التحفيز الديني للعلاقات الاجتماعية

 

يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. [سورة النساء، الآية: 36].

يؤكد علماء النفس والاجتماع أنّ انبساط الإنسان، واهتمامه بصنع العلاقات الإيجابية مع الآخرين، يكشف عن حال سويٍّة في شخصيته، بينما تكشف لامبالاته بالعلاقة مع الآخرين، وميله للانطواء على ذاته، عن خلل وثغرة في شخصيته.

عوامل الانبساط والانطواء في الشخصية

وذكروا عوامل وأسبابًا لاختلاف هذين النمطين من الشخصية الإنسانية، منها:

1/ العامل البيولوجي: واحتمال تأثيره في وجود هاتين السمتين في شخصية الإنسان، إذ اعتبر العالم السويسري مؤسس علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ (توفي 1961م)، أنّ للانبساط والانطواء أساسًا بيولوجيًّا يرتبط ببنية الجسم والعلاقة بين أعضاء الجسم.

وافترض عالم النفس الأمريكي وليام ماكدوغال (توفي 1938)، وجود هرمون خاص في الجسم يؤثر على الجهاز العصبي وله تأثير انطوائي، إذا زادت نسبته أصبح الشخص منطويًا والعكس[1] ، ويوجد نقاش بين علماء النفس في هذا الموضوع، لكن هناك من يشير إلى ارتباط هاتين السمتين بالوجود التكويني للإنسان.

2/ العامل الوراثي: حيث أشار باحثون، إلى توفر أدلة قوية، على وجود الاستعداد الوراثي لكلٍّ من الانبساط والانطواء، فانحدار الإنسان من أبوين لديهما أو لأحدهما، إحدى هذين السمتين، يجعل نفسيته مهيأة أكثر لاكتساب هذه السمة، ولظهورها في شخصيته.

فقد قام بعض علماء النفس بدراسة تأثير الوراثة في حالة الانبساط والانطواء، ووجدوا ما يؤكد ذلك، من خلال المتابعة، حتى على حال التوائم الصنوية التي تعيش معًا، وغير الصنوية التي تعيش منفردة عن بعضها، فوجوا نسبة كبيرة من التشابه في هذه السمة: الانبساط والانطواء، مما يدلّ على درجة الاستعداد الوراثي.

(وتتوافر أدلة قوية على الاستعداد الوراثي للانبساط، وتستمدّ هذه الأدلة من مجالات عدة، منها الفروق في الاستجابة للاختبارات الموضوعية، والاختبارات بين التوائم الصنوية وغير الصنوية، ودراسة الآباء وأطفالهم وأقاربهم، (كأبناء العمومة والخؤولة من الجنسين)، وقد وضعت استنتاجات تبعًا لدرجة القرابة، خاصة بالارتباطات التي يجب أن تلاحظ بين مختلف أعضاء العائلة، وهذه الدراسات تؤكد بوجه عام نظرية اعتماد الانبساط والعصابية على الوراثة)[2] .

3/ العامل البيئي والاجتماعي: فحينما ينشأ الإنسان في عائلة أو بيئة اجتماعية، تعيش حالة الانبساط أو الانطواء، فإنه في الغالب يتأثر بذلك السلوك، وتنتقل إليه هذه السمة.

4/ عامل الثقة وتقدير الذات: يتحدّث علماء النفس، عن تأثير عامل الثقة بالنفس، وتقدير الذات، في تعزيز سمة الانبساط، وأنّ ضعف الثقة وتقدير الذات، قد يدفع الإنسان إلى الانطواء. لأنه لا يمتلك الجرأة الكافية للتعبير عن آرائه ومشاعره أمام الآخرين، ويشك في قدرته على إدارة العلاقة معهم، وكسب ثقتهم واحترامهم، لذلك يفضل الابتعاد عنهم.

