مخارج الأزمات
تتحدّث آيات قرانيه كثيرة عن آثار التقوى وعوائدها على الإنسان في الآخرة، وأنّها سبيل النجاة من النار والعذاب، وطريق الفوز بالجنة ونعيمها الدائم.
كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾. [الطلاق: 5].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴿١٧﴾ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿١٨﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٩﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾. [الطور: 17- 20].
هذه الآثار والعوائد الأخروية للتقوى ضمن دائرة عالم الغيب الذي نؤمن به، ومعادلاته تختلف عن عالم الشهود والحياة المادية التي نعيشها.
لكنّ هناك آيات أخرى في القران الكريم، تتحدّث عن آثار التقوى، وعوائدها على الإنسان في هذه الحياة، ومن أبرز وأهم تلك الآثار والعوائد، ما تتحدّث عنه الآية الكريمة، أنّ التقوى تفتح أمام الإنسان المخارج من أزمات الحياة وتحدّياتها، يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴿٢﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
وهنا قد يفهم البعض من مثل هذه الآية الكريمة، أنّ هناك تدخلًا غيبيًّا ينقذ الإنسان المتقي من مشاكل الحياة وأزماتها، ولا يمكن إنكار إمكان التدخل الإلهي الغيبي، فالأمور بيد الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾. [يس: 82].
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. [البقرة: 20].
ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾. [فاطر: 44].
التقوى وصياغة الشخصية
لكن ما يمكن فهمه من مجمل النصوص والمفاهيم الدينية، أنّ الله يسيّر الحياة ضمن سنن وقوانين، وأنّ المقصود في اهذه الآية الكريمة وأمثالها: أنّ التقوى تصوغ شخصية الإنسان المتقي، بشكل يؤهله لمواجهة تحدّيات الحياة بالطريقة المثلى، والنهج السليم، من خلال رؤيته العقدية، ونفسيته المطمئنة الواثقة، وأدائه السلوكي المنضبط، المنسجم مع السنن والقوانين الإلهية.
قد يواجه الإنسان عائقًا قاهرًا يصعب اقتلاعه وتجاوزه، إما لطبيعة ذلك العائق، كالعاهات والإعاقات الجسمية، وأما لاستلزامه ظرفًا وقدرة لا يمتلكها الإنسان بالفعل.
وهنا يتحلّى الإنسان المتقي بالثبات والطمأنينة وبالتفكير الواقعي، فلا يصبح أسيرًا لتلك المشكلة التي لا يمتلك حلّها بالفعل، بل يخرج عن سيطرتها على نفسه ومشاعره، ويلتفت إلى سائر نقاط قوته، وإلى الإمكانات المتوفرة لديه، والفرص الأخرى المتاحة أمامه، مفوضًا أمره إلى الله ﴿إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. [غافر: 44]. وهنا سيحقق لنفسه تقدّمًا ونموًّا يعوّض عليه ما فقده، وقد يجد نفسه في موقع أفضل ومستوى أعلى من حالته قبل المشكلة.
إن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. [الشرح: 5-6].
ويقول تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾. [الطلاق: 7].
المحن طريق العظمة والتألق
ولو قرأنا تاريخ العظماء والقادة البارزين، لوجدنا أنّ كثيرًا منهم كانت المحن والآلام طريقه إلى التألّق والتقدّم، فلم يولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، ولا نشأوا في أجواء فارهة مترفة، بل تحدّوا المشاقّ والصّعاب وحقّقوا المكاسب والإنـجازات، حتى أحبّ الخلق إلى الله نبينا محمد شاء الله له أن يعيش حياة الآلام والمتاعب، قبل أن يبعثه نبيًّا.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ﴿٦﴾ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ﴿٧﴾ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾. [الضحى: 6-8].
ونبي الله إبراهيم الخليل ، لم يصل إلى مقام الإمامة إلّا عبر طريق التحدّيات والابتلاءات.
يقول تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. [البقرة: 124].
