استيعاب الاختلاف الداخلي في المجتمع الإيماني

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. [سورة الحجرات، الآية: 10].

شاءت حكمة الله تعالى أن يكون بين الإنسان وأخيه الإنسان في هذه الحياة الكثير من عناصر الاشتراك والتداخل، وبعض من عوامل التمايز والتغاير. لتكون عناصر الاشتراك والتداخل دافعًا للتعاون والتعايش بين الناس، وعوامل التمايز والتغاير سببًا للتنافس والإبداع والتكامل.

فلو لم تكن بين الناس مساحة من المشابهة والاشتراك، لكان التعايش والتآلف بينهم صعبًا، ولو كانوا متشابهين في كلّ شيء، ونسخًا مكرّرة من بعضهم بعضًا، لما حصل بينهم تنافس وتكامل في المهام والأدوار، تنتظم به الحياة، وتُثرى مسيرتها بالتطوير والإبداع.

إنّ التعايش والتآلف ضرورة لاستقرار وأمن كلّ مجتمع بشري، كما أنّ التنوع والتنافس في الإبداع الفكري، والإنتاج العملي، وتحقيق المكاسب والمصالح، أمر مطلوب لتقدّم المجتمع وتطوّره وارتقائه.

من هنا يركّز الدين على التذكير بمساحة الاشتراك والتداخل بين أبناء المجتمع، كالانتماء الإنساني، ووشائج الرحم والقرابة، ومقتضيات الجوار والصحبة، وتبادل المصالح والاحتياجات، ووحدة الانتماء الديني.

كلّ هذه الأمور وأمثالها يجب أن تستحضر ويفعّل دورها في الحياة الاجتماعية، لتعزيز حالة التعايش والتعاون بين أبناء المجتمع.

وإلى جانب ذلك يشجّع الدين على إذكاء حالة التنافس الإيجابي في نيل المكاسب المعنوية والمادية، وفي إبداع الأفكار وإنجاز الأعمال.

يقول تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ. [سورة المطففين، الآية: 26].

ويقول تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. [سورة هود، الآية: 7].

ويقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا. [سورة طه، الآية: 114].

الاختلاف طبيعة بشرية

كما يدعو الدين إلى استيعاب حالات الاختلاف الداخلي، التي قد تحصل بسبب تعدّد الآراء، وتفاوت مستويات المعرفة والالتزام الديني. أو بفعل تضارب المصالح وتعارضها.

إنّ بعض المتديّنين تضيق صدورهم بوجود رأي مخالف لرأيهم داخل المجتمع الديني، ويتوقعون أن يكون كلّ المؤمنين في مستوًى واحد من الإيمان، وعلى رأي واحد في كلّ التفاصيل العقدية، والممارسات الشعائرية الدينية.

وانطلاقًا من هذا التوقع والتوجه، يصطدمون مع أيّ رأي آخر، وينتهكون حرمات المختلفين معهم، باتهامهم في دينهم، والتشكيك في نيّاتهم، ويفرضون عليهم الحصار والمقاطعة، مما يسبب تمزّق مجتمع المؤمنين، وتشويه صورة الدين.

إنّ الرؤية الدينية للاجتماع الإنساني رؤية واقعية، تنطلق من أنّ طبيعة البشر تنتج حالة من الاختلاف، كما أنّ طبيعة النص الديني تسمح بتعدّد الاجتهادات والقراءات، ضمن الضوابط المنهجية.

ففي كلّ دين أو مذهب، هناك مساحة محدودة للقضايا اليقينية هي أصول الدين والمذهب، أو الضرورية المجمع عليها، وهناك مساحة واسعة للقضايا الظنية والنظرية، التي تكون مسرحًا لتعدّد الآراء والاجتهادات.

نهج الاستيعاب والمعالجة

ولا بُدّ من استيعاب هذا التعدّد في الآراء بالإقرار بحقّ الاختلاف، وحرية التعبير عن الرأي، والاحترام المتبادل، واعتماد منطق الدليل والبرهان في المناقشة والحوار، لاكتشاف الأقرب للصواب.

وقد أرسى أئمة أهل البيت هذا النهج الاستيعابي للاختلافات الداخلية في الآراء والأفكار في أوساط أتباعهم وشيعتهم، ولم يقبلوا أن يتّخذ بعضهم من بعض موقف القطيعة والبراءة، ولا انتهاك الحقوق وتجاوز الحرمات.

ويظهر من بعض الروايات أنّ الجمهور الشيعي كان يواجه في بعض الأحيان والظروف تحدّيًا خطيرًا على هذا الصعيد، حيث كانت ترتفع حدّة الخلافات في داخله، فقد جاء في الكافي أنّ عبدالأعلى بن أَعْيَنَ قال: (قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ إِنَّ شِيعَتَكَ قَدْ تَبَاغَضُوا، وَشَنِئَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَوْ نَظَرْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي أَمْرِهِمْ)[1] .

ولمواجهة هذه الحالة ومعالجتها، كثّف الأئمة توجيهاتهم لشيعتهم، بأن يسلكوا نهج الاستيعاب والتسامح، وأن يحافظوا على تواصلهم وأخوتهم الإيمانية، استجابة لأمر الله تعالى حيث يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. [سورة الحجرات، الآية: 10]. ونشير إلى بعض النماذج من تلك التوجيهات القيّمة.

