القرآن ومنهجية التفكير

 

يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل، الآية: 44]

تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم، إلى أنّ من أهم أغراض نزول آياته، هو تحفيز الناس إلى التفكير، واستخدام عقولهم بمنهجية سليمة.

حيث ورد في عدد من الآيات القرآنية، أنّ الله تعالى أنزل آيات القرآن، رجاء أن تدفع الناس إلى التفكير والتعقّل، واستخدمت الآيات لفظ (لعلّ) الذي يدلّ على التوقّع والرّجاء.

 يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل، الآية: 44].

ويقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [سورة البقرة، الآية: 219].

ويقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف، الآية: 2].

العقل وآلية عمله

إنّ العقل هو ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، إنه القدرة الهائلة التي يتعرّف بها الإنسان على خالقه، ومن ثمَّ يدرك معنى حياته، وبالعقل يكتشف الإنسان أنظمة الكون وسنن الحياة، فيعمر الأرض، ويسخّر إمكانات الطبيعة للارتقاء بمستوى معيشته، وتطوير حياته.

إنّ كلّ ما حقّقه الإنسان من تقدّم عبر تاريخه الطويل، في المجال العلمي والصناعي والتكنولوجي، وفي جميع المجالات، هو بفضل هذه القدرة العقلية التي منحها الله له.

يقوم العقل بمهمّته عبر عملية التفكير، التي تنطوي على عدد هائل من الأنشطة العقلية، مثل: التذكر، والملاحظة، والتخيّل، والتقييم، والتحليل، والاستنتاج، وهي أنشطة ذهنية غير محسوسة، تحدث داخل مخّ الإنسان، لا يعرف الإنسان عن أسرارها إلّا شيئًا ضئيلًا، إنّ أيّ عملية تفكير يقوم بها الإنسان لاتّخاذ قرار وإن كان بسيطًا، تستلزم أنشطة ذهنية متعدّدة الأبعاد، تتم بسرعة لا يكاد يحسّ بها الإنسان، ولعلّ من أوضح تعريفات التفكير المختلفة أنه: (مجموعة من العمليات العقلية التي تحدث في مخّ الإنسان، ويتم فيها توظيف المهارات الذهنية للوصول إلى نتيجة ما).

الكنز المغفول عنه

إنّ أكثر الناس لا يلتفتون إلى قيمة هذا الكنز العظيم الذي منحهم الله إيّاه (العقل)، ولا يستثيرون قدراته بالتفكير والنظر والتأمل، ويعيشون خمول الفكر وكسل العقل. فمهارات التفكير أشبه بالعضلات في الجسم تقوى بممارسة الحركة والتدريب، وتضعف وتصاب بالضمور لقلّة الحركة.

إنّ الله تعالى يصف من لا يستخدمون عقولهم بأنهم يفقدون ميزتهم الإنسانية، ويصبحون كالحيوانات التي تسيّرها الغرائز والرغبات، بل أسوأ حالاً منها؛ لأنّ الحيوانات لا تمتلك قدرة عقلية ترجع إليها، بينما يتمتع الإنسان بهذه القدرة العظيمة لكنه يتجاهلها، يقول تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. [سورة الأعراف، الآية: 179].

إنّ ممارسة التفكير تستلزم من الإنسان بذل جهد ذهني، وتركيز نفسي، وذلك ما يستصعبه كثير من الناس، فيتهرّبون من خوض غمار التفكير.

يقول توماس أديسون: (5% من الناس يفكرون، و10% منهم يعتقدون أنّهم يفكرون، بينما 85% يفضلون أن يموتوا على أن يفكروا)[1] .

وقد نزل القرآن في بيئة يسودها الجهل وخمول الفكر، فكانت المساحة الأوسع في آياته دعوة إلى إثارة العقل واستخدام التفكير، وإمعان النظر، وتكرّر ذلك في الآيات الكريمة بجمل وتعبيرات مختلفة، مثل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وأمثالها في مئات من الآيات القرآنية.

اتّباع الآخرين وإغفال العقل

إنّ من أهم أسباب انصراف الإنسان عن التفكير، اعتماده على الآخرين، وثقته غير الواعية بهم، كتقليد أسلافه، وزعامات مجتمعه، والأخذ بما هو سائد في بيئته، وفي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

وقد ركّز القرآن الكريم على تحذير الإنسان من الانسياق خلف الآخرين دون وعيٍ وتفكير.

