العلّامة الصفار.. بين ثبات المبدأ وحيويّة المنهج

 

إنّ حديثي عن سماحة الشّيخ حسن الصفّار لن يخلو من الجانب الشّخصي، فلا يحلو لي أن أقدّم دراسة عن الشّيخ في جانب من الجوانب دونما أن أُطعّم ذلك بموقفٍ من هنا أو حدثٍ من هناك، ولا سيّما أنّ هذا المقال يندرج تحت كتابٍ نسجّل فيه شهاداتنا للتاريخ على شخصيّة محوريّة في مسيرة الوطن قرّبت المسافات بين أبنائه، وأعطت صورة مُشرقة عن منطقة بأسرها وعن مدرسة دينيّة تنتمي لها. 

كانت بداياتي معه بعد عودته للمملكة في منتصف التسعينات الميلاديّة، في وقتٍ يُعدُّ بالنّسبة لي مرحلة تفتّق وعيٍ اجتماعي وانبثاقٍ لأسئلة تتحدّى واقعنا الدّيني والاجتماعي لم أجد لها أجوبةً مقنعةً عند التيّار الدّيني التقليدي. لقد جاء الشّيخ ببُنْية خطاب مغايرة وبحديثٍ مفعمٍ بالمفاهيم التي لم نكن نسمعها من رجال الدّين قبله، عندما كانت القراءة الحسينيّة بشكل عام في أغلبها أحاديث عاطفيّة ونَعْياً في أولها وآخرها مع بعض الاستعراض التاريخي في وسطها. لقد رأيت في خطاب الشّيخ منذ ذلك الحين أنّ الدّين ليس في تلك الإطارات الطّائفية والسّجالات المذهبيّة والأحاديث الخرافيّة، بل إنّه ما جاء إلا لإثارة دفائن العقول ووضع مرجعيّة أخلاقيّة وإحداث طمأنينة نفسيّة تكون عوناً للمرء في حياته، لا أن يكون عبئاً يكبّل مُعتنقه فهو لا يقدر على النّهوض في دنياه ما دام قريباً منه.

علاوة على إيمان الشّيخ والتزامه بالقيم الإسلاميّة العامّة قولاً وفعلاً، فقد آمن بمبادئ راقيةٍ انطلق منها فشكّلت عنوان شخصيّته وعلامة تميّزه، ولم يكن تمسّكه بتلك المبادئ بشكل جامدٍ لا يقبل فيها الحوار والمراجعة، بل قدّم فيها قراءةً تليق بظروف الزمان والمكان اللّذَيْن يعيش فيهما، فمثلاً إيمانه بمبدأ التعايش ليس مبنيّاً على قراءات الأسلاف وسيرهم والتي قد لا تخلو من إشكال بمقاييس العصر الحديث، بل على قراءة إسلاميّةٍ عصريّة تعطي الإنسان قيمة بكونه إنسانًا، وأنّ هذا الوطن الذي يتشارك فيه أبناؤه لا بدّ أن تكون علاقاتهم فيه مبنيّة على السّلم وأن تُكفل حقوقهم بغضّ النّظر عن انتماءاتهم الدّينية والقبليّة والمناطقية. وسأحاول فيما يلي استعراض بعضٍ من مبادئ الشّيخ وتطبيقه لها بعد معالجته لها حسب مقتضيات عصره.

حاز بحث الثابت والمتحول في المسائل الدينية اهتماماً كبيراً لدى الشّيخ، وقد ألّف فيه كتاباً وأفرد له ندوة كاملةً في إحدى زياراته للعراق والأخيرة قد لاقت رواجاً إعلاميّاً واسعاً، ولا يخفى على أحدٍ أهميّة هذا الباب الذي يُفتح عبره طريق الاجتهاد والتّجديد. يشير الشّيخ في كتابه (الثّابت والمتغيّر في الأحكام الشّرعية) إلى الفرق بين أحكام الإسلام التّشريعيّة من جهة والتّدبيرية من جهة أخرى، وأنّ الأولى يصدق عليها عنوان الثّابت أمّا الأخرى فمتغيّرة بتغيّر الظّروف المحيطة بها، ويضرب بذلك الأمثلة التي تؤكّد أنّ الكثير من الأحداث التي اتّخذ فيها النّبي محمد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- موقفاً وأصدر عليها أحكاماً إنّما كانت في سياقٍ معيّن لا يصحّ إخراجها منه واتّخاذها كما هي دستوراً في كلّ زمان ومكان، وإلّا لما جاء الأئمّة والعلماء لاحقاً بآراءٍ مغايرة تبدو في ظاهرها مناقضة لقول النّبي وفعله، والأمثلة في ذلك كثيرة يمكن الرّجوع فيها للكتاب المذكور.