وهناك دراسات تشير إلى أنّ عددًا من المبدعين يميلون إلى الانطوائية، حيث تسيطر عليهم الجدّية أكثر، وتجذبهم اهتماماتهم الإبداعية إلى التأمل والبحث والانشغال عن العالم الخارجي.

يقول القاضي الجرجاني[3] :

ما تطعمتُ لذةَ العيشِ حتى     صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا

ليس شيءٌ أعزَّ عندي من الـ    ـعلم فَما أبتغي سواه أنيسًا

إنّما الذُّلُّ في مخالطةِ النَّاس       فَدَعهُم وَعِش عزيزًا رئيسا[4] 

وفي حديث لأكثر من مبدع ومنجز يحكي عن نفسه وشخصيته، أنه كان يفضل الانطواء والعزلة، فليس دائمًا يكون عامل الثقة بالنفس وتقدير الذات ضعفًا وقوة سببًا أساسًا للانطواء أو للانفتاح، أو قد يكون ذلك ضمن مجالات معينة دون مجالات أخرى.

5/ عامل الموقف: كتحقيق إنجاز أو مواجهة صدمة وانتكاسة، فقد يدفع الأول نحو الانبساط أو يزيده، وقد يدفع الثاني نحو الانطواء والانكفاء عن الناس.

6/ العامل الثقافي: للثقافة السائدة في أيّ مجتمع، دور كبير في توجيه سلوك أبناء المجتمع، وتعزيز السمات والصفات في شخصياتهم، بل إنّ الفرد إذا أخذ منحًى مختلفًا عن الثقافة السائدة في مجتمعه يشعر بالغربة، لذلك فإنّ العرف والثقافة السائدة لها دور كبير في صناعة الاتجاهات السلوكية لأبناء المجتمع، فالمجتمع الذي تسوده ثقافة تشجّع على الانفتاح والتداخل مع الآخرين، ولا تقيم الحواجز في ذهن الإنسان ومشاعره، بينه وبين أبناء جنسه، يكون أبناؤه أكثر ميلًا للانفتاح والانبساط.

وحينما تسود ثقافة تحذّر الإنسان من الآخرين، وتدعوه للابتعاد عنهم، وألّا ينفتح إلّا على دوائر محدودة من أقربائه أو موافقيه ومشابهيه، فإنّ أبناء المجتمع سيميلون إلى الانكفاء والانطواء.

ثقافة العزلة والانطواء

هناك اتجاهات دينية تتبنّى فكرة الابتعاد عن الناس، وترك مخالطتهم، حذرًا من التأثر بانحرافاتهم، أو لأنّهم يشغلون الإنسان عن عبادة الله تعالى والتوجه إليه، كما نجد ذلك في اتجاه الرهبنة عند المسيحيين، والاعتزال في الأديرة البعيدة عن الناس.

وفي الثقافة الإسلامية ظهر مثل هذا الاتجاه، الذي يدعو الإنسان المتديّن إلى الابتعاد عن الناس، وأن يعتزل لأجل أن يحقّق طهارة نفسه، بابتعاده عن ذنوب الناس، وألّفت كتب حول فضل العزلة والانفراد، مثل كتاب (العزلة والانفراد) للحافظ الإمام أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد البغدادي الشهير بابن أبي الدنيا (توفي 281هـ). وقد طبع أخيرًا محققًا من قبل دار الوطن في الرياض سنة 1417هـ -1997م، وهو كتاب يُمجّد العزلة والانفراد، ويدعو الإنسان للابتعاد عن الناس ما أمكنه ذلك.

وكتاب (التفرد والعزلة) لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (توفي 360هـ).

وكتاب (العزلة) لأبي سليمان حمد بن إبراهيم الخطّابي البستي (توفي 388هـ) وهو مطبوع عدة طبعات، وكتاب (الرسالة المغنية في السكوت ولزوم البيوت) للحسن بن أحمد بن عبد الله البغدادي، وقد طبع محققًا من قبل دار العاصمة – الرياض.

