حياة الإمام الكاظم بين المعاناة والإنجاز

حين نقرأ حياة الإمام موسى الكاظم ، نجد فيها عطاءً ثريًّا وإنجازات ملهمة، مع كلّ ما عاناه من ألوان المصائب والظلامات.

حيث تقاذفته السجون خمس مرات لعدّة سنوات، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في بعض الفترات، وفجع بقتل عدد من أعلام وأفراد أسرته من العلويين، ورغم كلّ هذه المصائب، واصل الإمام   تحمّل مسؤولياته تجاه الدين والأمة، متساميًا على تلك الآلام والمعاناة، وكان شعلة من الحركة النشاط، وهو بذلك يقدم أروع الدروس لأجيال الأمة، بعدم الخضوع للآلام، والاستسلام للمشاكل مهما كانت، ومقاومة حالة الكسل والضجر كما ورد في كلامه : «إيّاكَ والكَسَلَ والضَّجَرَ؛ فإنّهما يَمنَعانِكَ مِن حَظِّكَ مِن الدنيا والآخِرَةِ». [الكافي، ج 5، ص: 85].

ونشير هنا باختصار وإيجاز لبعض جوانب عطاءاته وإنجازاته:

1/ المجال العلمي والفكري

كان يغتنم الفرص لبثّ العلوم والمعارف، وقد أخذ من علمه وروى عنه عدد كبير من الفقهاء والعلماء والمحدثين، وأحصى الباحثون أسماء «320» من الرواة عنه، وجمع أحد العلماء «الشيخ عزيز الله عطاري» الروايات والأحاديث الواردة عنه   فبلغت نحو ثلاثة آلاف رواية وحديث، طبعت تحت عنوان «مسند الإمام الكاظم أبي الحسن موسى بن جعفر» في ثلاثة مجلّدات تنوف على ألف صفحة.

2/ تربية الكوادر والقيادات

تخرّج من مدرسته العلمية والتربوية عدد كبير من القيادات العلمية والفكرية والإدارية، ومن جملتهم:

• محمد بن أبي عمير، من عيون العلماء وكبار الفقهاء.

• هشام بن الحكم، من كبار المتكلمين والفلاسفة.

• أخوه علي بن جعفر.

• علي بن يقطين البغدادي، أصبح الوزير الأول لهارون الرشيد، وقد أراد ترك منصبه فنهاه الإمام، وقال له: «لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَنَا بِكَ أُنْسًا وَلِإِخْوَانِكَ بِكَ عِزًّا وَعَسَى أَنْ يَجْبُرَ اَللَّهُ بِكَ كَسْرًا». [بحار الأنوار، ج 48، ص 136]

• يونس بن عبدالرحمن، وصفه ابن النديم بأنه علامة زمانه. [الفهرست لابن النديم، ص 272]

• وعشرات غيرهم.

3/ الدور الاجتماعي

كان   يتفقّد أحوال المحتاجين من الناس، فيبعث لهم صرارًا من المال، تتراوح بين مئتي وأربعمئة دينار، وكان يضرب بصراره المثل، فيقال: «عجبًا لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلّة والفقر». وقد بعث لبعض من أساء إليه صرّة فيها ألف دينار.

وحَدَّثَ عِيسَى بن مُحَمَّد بن مغيث القرشي، قال: زَرَعْتُ بِطِّيخًا وَقِثَّاءً وَقَرْعًا، فِي مَوْضِعٍ بِالْجَوَّانِيَةِ عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عِظَامٍ، فَلَمَّا قَرُبَ الْخَيْرُ، وَاسْتَوَى الزَّرْعُ، بَيَّتَنِي الْجَرَادُ، فَأَتَى عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَكُنْتُ غَرِمْتُ عَلَى الزَّرْعِ وَفِي ثَمَنِ جَمَلَيْنِ مِئَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ، طَلَعَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «أَيْشِ حَالُكَ؟» فَقُلْتُ: أَصْبَحْتُ كَالصَّرِيمِ، بَيَّتَنِي الْجَرَادُ فَأَكَلَ زَرْعِي، قَالَ: «وَكَمْ غَرِمْتَ فِيهِ؟» قُلْتُ: مِئَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا مَعَ ثَمَنِ الْجَمَلَيْنِ، فَقَالَ: «يَا عَرَفَةُ [مولًى له]، زِنْ لابن الْمُغِيثِ مِئَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا، نُرْبِحُكَ ثَلاثِينَ دِينَارًا وَالْجَمَلَيْنِ». [تاريخ بغداد، ج 15، ص 14]

