كيف نسرّ أهل البيت (ع)؟

 

أورد الشيخ الأقدم ابن شعبة الحراني في تحف العقول عن الإمام الحسن العسكري أنه قال في وصية وجهها لأتباعه وشيعته: «فَإِنَّ اَلرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ وَصَدَقَ فِي حَدِيثِهِ وَأَدَّى اَلْأَمَانَةَ - وَحَسَّنَ خُلُقَهُ مَعَ اَلنَّاسِ قِيلَ هَذَا شِيعِيٌّ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، اِتَّقُوا اَللَّهَ وَكُونُوا زَيْنًا وَلاَ تَكُونُوا شَيْنًا جُرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ وَاِدْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ»[1] .

الإمام الحسن العسكري عاش كآبائه الطاهرين حياة صعبة قاسية، ولعلّ الصّعوبة في حياته أشدّ من حياة آبائه وأجداده في بعض الجوانب والظروف.

ومن ذلك قصر عمره الشريف، فولادته كانت سنة 232 هـ، وشهادته سنة 260 هـ، مما يعني أنّ عمره كان 28 سنة فقط، فهو وجدّه الإمام الجواد من أقصر الأئمة عمرًا، فقد استشهد الإمام الجواد وعمره 25 سنة، وهذا مما يدعم القول بأنّ رحيلهما عن الدنيا لم يكن بشكل طبيعي، وإنّما بعامل الاغتيال والقضاء على حياتهما بالسّم، وإن كانت الآجال بيده سبحانه، خصوصًا مع ملاحظة الظروف والأجواء التي كان الأئمة يعيشونها في ظلّ السّلطة المناوئة لهم.

وبالإضافة إلى قصر عمر الإمام العسكري فإنه عاش حالة الحصار طوال حياته، وهذا أمر لم يعانه آباؤه بمثل ما عاناه، فبعض الأئمة كانت تتاح لهم بعض الفرصة بحيث لا يكون فيها تحت رقابة السّلطة، كأن تكون حياته في بدايتها بعيدة عن مركز السّلطة، فيكون في المدينة مثلاً والخليفة في بغداد أو دمشق، لكن الإمام العسكري عاش حالة لحصار والرقابة المشدّدة من صغره.

فحينما رُحِّلَ مع أبيه الإمام الهادي بأمر المتوكّل العباسي من المدينة إلى سامراء (سُرَّ مَن رأى) كان عمره سنتين أو أربع سنوات فقط، وكانت المنطقة التي أُسكنوا فيها منطقة الجيش والجند، ولذلك كانت تسمّى (عسكر)، ومَنْ يقيم فيها يسمى (عسكري)؛ نسبة إلى هذه المنطقة، ولذلك أطلق على الإمام هذا اللقب.

وفي سامرّاء لم يكن هناك جمهور الأمة ولا نخبتها العلمية من الذين قد يختلط بهم الإمام، أو يلتفّون حوله، ويتعاطفون معه، بل كانت عاصمة الدولة آنذاك، فكان سكّانها الحاكم مع جنوده وحاشيته والمقربين إليه.

وقد أبقى الخليفة العباسي الإمام الهادي وابنه العسكري فيها وشدّد عليهما الرقابة، وبقي الإمام العسكري فيها إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.

لذلك يمكننا أن نتصوّر صعوبة الظروف التي قاساها الإمام، لدرجة أنّ بعض الروايات التاريخية تنقل أنّ الإمام كان مفروضًا عليه أن يحضر إلى ديوان الحاكم مرّتين في الأسبوع ليثبت تواجده وحضوره.

وهذا كلّه يبيّن أن الفرصة في أن يلتقي الإمام بالناس كانت ضعيفة، والفرصة الوحيدة كانت حينما يكون الإمام في الطريق عندما يخرج لبعض شؤونه أو إلى قصر الخليفة، وإلّا فإنّ التردّد على الإمام وزيارته كانت محفوفة بالمخاطر.

وحتى اللقاء به في الطرقات العامّة لم يكن آمنًا دائمًا، وهذا ما نستشفّه من رواية تنقل عنه أنه كتب إلى بعض شيعته يقول لهم: «أَلَا لَا يُسَلِّمَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيَّ بِيَدِهِ، وَلَا يُومِئُ أَحَدُكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»[2] .

وورد عنه أنه قال: «مَا مُنِيَ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي بِمِثْلِ مَا مُنِيتُ بِهِ»[3] .

ورغم هذه الظروف الصّعبة القاسية، كان الإمام يبذل جهده في نشر معارف الدين، وتوجيه الأمة، وقد أحصى المؤرخون والباحثون عدد الرواة عنه فبلغوا (149) رجلًا حدّثوا عنه أحاديثَ بلا واسطة، وأثبتَها المحدّثون.

