الحاج كاظم عبدالحسين: وعي وبصيرة

 

حقاً إن شخصية الفقيد الراحل الحاج كاظم عبدالحسين أنموذج للشخصية الواعية التي تفهم الدين وتمارسه بوعي وصدق وإخلاص، تغمده الله بواسع الرحمة والرضوان، وأعلى مقامه في الجنان، ووفق أبناءه الكرام وزملاءه الأخيار لمواصلة مسيرته ودربه في خدمة الإسلام والأمة..

امتاز الفقيد الراحل الحاج كاظم عبدالحسين على معظم أقرانه من المتدينين ببصيرته ووعيه الديني.

كان قريبا من أوساط علماء الدين، والمثقفين الدينيين، والناشطين في المجال الديني، والمهتمين بأعلى درجات الالتزام بالأحكام الشرعية، ورغم أنه لم يكن من طلبة العلوم الدينية، ولا المنشغلين بالعمل الفكري والثقافي، لكنه كان ذا بصيرة ووعي ديني متقدم على كثير من المنتمين لتلك الشرائح المذكورة.

فهو لم يكن معنياً بمراكمة المعلومات والمعارف الدينية في ذهنه، بل كان مهتماً بوعي ما يكسبه ويدركه من قضايا الدين ومسائله التي تتصل بحركة حياته ونشاطه الاجتماعي.

إن غالب المتدينين يتلقى المسائل الدينية من حضرات العلماء وأفواه الخطباء بالقبول والتسليم، دون أن يصرف جهداً للتدقيق في فهم المسألة، أو التأكد من صحتها، أو جهة صدورها، أو وجود رأي آخر حـولها.

وهنا قد لا يكون الطرح للمسألة دقيقاً، أو تطرح ضمن توظيف خطأ، أو أنها تعبّر عن رأي واجتهاد معين، تقابله اجتهادات أخرى، قد تكون أرجح وأصلح.

وقد لا يهتم كثير من المتدينين عند تلقيهم للمسائل الدينية، بالتفكير في مقاصد الاحكام الشرعية وتوخي تحقيقها في الواقع الاجتماعي. وفي تشخيص ظروف التطبيق وصيغ الممارسة والتنفيذ.

ومما يغيب عن معظم المتدينين إدراك الأولويات وموقع كل مسألة من منظومة المعارف الدينية والمقاصد الشرعية. فيجري التعامل مع كل مسألة دون النظر إلى المسائل الأخرى، والتزاحم فيما بينها، واولوية بعضها على بعض مع تفاوت الأحوال والظروف والمناخات الاجتماعية.

لذلك أكدت النصوص الدينية على أهمية الوعي في معرفة وتناول المسائل الدينية، وأن مستوى تعقل الإنسان ووعيه أهم من كمية معلوماته، أو كثرة عباداته.

فقد جاء في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ، قَال : « قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ ، كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَلَا تُبَاهُوا بِهِ حَتّى تَنْظُرُوا كَيْفَ عَقْلُهُ»

وفي نهج البلاغة عن علي : «اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»

وورد عن الإمام الباقر : «اِعرِفْ مَنازِلَ الشّيعَةِ عَلى قَدرِ رِوايَتِهِم ومَعرِفَتِهِم؛ فإنَّ المَعرِفَةَ هِيَ الدِّرايَةُ لِلرِّوايَةِ»كاظم عبدالحسين

لقد لفت نظري في شخصية الحاج كاظم عبدالحسين (رحمه الله) اهتمامه بوعي القضايا والمسائل الدينية، على المستوى النظري، وعلى صعيد الممارسة والتطبيق العملي، ويمكنني ان أذكر بعض الشواهد لهذا التميز في شخصيته المباركة:

1/ البحث: رأيته في عدد من الموارد حين يسمع مسألة أو فكرة تهمه من عالم، أو خطيب، أو مثقف، لا يمر عليها مرور الكرام، ولا يتلقاها فوراً بإذعانٍ وتسليم، أو يواجهها برفض وامتعاض، وإنما يناقش من طرحها ليستفهم منه ما يريد بدقة، ويسأله عن دليله ومدركه بحدود ما يمكنه استيعابه. وأن ما طرحه هل هو محل وفاق بين العلماء، أو أن هناك آراء أخرى؟

 2/ تمييز المدارس: كان يميّز توجهات العلماء والخطباء والمثقفين حين ينتمون إلى مدارس مختلفة، ولذلك ينظر إلى آرائهم أنها تأتي ضمن المباني التي تتبناها مدارسهم وتوجهاتهم.

