه آيات كثيرة في القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[سورة الحج، الآية:٤٦].

إننا نلاحظ كيف أنّ السيّاح الغربيين ـ في الغالب ـ يهتمون بالتعرف والاطلاع على معالم البلدان التي يزورونها، ويصرفون وقتًا في المتاحف، ويهتمون بالسؤال عن تفاصيل ما يشاهدون، ويدونون ويكتبون ما يرون ويسمعون.

بينما يكتفي أغلب السائحين من مجتمعاتنا بإلقاء النظرة العابرة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التأمل وتدقيق النظر، فضلاً عن الكتابة والتدوين!.

يصرفون جلّ الوقت والاهتمام في الترفيه والمطاعم والأسواق، فلا يعودون من سفرهم بحصيلة معرفية واستفادة ثقافية!

حينما تسافر استخدم فكرك واجعل سياحتك سببًا لكسب المعارف، في آرائك وفي سلوكك، وحين يقول الله تعالى: (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) القلب هنا بمعنى العقل، أي فتكون لهم عقول يستخدمونها، وأن تسمع من الآخرين عن ثقافتهم، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) الإنسان يبصر ويرى ما حوله، لكن هذا وحده لا يكفي، فلا بُدّ من التفكر والتأمل للاستفادة مما نرى من البلدان والمجتمعات التي نزورها.

على الإنسان أن يثري معرفته ويستفيد من تجارب المجتمعات والشعوب الأخرى، فالتعارف هدف إلهي قرآني، بأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [سورة الحجرات، الآية: 13].

فأنت حينما تسافر إلى بلد حاول أن تستفيد معرفة بالاطلاع على الثقافة السائدة، في المجتمع هناك، على النقاط الإيجابية والتنمية الموجودة عندهم، لتستفيد منها في حياتك، هذا ما ينبغي أن يفكر فيه كلّ سائح.

السياحة الدينية 

ينبغي الاهتمام بالبعد المعرفي في السياحة الدينية، كالحج والعمرة، وزيارة المراقد المشرفة، إلى جانب البعد العبادي، فيتعرف الإنسان على الآثار الدينية التاريخية، وعلى الرموز والشعائر، ليكون تعظيمه لها منطلقًا من الوعي والمعرفة وليس مجرّد ممارسة طقوسية.

سئل الإمام الصادق عن علة الحج فقال: «جعل فيهِ الاِجتِماعَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ لِيَتَعارَفوا، ولِيَتَرَبَّحَ كُلُّ قَومٍ مِنَ التِّجاراتِ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، ولِيَنتَفِعَ بِذلِكَ المُكاري والجَمّالُ، ولِتُعرَفَ آثارُ رَسولِ اللّه وتُعرَفَ أخبارُهُ، ويُذكَرَ ولا يُنسى»[2] .

عندما تزور المدينة المنورة لا تكتفِ بالصلاة في المسجد والزيارة، بل تعرف على الآثار والمعالم التأريخية، وطبيعة الوضع في عهد الرسالة بالمقدار الممكن، وهكذا حينما تزور مقام أيّ إمام من الأئمة.

وعلى سبيل المثال إذا زرت مدينة قم وزرت السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه وعليها السلام تساءل مع نفسك: هل تعرف عن حياتها شيئاً؟!

كيف جاءت إلى قم؟ وما هي سمات شخصيتها وآفاق سيرتها التي أوجبت لها هذه المكانة الخالدة؟

ينبغي للإنسان أن يركز على الجانب المعرفي، لذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ أَتى قَبْرَ أَبِي عَبْدِاللهِ عليه السلام عَارِفاً بِحَقِّهِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»[3] .

إشارة إلى الجانب المعرفي، وهكذا في أيّ رحلة سياحية، على الإنسان ألّا يعود خالي الوفاض لا يعرف شيئًا عن ذلك المجتمع.

تجربة رائدة

أشيد هنا بالتجربة الجميلة الرائعة التي قام بها أحد أبناء القطيف الواعين وهو الأستاذ محمد حسن الدرازي، حيث استفاد من رحلاته الى أوزبكستان، في الانفتاح على ثقافتهم، وأوضاعهم الاجتماعية وتقاليدهم، وكوّن علاقات وصداقات إنسانية، وألف كتابًا بعنوان: (عبر طريق الحرير.. أوزبكستان).

يقع في أكثر من 500 صفحة، وهو كتاب ممتع مفيد يستحق الاقتناء والقراءة.

والحقيقة أنّ أدب الرحلات في ثقافتنا المحلية (في القطيف والأحساء) قليل نادر.

وهذا إنجاز مميّز وعلى كلّ إنسان أن يستفيد من مثل هذه التجربة.

* خطبة الجمعة بتاريخ 11 شوال 1440هـ الموافق 14 يونيو 2019م.
[1]  الكافي، ج 7، ص230، حديث1.
[2]  بحار الأنوار، ج٩٦، ص٣٣.
[3]  الكافي، ج٤، ص٥٨٢.