لمستُ عند الشّيخ توجّهاً عميقاً في تجديد الفكر الدّيني منطلقاً من أنّ ثمّة متغيّراً يوجب على أبناء كلّ عصر تقديم قراءة تناسب مقتضيات حياتهم، وكأنّه بذلك ينفي أن ليس بالإمكان أبدع ممّا كان، ويرفض أن يكون مجرّد مجترٍّ لعلوم من سبقه. فهو نفسه قد قال لي بضرورة أن تكون هناك مراكز للدّراسات الدّينيّة فيها متخصّصون عدّة في مجالات مختلفة كالفقه والتّاريخ والتّفسير وغيرها من العلوم بحيث تُدرس الأمور فيها من جوانب عدّة وتُصدر على أثرها الآراء حتّى تكون الأحكام العمليّة أصوب وأقرب للواقع ولمقاصد التّشريع. إنّ رؤى الشّيخ هذه مصحوبة ًمع التأمّل في مسيرة العلوم الطّبيعية وأدواتها قد رسّخت قناعة لديّ بضرورة التّجديد في طرق الحوزات العلميّة وهيكلة نظامها، وأنّ الحوزة لا بدّ أن تكون مؤسّسة متكاملة تجمع مختلف المتخصّصين الذين يناقشون بحوثهم في جلساتٍ علميّة وعليها تُصدر الآراء والتّوصيات، لا أن تدور الحوزة في أفلاك الأفراد والتحزّبات داخل الطّائفة الواحدة بنفس الطّريقة ونفس المناهج التي دأب عليها السّلف.

إنّ حيويّة منهج الشّيخ قد جعلت من أفكاره ورؤاه تتخطّى كلّ الحدود، فقد رفض الجمود والانغلاق فلا تراه يتحدّث إلا بالمنظور الإسلامي الواسع وبالحسّ الإنساني الأوسع، لقد ارتقى بمستوى الخطابة الدّينية في وطننا إلى مستوى عالٍ، فلا تراه يُلقي الكلامَ على عواهنه دون دليل، بل يوثّق ما يذكره ويناقش الأدلّة، ولا تجده ينتصر لرأي أو موقف لأبناء مذهبه بشكل أعمى على طريقة المتعصّبين كما قال الشّاعر «ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّة إِنْ غَوَتْ...غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّة أَرْشُدِ». كانت تلك من ضمن أهمِّ الأسباب التي اجتذبت جيل الشّباب المتعطّش لخطاب ديني عقلاني إلى منبره، وتوسّعت الدّائرة فقد شملت المنتمين لكافّة المدارس الدينيّة من المواطنين والمقيمين في داخل محافظة القطيف وخارجها الذين سجّلوا حضورهم وتفاعلهم مع محاضرات الشّيخ في موسم المحرّم. هذا وقد حضرتُ ندوتين له في جدّة قبل أكثر من خمسة عشر عاماً وشهدت تفاعلاً إيجابيّاً مع أطروحاته من أبناء المدارس الدّينية المختلفة أذكر فيها ارتياح مجموعة من الشّباب إلى خطابه وإبداء تعجّبهم من عمق الفكر وسعة الثّقافة وانفتاح المعرفة لشيخٍ ينتمي لمدرسة لا يعرفون عنها إلا صورة نمطيةً تتمثل بطقوسٍ معيّنة وبالنّيل من مقدّساتهم، وفي ختام إحدى الندوتين طلب أولئك كتب الشّيخ كي يتعرفوا أكثر على فكره ورؤاه.

وإلى سلطنة عمان حيث كنت في زيارة برفقة الأخ الأستاذ ميثم الفردان ابن أخت الشّيخ عام 2005م وفيها التقينا بعض معارف الشّيخ القدامى حيث قضى فيها بداية نشاطه الدّيني، وقد رووا لنا تجرِبتهم معه وتأثّرهم بانفتاح فكره وتنوّع مشارب ثقافته مع محافظته على ما عدّوه ثوابتاً في الدّين. صحيح أنّ منهم من اختلف معه في شؤون المرجعيّة خاصّة والتي كانت على صفيح ساخن تلك الأيّام ولكن يكاد يجمع القوم على حسن تأثيره في جيل الشّباب أيام السبعينات الميلاديّة وثنائهم على البرامج الثّقافيّة التي شكّلت حركةً فكريّة تجديدية بثّت الوعي لديهم في مرحلة مهمّة من حياتهم.

