عاشوراء موسم التعبئة للقيم

 

يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سورة الفرقان، الآية: 43-44].

هناك اتجاهان يتصارعان في أعماق نفس الإنسان، من أجل السيطرة على شخصيته وتحديد مساره ومصيره.

وهما: اتجاه الهوى واتجاه الهدى.

الهوى ينبعث من غرائز الإنسان وشهواته، لتلبية رغباته الجسمية والعاطفية، بينما ينبعث الهدى من ضميره وعقله، للاستجابة للتطلعات المعنوية والروحية.

إنّ تلبية الرغبات الجسمية والعاطفية أمر ضروري لاستمرار وجود الإنسان وأداء وظيفته في هذه الحياة، لذلك أودع الله في نفسه الغرائز والشهوات، كما أنّ الاستجابة للتطلعات المعنوية والروحية، هو ما يحقّق إنسانية الإنسان وتميّزه عن سائر أنواع الحيوان، التي يشاركها في مجال متطلّبات الغريزة والشهوة، لكنّه يفارقها في إحساسه الوجداني وإدراكه العقلي.

الامتحان الكبير

والامتحان الكبير الذي يواجهه الإنسان هو قوة ضغط الهوى والشهوة للسيطرة على قراره، وتوجيه تصرفاته وسلوكه، بعيدًا عن هداية العقل والضمير، وعلى حساب التطلّعات المعنوية والروحية.

وحينئذٍ يصبح الإنسان عبدًا تسيّره الشهوات، ويصبح الهوى بمثابة الإله الذي يخضع له ويطيعه، بدل أن يخضع لله الذي خلقه وأنعم عليه، وسيكون مصيره إليه. وهذا ما تحذّر منه الآية الكريمة: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سورة الفرقان، الآية: 43-44].

(‏وهذا التّعبير القرآنيُّ عن الهوى بالإِله في التزام النّاس اتِّباع الهوى، إنّما هو من دون اعترافٍ منهم بصفة الألوهيّة له، بل قد تكون مستغربةً منهم لو أطلقها أحدٌ عليه من خلال ذلك؛ لأنّ للإله معنًى متميِّزًا مقدّسًا في وعيهم لا يقترب من هذا الواقع الّذي يعيشونه. إنّ هذا التّعبير القرآنيّ يوحي بأنّ حركة المعنى في واقع النّاس هي الّتي تحدِّد الالتزام بالألوهيّة، وليس الانتماء بالكلمة وبالصُّورة؛ لأنّ الألوهيّة هي أن يلتزم الإنسان بالطّاعة للمعبود؛ وبذلك كان الاستسلام للهوى في كلِّ ما يدفع إليه من مواقف، يمثِّل الالتزام بألوهيّته من قِبلِ هذا الإنسان، تمامًا كما هي عبادة الأشخاص، حيث تتمثّل في إطاعتهم والخضوع لإِرادتهم، وإن لم يتّخذوا لهم هذه الصِّفة بشكلٍ مباشرٍ. وهذا ما جاء في القرآن في قوله تعالى في عبادة النّاس للشيطان: ﴿‏‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏‏*‏‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏‏ [‏‏يس: 60 - 61]، حيث اعتبر طاعة الشّيطان عبادةً له، وإن لم يعترف المطيعون بمعنى العبادة فيه، كما أنّ عبادة الله تتمثّل في السّير على خطِّ طاعته والبُعد عن معصيته)[1] .

الانحدار إلى البهيمية

وحين يكون الإنسان عبدًا لهواه، فانه لن يحسب أيّ حساب لأوامر الله تعالى، ولن يستجيب لنداء عقله، ولا يسمع لصوت ضميره، ولا مكان للقيم والمبادئ في نفسه.

وبذلك يتنازل عن إنسانيته، وينحدر إلى مستوى البهائم والأنعام، حيث لا تطلّعات لها، ولا اهتمامات تتجاوز إشباع الغرائز والرغبات الجسمية، بل إنه حينئذٍ يكون أسوأ حالًا من الأنعام ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأنّ الأنعام لا مؤهلات لها للتطلعات المعنوية الروحية، ولا تمتلك القدرات العقلية التي يمتلكها الإنسان. لكنّه يجمّد تلك القدرات ويتجاهل تلك المؤهلات، والآية الكريمة تمثل دقة وموضوعية المنطق القرآني، فهي لا تعمّم الحكم والوصف على جميع هؤلاء بأنهم لا يستفيدون من قدراتهم الحسيّة والعقلية، وإنما أكثرهم، فبعضهم لديه قابلية تجاوز الحالة السلبية التي يعيشها، ربما بحكم نشأته أو ما يحيط به من أجواء، فإذا ما أتيحت له فرصة للهداية استجاب لها. لذلك يقول تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.

ونجد في القرآن الكريم أكثر من آية تؤكّد على هذه الحقيقة لتحذّر الإنسان بشدة من هذا الانحدار والهبوط. يقول تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]. إنهم يغفلون عن عقولهم وعن خالقهم ومصيرهم ويصبحون كالأنعام تسيّرهم أهواؤهم وشهواتهم.

ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [سورة محمد، الآية: 12].

ويأتي في هذا السياق ما ورد عن أمير المؤمنين علي : «فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ، هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا»[2] .

الحاجة إلى التذكير بالقيم

ولخطورة انزلاق الإنسان إلى عبودية الهوى والشهوة، جاءت الرسالات السماوية وبعث الله الأنبياء، وجعل لهم أوصياء، ليذكروا الإنسان بإنسانيته، ويثيروا اهتمامه بالتطلعات المعنوية الروحية، ويوجهونه للالتزام بالقيم والمبادئ في سلوكه وحياته.

وفي عصرنا الحاضر تشتد الحاجة إلى التذكير بالقيم؛ لأنّ الحضارة المادية السائدة تسوق الناس سوقًا إلى اتباع الأهواء والشهوات، عبر تعزيز الأنانية في ذواتهم، وتحريض الرغبات والشهوات في نفوسهم، ودفعهم إلى التنافس على المصالح المادية، والملذّات والمتع الجسمية والعاطفية.

وقد تشيع في أوساط بعض الناس تعابير تنسجم مع مسلك عبادة الهوى من دون الله، ودون التزام بالقيم، وقد لا يقصدون ذلك لكنّ استخدام مثل هذه التعابير، قد تطبّع هذا المسلك في نفس الإنسان.

فمثلًا حينما يأمره أحد بالمعروف وينهاه عن المنكر، أو ينصحه أو يلفت نظره إلى موقف أو ممارسة تخالف الشرع، يجيب على الفور: أنا حرٌّ في تصرفاتي، أو على كيفي، أو هذا لا يعجبني.

صحيح أنّ الإنسان حرٌّ في تصرفاته أمام الآخرين، لكنه يجب أن يُقرَّ بالعبودية لله تعالى، ولا يحقّ له تجاوز أوامر الله ونواهيه، وأن يقول: "ذلك لا يعجبني"، أو "أعمل على كيفي ومزاجي".

ومن المناسب هنا أن نستشهد بموقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم ، مع بشر الحافي:

فقد اجتاز الإمام على دار بشر ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة لترمي بها في الدرب: فقال لها: يا جارية! صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبدٌ؟

فقالت: بل حرٌّ، فقال : صدقت، لو كان عبدًا خاف من مولاه!.

فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السُّكْر: ما أبطأك علينا؟

فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا، فخرج حافيًا حتى لقي مولانا الكاظم فتاب على يده[3] .

استثمار موسم عاشوراء في تعزيز القيم

وإذ نستقبل موسم عاشوراء ذكرى استشهاد سبط رسول الله الحسين بن علي فإنّ أفضل ما نستفيده ونكسبه من إحياء هذه المناسبة العظيمة، هو التذكير بالقيم الإيمانية الأخلاقية، لإحيائها في نفوسنا، واستحضارها في حياتنا وسلوكنا.

فالحسين إنما ثار ونهض من أجل تعزيز هذه القيم في ساحة الأمة، كما ورد عنه : «إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ»[4] .

وورد عنه : «أَلَا تَرَوْنَ إِلَى اَلْحَقِّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِلَى اَلْبَاطِلِ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ اَلْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ مُحِقًّا»[5] .

إنّ المنبر الحسيني يجب أن يركز على إحياء القيم الإيمانية الأخلاقية في النفوس، كقيمة العبودية لله تعالى والالتزام بأمره ونهيه، وقيمة الورع والأمانة والعفة واحترام حقوق الآخرين المادية والمعنوية.

إننا نواجه تحدِّياتٍ ومشاكلَ كثيرة على الصعيد الأخلاقي، وانتشار الاندفاعات العاطفية غير المشروعة، وعلى مستوى العلاقات الأسرية والزوجية، وعلى مستوى النزاهة والذمة المالية تجاه المال العام والأموال الخاصة، كما في قضايا المنازعات في الإرث، والمماطلة في أداء الحقوق والديون.

وأملنا كبير في خطبائنا الحسينيين أن يُولوا هذه القضايا اهتمامًا أكبر، فلا شيء يَسرُّ الحسين وأهل البيت ، كإحياء الدين في النفوس وتعزيز القيم في سلوك محبّيهم وأتباعهم.

وعلى المستمعين والمشاركين في المجالس والمواكب الحسينية أن يفتحوا قلوبهم للموعظة والإرشاد، وأن يقصدوا من مشاركتهم الاستفادة والانتفاع، ليكونوا أقرب إلى الحسين، ولتشملهم شفاعته يوم القيامة.

 

خطبة الجمعة 29 ذو الحجة 1445هـ الموافق 5يوليو 2024م

[1]  السيد محمد حسين فضل الله: تفسير من وحي القران، ج 13، ص 317-318.
[2]  نهج البلاغة، كتاب: 45.
[3]  العلامة الحلي: منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، ص59.
[4]  الشيخ المجلسي: بحار الأنوار، ج44، ص327.
[5]  السيد ابن طاووس: اللهوف في قتلى الطفوف، ص66.