وكتاب (عزّ العزلة) لعبد الكريم بن محمد السمعاني (توفي 562هـ).

وكتاب (العزلة) لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (توفي 597هـ).

وكتاب (الأمر بالعزلة آخر الزمان) لمحمد بن إبراهيم الوزير (توفي 840هـ)، نشر عن دار ابن القيم - الدمام.

وقد أفرد الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) (450هـ- 505هـ) كتابًا خاصًّا بعنوان (كتاب آداب العزلة) ، ذكر فيه اختلاف الآراء حولها، لكنّ البحث في مجمله ترغيب في العزلة، وبإلقاء نظرة فاحصة على ما ورد فيه من النصوص والقصص والشواهد تظهر لنا جذور وخلفية هذا المسلك.

 ولنقتطع منه بعض الفقرات كنماذج:

(قال ابن سيرين: العزلة عبادة.

وقيل: اتَّخِذِ اللهَ صَاحِبًا ... وَدَعِ النَّاسَ جَانِبًا.

وقال أبو الربيع الزاهد لداود الطائي: عظني، قال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفرّ من الناس فرارك من الأسد.

وقال وهيب ابن الورد: بلغنا أنّ الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس.

وقال إبراهيم النخعي لرجل: تفقّه ثم اعتزل.

وقيل: كان مالك بن أنس، يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويعطي الإخوان حقوقهم، فترك ذلك واحدًا واحدًا حتى تركها كلها.

وقال الفضيل: إنّي لأجد للرجل عندي يدًا: إذا لقيني ألّا يسلّم عليَّ، وإذا مرضت ألّا يعودني. وقال: من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه)[5] .

ولدى الشيعة كتاب (جامع السعادات) للمولى محمد مهدي النراقي (توفي 1209هـ)، فيه فصل وباب مطول حول فضل العزلة، يتضمن مثل هذه النصوص والكلمات.

لكنّ هذه الثقافة نشأت من فهم غير سليم للرؤية الدينية، ولعلّها جاءت كردّ فعل لظروف اجتماعية معيّنة، ونمت ضمن اتجاهات صوفية مفرطة، وقد يكون انتشار مثل هذ الاتجاه في بعض الأحيان لأغراض سياسية.

وما نجده في القرآن الكريم هو الدعوة إلى التعارف بين الناس.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. [سورة الحجرات، الآية: 13].

ونجد في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. [سورة النساء، الآية: 36].

أنه تعالى بعد الأمر بعبادته وتوحيده، يأمر مباشرة بحسن العلاقة والاهتمام بالآخرين، بدءًا من الوالدين والأقرباء والأرحام، وشريحة الضعفاء في المجتمع: اليتامى والمساكين، والجار القريب سكنًا أو دينًا، والجار الأجنبي دينًا أو بعيدًا في السكن، والصاحب بالجنب، وهو كلّ من صاحب الإنسان في سفر أو عمل ونحوه، والمسافر الغريب، ومن كان تحت سلطة الإنسان، كالمملوك سابقًا، أو الخادم.

ونقرأ في آيات القرآن الكريم، قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [سورة النساء، الآية: 140].

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام، الآية: 68].

فالدين لا يطلب من الإنسان أن يبتعد عن الناس حتى الكافرين والمنحرفين كي لا يتأثر بمساوئهم، وإنّما يطلب منه أن يبني وعيه ونفسيته في مستوى من الحصانة والالتزام بحيث يكون أقرب إلى التأثير على الآخرين من التأثر بهم.

ونقرأ في نصوص دينية أخرى عن رسول الله أنه قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، ولا يصبر على أذاهم»[6] .