وفي وقت غير بعيد عن كتابة هذه السطور شرّفنا سماحة الشّيخ بزيارة إلى المملكة المتّحدة حيث أقيم، وقد حظيت فيها بمرافقته في عددٍ من المناسبات كان الشّيخ فيها مصداقاً لهذا العنوان الذي يدور حوله محور حديثنا، فهو لا يتخلّى عمّا يعدّه ثابتاً ولا يجمد على ما يحتمل التجديد وهذا الأخير مجاله أكبر وأُفُقُه أوسع. أتذكّر كيف أنّه انتقد بعض ممارسات وأفكار بعض المسلمين في الغرب والتي ترسّخ الحالة الطّائفية وتزيد المجتمع انقساماً في حينٍ هو أحوج فيه إلى بثّ حالة من السّلم ليتعايش أفراده بوئام، ولا سيّما إذا كان التنوّع بهذا الشّكل المنقطع النّظير في مدنٍ مثل لندن أو مانشستر، فهو يرى أنّ المسلمين أولى من غيرهم في بثّ ثقافة التّسامح مع نظرائهم في الإنسانيّة وأجدر في البعد عمّا قد يؤذي مشاعر أحد من الخلق، وأنّ المسلم لا ينبغي له أن يخاصم بدينه النّاس سواء أكانت هذه الخصومة بالقطيعة أو الممارسات العنصريّة أو حتى رفع الشّعارات التي يتحسّس منها الآخرون. وقد يجد البعض أنّ من المفارقة أن يكون رجل الدّين الآتي من الشّرق الأوسط هو من يعطي مثل هذه الدّروس لإخوانه الذين عاشوا عقوداً مغتربين عن ديارهم في بلدٍ معروفٍ بالتنّوع والانفتاح منذ قديم الزّمان.

وبغضّ النّظر سواءً أتّفقتَ معه في أمر أم اختلفت فإنّ لأدب الاختلاف في قاموس الشّيخ مكانة مميّزة يترجمها واقع عمليٌّ يشهد به الكثيرون، إنّ من المشهور عنه كثرة المؤلّفات والمحاضرات في هذا الجانب منها على سبيل المثال لا الحصر كتابَي (كيف نقرأ الآخر) و(التّسامح وثقافة الاختلاف)، وهي كتبٌ ذات أفكارٍ جميلة ولكن الأجمل من ذلك في وجهة نظري أنّ الشيخ لا يقول ما لا يفعل، وأنّ خطابه العام في توافق مع خطابه في المجالس الخاصّة وانسجامٍ مع أفعاله وتعاملاته مع القريب أو البعيد. ولم أرَ منه يوماً رغم قوة حجّته وبليغ بيانه وفنّه في أساليب الحوار والمناظرة أنّه يوحي للمختلف معه أنّه «بابُ اللَّه وانقطع الخطاب» أو أنّ الرادّ عليه كالرادِّ على اللَّه، بل طالما وجد في الاختلافات سبيلاً لمراجعة قناعاته ومواقفه، وقد حدث بيننا غير مرّة أن بدّل رأياً بعد الاطّلاع على جوانب تتعلّق بالصحّة والطّب ربما لم يكن قد اطّلع عليها من قبل أو قد سمع من خبير آخر خلافها فعمل على ترجيح أحد الرأيين بناءً على تجدّد المعطيات ورجحان الأدلّة، ولست أشكّ أنّه يستخدم نفس هذا المنهج فيما يتعلّق بالآراء الدّينية والأعراف الاجتماعية.

إذن فحيويّة المنهج هذه تتطلّب المراجعة والنّقد كلما تجدّدت الأمور والظّروف المحيطة بها، ولو أردنا أن نعرف رأي سماحته في هذا المجال أعود بكم إلى ندوة (نقد الذّات) التي أقمناها في مدينة أوكلاند بنيوزيلندا عام 2016م والتي حلّ فيها الشّيخ ضيفاً عبر وسائل التّواصل من بُعد، وقد نُشرت تقارير هذه النّدوة على موقعه وفي كتابي المنشور حديثاً (منتدى أوكلاند الثّقافي...رسائل هموم الغربة ووعي الحياة). قال الشّيخ في خضمِّ حديثه: « إنّ موضوع النقد والمراجعة يلامس ضرورةً، ويلبّي حاجةً، ويعالج إشكالات في أذهان وسلوكيّات شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، وهو أمرٌ ضروري في كل المجالات والمجال الديني ليس مستثنًى من النّقد والمراجعة، قد يظنّ بعض النّاس أنّ الدين لا يُعنى إلا بالثّابت والمطلق من الأمور فلذلك يكون الدين منطقةً محظورةً على النّقد، ولكن الحقيقة أنّ الثابت من أمور الدين لا يحتلّ إلا مساحةً محدودةً جدّاً إذا ما قورنت بمساحة المتبدّل من الأمور. إنّ هناك ثوابتاً في المعتقدات كالإيمان بالله وبالنّبي صلى الله عليه وآله وسلم  وبالآخرة، ولكنّ تفاصيل هذه المعتقدات وجزئيّاتها وما ينبثق منها من أفكار ومعتقدات وممارسات كلها تفاصيل قابلة للأخذ والردّ والبحث». وفي الجانب الآخر لو نظرنا للأحكام الفقهية، ينقل الشيخ الصفّار أنّ العلماء يُقدّرون أنّ المسائل الفقهيّة الثّابتة أي الضروريّة والقطعيّة لا تزيد مساحتها عن 5-6% من مجموع الأحكام، وما سواها قابلٌ للمراجعة قد تختلف بين المجتهدين وتتبدّل عبر الأزمنة. ولا يجد الشّيخ حرجاً في أن تكون عمليّة النقد والمراجعة بشكل واسع خارج الدّوائر المغلقة ويعترف أن لا توجد في حوزاتنا الدّينية آليّة ومنهجيّة واضحة للنّقد داخل المؤسسة، وبالتالي فإنّ الخوف من المراجعة العلنيّة الواسعة يعني تعطيل النّقد.