واذكر في بعض المجالس أن أحد الحاضرين نقل فكرة عن أحد العلماء كانت محل نقاش، فعقب -رحمه الله - على ذلك مشيراً إلى أن هذه الفكرة تنسجم مع التوجه والمدرسة التي ينتمي إليها هذا العالم، وهذا ما يتوافق مع التعبير الحوزوي أن «هناك اختلافاً مبنائي».

 3/ التواصل لحل الإشكالات: في المسائل التي تثير بعض الحرج والاشكالات في الطرح والتطبيق، كان يتواصل مع المراجع والعلماء، لإيجاد مخارج وخيارات أكثرَ تناسباً مع متطلبات الواقع والمصلحة العامة. ولأنه كان محل ثقة واعتماد عند معظم المرجعيات الدينية كانت تتم بواسطته معالجات لبعض المسائل والاشكالات.

 4/ دعم الإصلاح: كان يحمل همّ دعم التوجهات الإصلاحية في الساحة الدينية، ادراكاً منه لأهمية التغيير والتطوير، وضرورة الاستجابة للتحديات المعاصرة التي تواجه الفكر والمجتمع الديني.

وهذا الموقف كان يكلفه ثمناً كبيراً من سمعته ومكانته، في بعض الأحيان، بسبب الصراعات والخلافات القائمة في الساحة الدينية والاجتماعية، إلا أنه كان مستعداً لدفع تلك الاثمان، ولتحمل المسؤولية التي يفرضها عليه وعيه واخلاصه لخدمة الدين والأمة.

5/ الاستقلالية: مع الاحترام الكبير الذي يبديه لمختلف العلماء، ودعمه ومساعدته لهم، ومع اخلاصه وقربه من عدد من المراجع العظام، حيث كان يحمل وكالات عنهم، ويتواصل معهم، إلا أنه في مواقفه وتشخيصه للموضوعات الخارجية كان صاحب رأي مستقل، لأنه يعرف أن محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، أما القضايا الفكرية، والأمور الاجتماعية العرفية، وتحديد الموضوعات الصرفة، فهذا ما يحق للمكلف أن يعمل فيه فكره ورأيه.

وكان يدرك طبيعة الأجواء والمعادلات السائدة في الساحة الدينية، ويفصل بين المسألة الدينية، وما يرتبط بالجوانب الشخصانية والفئوية.

 6/ نشاطه العملي: من أهم تجليات وعيه وبصيرته نشاطه العملي المكثّف في نشر الوعي والثقافة الهادفة، بتأسيس المؤسسات المهتمة بإنتاج المعرفة الدينية بأسلوب عصري ولغة حديثة، بدءاً من دار التوحيد التي قامت بنشر أكثر من 300 كتاب، طبعت بما يزيد على أربعة عشر مليون نسخة، بخمسة وعشرين لغة، ووزعت مجانا في أكثر من 130 بلدا، وانتهاءً بدار الزهراء عليها السلام ونشاطها الثقافي والاجتماعي الواسع.

إضافة إلى عدد كبير من المؤسسات الدينية والتربوية التي أسسها ورعاها ودعمها في مختلف أنحاء العالم.

فقبل أكثر من نصف قرن من الزمن، وحين كان اهتمام معظم المتدينين منحصراً في البرامج الدينية التقليدية في المساجد والحسينيات، كان الحاج كاظم عبدالحسين متميزاً في اهتمامه بنشر الثقافة والوعي، والتوجه إلى جيل الشباب، ومعالجة القضايا والتحديات التي يعيشونها.

حقاً إن شخصية الفقيد الراحل الحاج كاظم عبدالحسين أنموذج للشخصية الواعية التي تفهم الدين وتمارسه بوعي وصدق وإخلاص، تغمده الله بواسع الرحمة والرضوان، وأعلى مقامه في الجنان، ووفق أبناءه الكرام وزملاءه الأخيار لمواصلة مسيرته ودربه في خدمة الإسلام والأمة.

 والحمد لله رب العالمين

فاتحة الحاج كاظم عبدالحسين

نشر في كتاب رجل المهمات النبيلة والجليلة، للكاتب عادل القاضي، ص177