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: 104].

ويقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [سورة الأحزاب، الآية: 67].

ويقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‎﴿٢٧﴾‏ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‎﴿٢٨﴾‏ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا [سورة الفرقان، الآيات: 27-29].

ويقول تعالى: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر، الآية: 45].

منهجية التفكير

 يوجّه القرآن الإنسان إلى أن يفكر في كلّ أمر، ليسير فيه على علم، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [سورة الاسراء، الآية: 36].

كما يوجه القرآن الإنسان ألّا يقبل أو يرفض أيّ فكرة حتى يفكّر فيها، وأن يدرس الخيارات والآراء المختلفة، ليأخذ بأصوبها وأحسنها، يقول تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ ‎﴿١٧﴾‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. [سورة الزمر، الآيتان: 17- 18].

وحين يعرض عليه أحد فكرة أو أمرًا، يجب أن يطالبه بالدليل والبرهان، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 111].

ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [سورة الأنعام، الآية: 148].

نعم هناك أهل اختصاص قد ترجع إليهم في مجال اختصاصهم، عند الاطمئنان إليهم، يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [سورة النحل، الآية: 43].

ويقول تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [سورة الكهف، الآية: 66].

ويحذّر القرآن الإنسان من السير خلف الأوهام والظنون، واتباع الهوى والرغبة.

يقول تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ [سورة النجم، الآية: 23].

ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص، الآية: 26].

أولوية التفكير المنهجي

إنّ القرآن يهتم بالدرجة الأولى لتوجيه الإنسان نحو استخدام عقله وفق منهجية سليمة، أما القضايا العبادية فهي تأتي في الدرجة التالية، لذلك فإنّ مساحتها في آيات القرآن أقلّ بكثير من مساحة الحديث عن العقل والتفكّر والعلم.

إنّ الحديث عن الوضوء مثلًا جاء في أقلّ من نصف آية في القرآن الكريم هي الآية (6) من سورة المائدة، كذلك فإنّ الحديث عن الحج والصوم ورد في آيات معدودة قليلة.

أما الآيات القرآنية الداعية إلى التفكير والتعقل والمعرفة والعلم، فتقدّر بالمئات في القرآن الكريم.

إنّ على من يقرأ القرآن أن يتأمل في آياته التي تدعو إلى التفكير واستخدام العقل، وأن يستجيب لدعوة القرآن، فيستثير فكره في كلّ ما يواجهه ويهمّه، ضمن منهجية سليمة، تعتمد الدليل والبرهان، وتبتعد عن التقليد الأعمى واتّباع الظنّ والهوى.

وقد جاءت الأحاديث عن النبي وأهل بيته لتؤكّد على أهمية التعقّل والتفكير، وأنّها المعيار والمقياس في اتّباع القرآن، والتزام الدين.

ورد عن رسول الله : «إذا بَلَغَكُم عَن رَجُلٍ حُسنُ حالٍ فَانظُروا في حُسنِ عَقلِهِ، فَإِنَّما يُجازى بِعَقلِهِ»[2] .

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «تَفَكُّرُ ساعَةٍ خَيرٌ مِن عِبادَةِ سَنَةٍ»[3] .

قال سُلَيمانُ الدَّيلَمِيُّ: قُلتُ لِأَبي عَبدِاللّهِ : فُلانٌ مِن عِبادَتِهِ ودينِهِ وفَضلِهِ كذا وكذا، فَقالَ: «كَيفَ عَقلُهُ؟» قُلتُ: لا أدري، فَقالَ: «إنَّ الثَّوابَ عَلى قَدرِ العَقلِ»[4] .

وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «لَيسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكّرُ فِى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[5] .

 

خطبة الجمعة 23 رمضان 1444هـ الموافق 14 أبريل 2023م.

[1]  د. صلاح الفضلي، التحيّزات الذهنية، الطبعة الأولى، 2019م، ص101.
[2]  الكافي، ج 1، ص 12، حديث 9.
[3]  بحار الأنوار، ج71، ص327، حديث22.
[4]  الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 504، حديث6.
[5]  الكافي، ج2، ص55، حديث4.