كما تناقل العلماء بعض ما أفاض به الإمام من معارف وتوجيهات ونقف هنا على قبس من توجيهاته: «فَإِنَّ اَلرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ وَصَدَقَ فِي حَدِيثِهِ وَأَدَّى اَلْأَمَانَةَ - وَحَسَّنَ خُلُقَهُ مَعَ اَلنَّاسِ قِيلَ هَذَا شِيعِيٌّ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَكُونُوا زَيْنًا وَلاَ تَكُونُوا شَيْنًا جُرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ وَاِدْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ»[4] .

موجبات سرور أهل البيت

حين يحب الإنسان أحدًا فإنه يحرص على أن يقدّم له ما يفرحه ويسرّه.

وحيث وفقنا الله تعالى لمحبة أهل البيت وولايتهم، فإنّ علينا أن نعمل ما يسرّهم ويفرحهم.

وقد ورد عن رسول الله : «مَنْ أَرَادَ اَلتَّوَسُّلَ إِلَيَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدِي يَدٌ أَشْفَعُ لَهُ بِهَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَلْيَصِلْ أَهْلَ بَيْتِي وَيُدْخِلِ اَلسُّرُورَ عَلَيْهِمْ»[5] .

وفي عدد من الروايات الواردة عن أهل البيت تحدّث الأئمة عمّا يوجب سرورهم وفرحهم.

ومثله ما ورد في صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق : «فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ»[6] .

إنّ أهم ما يدخل السّرور على أئمة أهل البيت من شيعتهم الأمور التالية حسب ما ورد عنهم:

1/ الالتزام الديني بالورع في الدين: وهو الكفّ عن المحارم والتحرّج منها.

وردعنه : «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَعٌ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِذَا خَلَا لَمْ يَعْبَأِ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ»[7] .

وجاء عن الإمام علي : «وَرَعُ اَلرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ»[8] .

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «عَلَيْكُمْ بِالْوَرَعِ فَإِنَّهُ اَلدِّينُ اَلَّذِي نُلاَزِمُهُ وَنَدِينُ اَللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَنُرِيدُهُ مِمَّنْ يُوَالِينَا»[9] .

وعنه : «لَيْسَ مِنَّا وَلاَ كَرَامَةَ مَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ فِيهِ مِئَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ اَلْمِصْرِ أَحَدٌ أَوْرَعَ مِنْهُ»[10] .

2/ حسن التعامل مع الآخرين: بصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الأخلاق.

3/ السمعة الطيبة: وتؤكد الروايات التي سبق نماذج منها على صنع السّمعة الطيبة لخطّ أهل البيت وأتباعهم وقد جاءت فيها العبارات التالية: (قِيلَ هَذَا شِيعِيٌّ)، (قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ)، (قِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ).

إنّ الورع في الدين يتمثل في احترام حقوق الناس المادية والمعنوية، وفي القيام بواجبات الوظيفة في أيّ عمل أو مؤسسة، وفي التزام العفّة والاحتشام في العلاقة بين الجنسين، واجتناب أيّ تصرف حرام.

لقد كان أئمة أهل البيت في قمة الالتزام الأخلاقي، وكانوا يحسنون إلى من يسيء إليهم، ويغمرون بإحسانهم كلّ من حولهم.

وعلى من ينتمي إلى خطّ أهل البيت ، أن يتمثل أخلاقهم وسلوكهم، في حسن القول، وطيب المعاشرة، والتواصل مع الناس، وخدمة أبناء مجتمعه ووطنه.

يتحمّل شيعة أهل البيت مسؤولية صنع السّمعة الحسنة لمجتمعهم الإيماني، وذلك بالحرص على التفوق العلمي، والتميّز في الأداء العملي، واجتناب كلّ ما يشوّه ويشين سمعة المذهب ومدرسة أهل البيت .

 

خطبة الجمعة 9 ربيع الأول 1443هـ الموافق 15 أكتوبر 2021م.

[1]  تحف العقول: ص487.
[2]  قطب الدين الراوندي: الخرائج والجرائح، ج1 ص439، ج20.
[3]  تحف العقول، ص487.
[4]  نفسه، ص487.
[5]  أمالي الشيخ الصدوق، ج1 ص379.
[6]  الكافي، ج2 ص636.
[7]  كتاب الورع لابن أبي الدنيا، ح11.
[8]  غرر الحكم، ج1 ص725.
[9]  وسائل الشيعة، ج15 ص248.
[10]  الكافي، ج2 ص78.