 وأخرج البيهقي عن عسعس أنّ رسول الله فقد رجلًا فسأل عنه، فجاء فقال: يا رسول الله، إنّي أردت أن آتي هذا الجبل فأخلوا فيه فأتعبّد، فقال رسول الله: «لَصَبْرُ أَحَدِكُمْ ساعَةً عَلى‌ مَا يَكْرَهُ في‌ بَعْضِ مَواطِنِ الْإِسْلامِ خَيْرٌ مِنْ عِبادَتِهِ خالِيًا أَرْبَعينَ سَنَةً»[7] .

انكفاء الأقليات

وفي وسط الأقليات قد تسود ثقافة تدعوهم إلى الانكفاء حفاظًا على هويتهم، أو كردّ فعل للتمييز ضدّهم، وهذا ما نجده في أوساط الجاليات الإسلامية في الغرب، حيث يضعف تداخلهم مع مجتمعاتهم، فيضيعون على أنفسهم الفرص، فهم يعيشون في مجتمعات منفتحة، وبإمكانهم أن يتفاعلوا مع تلك المجتمعات، ويكسبوا منها، ويؤثروا فيها، والمجال مفتوح، ورأينا كيف أنّ بعض المسلمين انفتحوا، وحصلوا على كفاءات وقدرات، بل وصلوا لمناصب ومواقع في البرلمانات، والوزارات والقضاء والاقتصاد، وأصبح لهم نوع من التأثير حينما انفتحوا على الأحزاب وشاركوا في الانتخابات، بينما نجد أنّ كثيرًا من الجاليات الإسلامية هناك، لديهم عزوف عن الانفتاح، فلا يندمجون في تلك المجتمعات التي يعيشون ضمنها، ويكتفون بالاهتمام بأمورهم الخاصة، وينشغلون بالقضايا الجزئية عن القضايا العامة، فيخسرون الفرص، وامتلاك قدرة التأثير لصالح حفظ هويتهم والدفاع عن قضاياهم وحقوقهم.

بينما نجد أنّ اليهود أصبحوا قوة مؤثرة في كلّ المجتمعات التي يعيشون فيها؛ لأنّهم يدخلون في الأحزاب القائمة، ويشاركون في الانتخابات، ويندمجون في تلك المجتمعات، ورغم قلّتهم فإنّ تأثيرهم كبير، بينما الجاليات الإسلامية اهتمامهم بهذا الجانب ضعيف، بسبب الثقافة السائدة في أوساطهم.

وكذلك الحال في الأقليات المذهبية في بلاد المسلمين، كالمنتمين لمذهب أهل البيت ، حيث تسود عند بعضهم ثقافة تشجع على الانطواء، إما خوفًا من الذوبان، أو ابتعادًا عن إثارة مسائل الاختلاف، أو لتوهّم عدم المقبولية، وفي بعض الأحيان تمارس تجاههم حالة من التمييز والإقصاء والحصار من قبل جهات متشدّدة، فيكون الرد على ذلك بهذا الأسلوب الخطأ، وحتى لو كان لدى الآخرين انطباع غير إيجابي، فإنه بالتداخل والعلاقات يمكن تصحيح الانطباعات.

ونجد روايات كثيرة في تراث أئمة أهل البيت ، تأمر أتباعهم بالاندماج والمداراة والتفاعل مع هموم مجتمعات الأمة وآلامها وأمالها، وقد ورد عن الإمام الباقر أنه قال لأَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ: «اِجْلِسْ فِي مَسْجِدِ اَلْمَدِينَةِ وَأَفْتِ اَلنَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ»[8] .

وسأل أحدهم الإمام الصادق : إِنَّ لَنَا إِمَامًا مُخَالِفًا وَهُوَ يُبْغِضُ أَصْحَابَنَا كُلَّهُمْ فَقَالَ: «مَا عَلَيْكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَأَنْتَ أَحَقُّ بِالْمَسْجِدِ مِنْهُ، فَكُنْ أَوَّلَ دَاخِلٍ وَآخِرَ خَارِجٍ، وَأَحْسِنْ خُلُقَكَ مَعَ النَّاسِ، وَقُلْ خَيْرًا»[9] .