ونقرأ في التاريخ المعاصر عن كثير من الأشخاص، أصابتهم المحن وحلّت بهم الأزمات، فكانت طريقهم إلى التقدم والتألق.
الشدائد تصنع الأقوياء
(ماكساين شنال) كاتبة وإعلامية وخبيرة إدارة علاقات من أمريكا ألفت كتابًا جميلًا تحت عنوان: (الشّدائد تصنع الأقوياء) من وحي تجربة ومعاناة مرّت بها، حين أصيبت ابنتها الشابة في حادث سيارة، فسبّبت لها إعاقة وشللًا، وهذا ما دفعها لكتابة هذا الكتاب الجميل، الذي أنصح الشباب والشابات بقراءته، فهو مترجم للغة العربية، وفيه خلاصات لتجارب ونماذج ناجحة في تحويل المحن إلى نِعَم.
ويمكن قراءة الكتاب عبر المكتبات الإلكترونية.
ومن الخلاصات التي ذكرتها في الكتاب:
1/ لا يمكنك أبدًا أن تمنع المصائب من الحدوث أو تبعد ضررها عنك، ولكن استجابتك لها هو اختيارك أنت.
فكيف تريد أن تتعامل مع المشكلة؟
2/ إنّ الحياة لا تفرض علينا شيئًا نعجز عن احتماله إذا توفرت لدينا النظرة الصحيحة للأمور، فعلى الإنسان ألّا يتسرّع للقول بأنه لا يستطيع تحمّل المشكلة، إنك تستطيع أن تتحمّل، ولو استعدت شريط حياتك لوجدت أنّ مشكلات صعبة قد تجاوزتها، وأصبحت من ذكريات الماضي والتاريخ.
3/ باستطاعتنا أن نعثر على فوائد مخبّأة في أيّ محنة إذا دربنا أنفسنا على رؤية الشدائد بنظرة جديدة والاستجابة لها بإبداع.
4/ أسوأ الظروف قد تبرز فينا أفضل ما لدى الإنسان وتلهمه وتبث فيه الشجاعة والتعاطف والرحمة.
كيف تصبح المحنة منحة؟
وهنا نستحضر ما روي عن الإمام جعفر الصادق : «الْمَصَائِبُ مِنَحٌ مِنَ اللهِ». [الكافي، ج2، ص260]
إنّ النصوص الدينية والتجارب البشرية الناجحة عبر العصور تبعث رسالة واضحة لكلّ من تحلّ به أزمة قاهرة ألّا يصاب بالإحباط واليأس، وأن يتحلّى بالثبات النفسي والأمل والتفاؤل، والرضا بما قسمه الله تعالى له.
كما ورد في دعاء كميل المروي عن الإمام علي : «وَتَجْعَلَني بِقِسْمِكَ راضِيًا قانِعًا».
وأن يفتش الإنسان عن فرص يعوّضه الله بها عمّا حلّ به.
يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ أي طريقًا لتجاوز محنته، لكن عليه أن يسعى لاكتشاف ذلك الطريق.
﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يعني: تأتيه فرص لم تكن متوقعة في حالته العادية.
ورد في الحديث عن سول الله : «إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَكَفَتْهُمْ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا وَيُعِيدُهَا». [بحار الأنوار، ج5، ص281]
وورد أنّ الإمام موسى الكاظم سُئلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فَقالَ: «أنْ تَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ في امُورِكَ كُلِّها، فَما فَعَلَ بِكَ، كُنْتَ عَنْهُ راضِياً، تَعْلَمُ أنَّهُ لا يَأْلُوكَ خَيْراً وَفَضْلًا، وَتَعْلَمُ أنَّ الْحُكْمَ فِي ذلِكَ لَهُ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بِتَفْويضِ ذلِكَ إلَيْهِ وَثِقْ بِهِ فيها وَفِي غَيْرِها». [بحار الأنوار، ج5، ص281]