ويشكو إليه شخص من أهل الري أموالًا عليه طائلة في ديوان حاكم الريّ، فيكتب له الإمام رسالة لإسقاطها عنه.

4/ العمل الاقتصادي والمعيشي

تتحدّث الروايات التاريخية عن خوضه شخصيًّا غمار العمل والكدح، في مجال الزراعة واستصلاح الأراضي.

عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ   يَعْمَلُ فِي أَرْضٍ لَهُ قَدِ اِسْتَنْقَعَتْ قَدَمَاهُ فِي اَلْعَرَقِ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَيْنَ اَلرِّجَالُ؟ فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، قَدْ عَمِلَ بِالْيَدِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْ أَبِي فِي أَرْضِهِ»، فَقُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: «رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ وَأَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ   وَآبَائِي كُلُّهُمْ كَانُوا قَدْ عَمِلُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلْمُرْسَلِينَ وَاَلْأَوْصِيَاءِ وَاَلصَّالِحِينَ». [ وسائل الشيعة، ج 17، ص 38]

ونقل إنه   استنبط نحو سبعين ما بين عين وبئر.

وكانت له قرى وضيع زراعية منها: صريا وقد تشدّد الرّاء، تبعد عن المدينة حوالي خمسة كيلومترات، وقد بعث كفنًا لشطيطة التي بعثت له درهم خمس من نيسابور، وقال: إنه من قطن قريتنا صريا، ومنها مزرعة باسم «نقمى» قريبًا من جبل أحد، ومزرعة «ساية» وهي قرية في أطراف المدينة وفيها عيون، و«اليسيرة، أو اليسيرية» وهي أرض زراعية اشتراها الإمام   بثلاثين ألف دينار.

5/ إدارة العائلة

بعض الروايات تتحدّث عن عدد كبير له من الأولاد، لكنّ الأرجح ما اختاره الشيخ المفيد أنّ له سبعة وثلاثين ولدًا ذكرًا وأنثى.

وتشير رواية نقلها الشيخ الصدوق في العيون إلى أنّ هارون الرشيد سأل الإمام مرة: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، مَا عَلَيْكَ مِنَ اَلْعِيَالِ؟ فَقَالَ  : «يَزِيدُونَ عَلَى اَلْخَمْسِمِئَةِ» قَالَ: أَوْلاَدٌ كُلُّهُمْ؟ قَالَ «لاَ أَكْثَرُهُمْ مَوَالِيَّ وَحَشَمٌ، فَأَمَّا اَلْوَلَدُ فَلِي نَيِّفٌ وَثَلاَثُونَ». [ عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 88].

منهم ابنته الفاضلة فاطمة المعروفة بالمعصومة، المدفونة في قم، وهي شقيقة الإمام الرضا  .

وابنه أحمد المعروف بشاه جراغ، المدفون في شيراز، وله فضل ومكانة، وابنه القاسم المدفون في أطراف الحلّة بالعراق، قال الشيخ الطبرسي: إنّ لكلّ واحدٍ من أولاد أبي الحسن موسى   فضلًا ومنقبة مشهورة. [إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 2، ص 37]

وقد تضمنّت وصيته   فقرات حول إدارة أسرته، وزواج بناته من بعده، والإنفاق على زوجاته وأولاده وبناته من ثلثه وصدقاته.

وهكذا نجد أنّ المصائب والمعاناة التي كابدها الإمام موسى الكاظم   في حياته، لم تصرفه عن أداء مهمّاته، وتحمّل مسؤولياته تجاه عائلته ومجتمعه ودينه، ولم تشغله عن الاهتمامات الرسالية، ورعاية مصالح الدين والأمة.