استغلال الأحكام والقوانين

 

ورد بسند صحيح عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق قال: «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ، وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّار»[1] .

الغرض من أحكام الشرائع والقوانين في الحياة الاجتماعية هو تحقيق العدل، ومنع ظلم الناس بعضهم لبعض، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.

لكنّ هذه الأحكام والقوانين تتأثر في تطبيقها بالطبيعة البشرية، فبعض بني البشر قد يستغلّون الأحكام والقوانين في ممارسة الجور والظلم، مهما كانت إجراءات تطبيق العدالة صارمة نزيهة.

ولا تملك جهات تطبيق العدالة إلّا الوسائل الظاهرية، والآليات الطبيعية المعتمدة، لإثبات القضايا، وإصدار الأحكام والقوانين، وحين يتم إخفاء الحقائق، واستخدام أساليب المغالطة والتزوير، فقد يضيع الحقّ، ويصبح حكم الشّرع والقانون في صالح الظالم الجائر.

وهذا ما يشير اليه الحديث النبوي، الوارد عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق قال: «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ، وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّار»[2] ، وهو حديث صيح السند عند الشيعة، وورد بمضمونه في صحاح السنة ومسانيدهم.

القضاء النبوي

حينما يقضي النبي في خصومة ونزاع، فإنه يعتمد وسائل الإثبات الظاهرية المقرّرة شرعًا، ولا يقضي بناءً على علم من الغيب، «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ» فالبيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، وهذا ما اتّفقت عليه الشّرائع قديمها وحديثها الوضعية والسّماوية.

ثم يشير إلى إمكانية المغالطة والتزوير «وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» أي أفطن لها وأجدل، واللحن: الفطنة - بفتح الحاء- واللحن- بجزم الحاء- : الخطأ. فيحكم الرسول لصالحه.

وفي بعض صيغ الحديث كما في صحيح البخاري عن أم سلمة «فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ»[3] .

الرّهان على الوازع الدّيني

وهنا يبقى الرّهان على إثارة الوازع الدّيني، وإيقاظ الضّمير في نفس الإنسان، ليتراجع عن ظلمه، فالحكم الذي صدر لصالحه، لا يغيِّر الحقيقة والواقع، ولا يصيِّر الباطل حقًّا، والحرام حلالًا. وهذا ما عناه رسول الله بقوله: «فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّار». حتى لو أنّ الحكم لصالحك قد صدر من رسول الله ، وأنت تعلم أنّ الحقّ ليس لك، فإنه يكون حرامًا عليك. وضميرك يحكم بإدانتك، وفي الآخرة ستواجه حكم الله تعالى وعقابه الأليم، وكما يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ والمرصاد من الرصد، ورد عن الإمام الصادق : «اَلْمِرْصَادُ: قَنْطَرَةٌ عَلَى اَلصِّرَاطِ، لاَ يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ عَبْدٍ»[4] .

من مظاهر استغلال الأحكام الشّرعية

إنّ بعض الناس قد يستغلّ حكمًا شرعيًّا ليبرر به لنفسه ممارسته الظلم، فمثلًا يستغلّ حكم الولاية له على ابنته فيعضل زواجها بمن ترغب دون مبرر صحيح. أو يستغلّ حكم أنّ الطلاق بيده ليبتزَّ زوجته الكارهة له.

ونجد في هذه الأيام كثرة الخصومات وشدتها في الخلافات العائلية حيث تتفنّن بعض الزوجات في استغلال الأحكام والقوانين ضدّ أزواجهنّ، وخاصّة في قضايا الخلع والنفقة، وحضانة الأولاد، حتى تحوّل حياة طليقها إلى جحيم، انتقامًا وتشفيًا.

كما أنّ بعض الأزواج يُمعن في إيذاء زوجته أو طليقته، فيطلقها رسميًّا، ويمتنع عن إيقاع الطلاق الشّرعي وفق مذهبه، ليتركها معلّقة، أو يطلب مقابل ذلك مبالغ مالية باهظة.

ويؤدي بعض الوكلاء والمحامين دورًا سيئًا على هذا الصّعيد، بفتح أبواب المطالبات والدّعاوى الكيدية أمام كلا الزوجين، ليجنوا من ذلك أرباحًا على حساب آلام الآخرين وشقائهم.

وما يجب أن يعرفه كلٌّ من الزوج والزوجة أنّ ما يأخذه بغير حقٍّ من الطرف الآخر، هو قطعة من النار، وإن حكمت له به المحكمة الشرعية، كما نصّ على ذلك رسول الله .

الحذر من تسويلات النفس وخداع الشّيطان

وقد نجد في أوساط بعض المتديّنين من يمارس الظلم والعدوان ضدّ من يخالفه في الرأي، أو ينافسه في المصلحة والنفوذ، بمبرر مواجهة البدعة والمبتدعين، حيث يعتبر ما يخالف رأيه بدعة، وما يعارض مصلحته انحرافًا عن الدين.

على الإنسان أن يحذر من خداع الشّيطان له، ومن تسويلات نفسه، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي. وعليه أن يعود لوجدانه وضميره، وأن يتذكر وقوفه بين يدي الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‎*‏ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا.

وعنه «اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ»[5] .

وعندما سئل رسول الله عن أصعب العقبات يوم القيامة، أجاب : «الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا تَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ»[6] .

 

خطبة الجمعة ١٧ رجب 1443هـ الموافق ١٨ فبراير 2022م.

[1] الكافي، ج7، ص414.
[2] الكافي، ج7، ص414.
[3] صحيح البخاري: حديث 7185.
[4] بحار الأنوار، ج72، ص323.
[5] صحيح مسلم، ح2578.
[6] كنز العمال، ح8862.