موقف وتوجيهات

جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «مَا أَنْتُمْ وَالْبَرَاءَةَ؛ يَبْرَأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَنْفَذُ بَصَرًا مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ‌»[2] . إشارة إلى قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. [سورة آل عمران، الآية: 163].

وفي الكافي أيضًا عن عبدالعزيز القراطيسي قال: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللَّهِ :‌«يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ، إِنَّ الْإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الِاثْنَيْنِ لِصَاحِبِ الْوَاحِدِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‌ءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَاشِرِ، فَلَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ - فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِنًا فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ»[3] .

وعن أحد أصحاب الإمام جعفر الصادق وكان خادمًا وسراجًا له، قال: جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّا نَبْرَأُ مِنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا نَقُولُ، قَالَ فَقَالَ : «يَتَوَلَّوْنَا وَلَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ؟» قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ : «فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ؟» قَالَ قُلْتُ: لَا، جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ : وَهُوَ ذَا عِنْدَ اللَّهِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أَفَتَرَاهُ اطَّرَحَنَا؟» قَالَ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا نَفْعَلُ؟ قَالَ : «فَتَوَلَّوْهُمْ وَلَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ»[4] .

وفي الخصال عن عمّار بن أبي الأحوص قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاَللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا أَقْوَامًا يَقُولُونَ بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَيُفَضِّلُونَهُ عَلَى اَلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلَيْسَ يَصِفُونَ مَا نَصِفُ مِنْ فَضْلِكُمْ، أَنَتَوَلاَّهُمْ؟ فَقَالَ لِي: «نَعَمْ فِي اَلْجُمْلَةِ، أَلَيْسَ عِنْدَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ، وَلِرَسُولِ اَللَّهِ عِنْدَ اَللَّهِ مَا لَيْسَ لَنَا، وَعِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، وَعِنْدَكُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ؟» إلى أن قال : «فَلاَ تَخْرَقُوا بِهِمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَارَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ بِالسَّيْفِ وَاَلْعَسْفِ وَاَلْجَوْرِ، وَأَنَّ إِمَارَتَنَا بِالرِّفْقِ وَاَلتَّأَلُّفِ وَاَلْوَقَارِ وَاَلتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ اَلْخُلْطَةِ وَاَلْوَرَعِ وَاَلاِجْتِهَادِ؟ فَرَغِّبُوا اَلنَّاسَ فِي دِينِكُمْ وَفِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ»[5] .

وفي رجال الكشي عن القاسم الصيقل قال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَهُ [أي الإمام الصادق] فَتَذَاكَرْنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: ذَلِكَ ضَعِيفٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ : «إِنْ كَانَ لَا يُقْبَلُ مِمَّنْ دُونَكُمْ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَكُمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْكُمْ حَتَّى تَكُونُوا مِثْلَنَا»[6] .

وورد عن زرارة قال: (دَخَلْتُ أَنَا وَحُمْرَانُ أَوْ أَنَا وَبُكَيْرٌ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ [الإمام محمد الباقر ] قَالَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّا نَمُدُّ الْمِطْمَارَ، قَالَ: «وَمَا الْمِطْمَارُ؟» قُلْتُ: التُّرُّ [خيطٌ للبناءِ يُقدّر به] فَمَنْ وَافَقَنَا مِنْ عَلَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ تَوَلَّيْنَاهُ، وَمَنْ خَالَفَنَا مِنْ عَلَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بَرِئْنَا مِنْهُ، فَقَالَ لِي: يَا زُرَارَةُ، قَوْلُ اللَّهِ‌ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ، فَأَيْنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا؟ أَيْنَ الْمُرْجَوْنَ‌ ﴿لِأَمْرِ اللَّهِ‌؟ أَيْنَ الَّذِينَ‌ ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا؟ أَيْنَ‌ أَصْحابُ الْأَعْرافِ؟‌ أَيْنَ‌ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ‌؟

- وَزَادَ حَمَّادٌ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: فَارْتَفَعَ صَوْتُ أَبِي جَعْفَرٍ وَصَوْتِي حَتَّى كَانَ يَسْمَعُهُ مَنْ عَلَى بَابِ الدَّارِ)[7] .

وظيفة القيادات الدينية

هكذا كان نهج الأئمة التأكيد على استيعاب الخلافات الفكرية، والتربية على التسامح وتعظيم قيمة الرابطة الإيمانية والانتماء لولاية أهل البيت، وتجاوز مسألة الخلافات الجانبية الجزئية.

وذلك يعني أنّ وظيفة القيادات الدينية في المجتمعات الإيمانية هي التأكيد على هذا النهج، وإنّ القيام بدور التعبئة والتأليب لبعض المؤمنين على البعض الآخر، بمبرّر الاختلاف في بعض الآراء والتوجهات، مخالف لنهج الأئمة، وله نتائج وأضرار سيئة على المجتمع الإيماني.

 

خطبة الجمعة 15 ذو الحجة 1445هـ الموافق 21 يونيو 2024م

[1]  الكافي، ج8، ص223، ح282.
[2]  المصدر السابق، ج2، ص45، ح4.
[3]  المصدر السابق، ج2، ص44، ح2.
[4]  المصدر السابق، ج2، ص42، ح2.
[5]  الشيخ الصدوق: الخصال، ج2، ص354.
[6]  رجال الكشي، ج1، ص367، ح683.
[7]  الكافي، ج2، ص382، ح3.