في تلك النّدوة كان هناك تنوّع في الحضور من الجالية العربيّة المقيمة في نيوزيلندا، ولعلّ مِن ذلك الحضور مَن لم يطّلع من قبل على فكر الشّيخ وشجاعة طرحه فانبهر بما سمع خاصّة وأنّ الصورة النمطيّة للمدارس الدينيّة في أذهان النّاس -ولا سيّما المقيمين في الغرب منهم- أنّ هذه المدارس لا تقبل النّقد والرّد وترفض مراجعة أغلب الأمور باعتبار أنّ المسلّمات والثّوابت منها هي الأغلبيّة السّاحقة وأنّ المتغيّر لا يعدو كونه الجزء البسيط من المعادلة.

كلمة أخيرة

يتمتّع الشّيخ حسن الصفّار بشخصيّة قياديّة وتوكيديّة، وإنّ من تجليّات هذه الشخصيّة إلهامه للآخرين وصناعته للقادة من حوله دون الاستئثار بالقيادة عن طريق تحطيم المنافسين وتقويض الصّاعدين، لقد زرع الشّيخ بذور الفكر التجديدي في عقول الكثير من المسلمين عبر عشرات السّنين من العمل الدؤوب حتى يضمنَ استمراريّة هذا المنهج الحيوي واتّساعَ انتشاره، وعمل على رفع كفاءاتهم وقدراتهم بالنّصح والتقييم. إنّ من الأمور التي تُؤخذ على الكثير من رجال الدّين في موقع القيادة الاجتماعية هي تعاملهم بدونيّة مع مَن حولهم وإن لم يقصدوا ذلك أو يشعروا به هم أو أتباعهم، فترى مَن حولهم قد لا يجرؤ على أن يعترض عليهم في مسألة أو يبدي خلاف رأيهم في موقف، ولكن بحكم تجربتي وتجارب مَن حولي مع الشّيخ فإنّ الأمر مختلفٌ تماماً، فمنذ صغري كان يشعرني بالاحترام والتّقدير ويعزّز من ثقتي بنفسي وكذلك يفعل مع أيّ طرفٍ آخر ليجد نفسه أمام سماحته محاطاً بالاهتمام ومُعامَلاً بالنّديّة دون أن يُمارَس عليه دورُ الوصيّ أو المفتّش. أذكر مرةً عندما كنت صغيراً وقد تجاهلني أحد الحاضرين من السّلام في مجلسه فصافح الجميع وتعدّاني بحكم صغر سنّي رغم وقوفي له، فلم يعطِ الشّيخ الإذن للحضور بالجلوس وقتها حتّى يصافحني ذلك الرجل أسوةً بالجميع، والشّيخ نفسه في ذات المجالس لا يستنكف أن يشاور الصًغير أو البسيط -خاصّة في الأمور التي تتعلق بهم- أو أن يطلب النّقد ممّن حوله عن أطروحاته ومحاضراته، ولطالما سرّه أن يقدّم أحدٌ له نقداً بنّاءً لفكرةٍ طرحها أو مسألة تناولها، ولربما أعاد النظر فيها وقوّمها وذاك لعمري هو جوهر الفكر الحيوي القادر على التكيّف مع الحياة وتلبية احتياجاتها في كلّ عصر.

 

استشاري طب وقسطرة القلب في مستشفى مانشستر الجامعي - بريطانيا،، وكاتب - القطيف.