ينبغي للإنسان الواعي أن يكون منفتحًا على الآخرين مهما اختلف معهم في المذهب والدين، ففي الرواية عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَلَّمْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] بِمِنًى، ثُمَّ قُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اَللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ مُجْتَازُونَ لَسْنَا نُطِيقُ هَذَا اَلْمَجْلِسَ مِنْكَ كُلَّمَا أَرَدْنَاهُ فَأَوْصِنَا، قَالَ : «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ، وَصِدْقِ اَلْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ، وَحُسْنِ اَلصِّحَابَةِ لِمَنْ صَحِبَكُمْ، وَإِفْشَاءِ اَلسَّلاَمِ، وَإِطْعَامِ اَلطَّعَامِ، صَلُّوا فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَاِتَّبِعُوا جَنَائِزَهُمْ، فَإِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي، أَنَّ شِيعَتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ كَانُوا خِيَارَ مَنْ كَانُوا مِنْهُمْ، إِنْ كَانَ فَقِيهٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُؤْذِنٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ إِمَامٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ أَمَانَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ وَدِيعَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كُونُوا، حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ وَلاَ تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ»[10] .

المبادرة للانفتاح على الآخرين

إنّ الإنسان المتديّن السويّ، ينبغي أن يكون في أيّ موقع، في الدراسة أو العمل أو السفر أو الحضر، مبادرًا للانفتاح على من حوله، وصنع العلاقة الإيجابية معهم، فذلك ما يدعو إليه الدين، ويدفع إليه العقل والفطرة الإنسانية.

إنّ تنوع الانتماءات بين بني البشر - العرقية والقومية والدينية - لا يصح أن تصنع الحواجز بينهم، بل ينبغي أن تكون مشجعة على التعارف والتواصل، كما يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. [سورة الحجرات، الآية: 13].

ومنطلق العلاقة بين الناس يجب أن يكون هو الاحسان إلى الآخرين، بأن يفعل ويقدّم لهم ما يفيدهم وينفعهم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. [سورة النحل، الآية: 90].

ويقول تعالى: ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. [سورة القصص، الآية: 77].

وورد عن النبي محمد : «اَلْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اَللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»[11].

وفي هذا العصر ومع هيمنة الروح المادية المصلحية، التي تعزز الحالة الفردية الأنانية في نفس الإنسان وسلوكه، نحتاج أكثر إلى التأكيد على النزعة الإنسانية، والاهتمام بالغير، بدءًا من القريبين، وانتهاءً بكلّ من يشاركنا في الانتماء الإنساني.

كما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي : «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»[12] .

 

خطبة الجمعة 10 شوال 1445هـ الموافق 19 أبريل 2024م

[1]  الدكتور أحمد محمد عبدالخالق: الأبعاد الأساسية للشخصية، ص207. (دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية، 1987م)
[2]  المصدر السابق، ص249.
[3]  علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني، أبو الحسن (322 - 392 هـ)، كان فقيهًا قاضيًا وأديبًا وشاعرًا، له كتاب: الوساطة بين المتنبي وخصومه.
[4]  عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج4، ص355.
[5]  الإمام أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، كتاب آداب العزلة، ج2، ص279- 281. (بتصرف)
[6]  الألباني: صحيح الجامع الصغير وزياداته، ح6651.
[7]  جلال الدين السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج1، ص161.
[8]  رجال النجاشي، ج 1، ص10، وسائل الشيعة، ج30، ص291، باب الهمزة.
[9]  الشيخ الطوسي: تهذيب الأحكام، ج3، ص55، ح102.
[10]  الشيخ الصدوق: صفات الشيعة، ص28، ح39.
[11]  وسائل الشيعة، ج16، ص344، ح9.
[12]  نهج البلاغة، من عهد له كتبه لمالك الأشتر النخعي.