مراعاة القيم في الخصومات والنزاعات

 

يقول تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. [سورة المائدة، الآية: 8].

حين يتورّط الإنسان في خصومة ونزاع مع أحد أبناء جنسه، تُستنفر قوته الغضبية، وتتأجج انفعالاته العدائية، ويسعى بكلّ ما يملك من جهد وقدرة للانتصار على خصمه، وإيقاع أكبر قدر من الضرر والخسائر به.

أكبر تحدٍّ أخلاقي

وهنا يكون الإنسان أمام أكبر تحدٍّ أخلاقي، في إدارة الخصومة والنزاع، هل يسيطر عليه غضبه وانفعاله ومشاعره العدائية، ليخوض الصراع بلا قيود ولا حدود؟ أم يلتزم بسقف القيم الأخلاقية، وحدود المبادئ الدينية، فلا يتجاوزها في خصومته ونزاعه؟

إذا أطلق الإنسان العنان لقوته الغضبية فسيكون أسيرًا لحالة الانفعال، وسيتصرف بعيدًا عن أيّ تفكير سليم، مما قد يعود عليه بالضرر أكثر من خصمه.

ورد عن الإمام علي : «اَلْغَضَبُ شَرٌّ إِنْ أَطَعْتَهُ دَمَّرَ»[1] .

وعنه : «اَلْغَضَبُ يُرْدِي صَاحِبَهُ، وَيُبْدِي مَعَايِبَهُ»[2] .

وقد يبالغ الإنسان في خصومته، ويتجاوز الحدود بغير حقٍّ، حتى يكون في موقع الغلبة، فلا يبدو مهزومًا، حيث تأخذه العزة بالإثم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ. [سورة البقرة، الآية: 206].

ورد عن أمير المؤمنين علي : «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ اَلْإِثْمُ بِهِ»[3] .

استحضار القيم عند الخصومة

تؤكد النصوص الدينية على الإنسان أن يجعل القيم والمبادئ نصب عينيه في مواجهته لحالات الخصومة والنزاع.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. [سورة المائدة، الآية: 8] أي لا يحملنّكم بغض قومٍ وعداوتهم على تجاوز قيمة العدالة في التعامل معهم، فتشهدوا عليهم بغير الحقّ، أو تحكموا عليهم بالباطل. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ على صعيد التعاطي مع من تخاصمونه ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

إنّ التقوى الحقيقية، والالتزام بالقيم يجب أن يتجلّى في مثل هذا الموقف، في التعامل مع الخصم. وهذا ما يفشل فيه كثيرون رغم انتمائهم والتزامهم الديني، إلّا أنّهم عند الخصومة والنزاع، ينقادون لعواطفهم وانفعالاتهم، على حساب العدل والإنصاف، ويتجاوزون الحدود والقيم.

وتصف النصوص الدينية مثل هذا الصنف من الناس بالنفاق، أي ازدواجية الشخصية، وفقدان المصداقية، فقد ورد عن رسول الله في حديثه عن صفات المنافق: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[4]، أي انبعث وانطلق في المعاصي المحرمة.

حصول الخصومات والدفاع عن الحقوق

إنّ من المشروع للإنسان أن يدافع عن مصالحه، وأن يواجه من يعتدي عليه وعلى حقوقه، لكنّ ذلك الدفاع، وتلك المواجهة، يجب أن تكون في إطار الحدود الشرعية، والقيم الأخلاقية.

يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. [سورة البقرة، الآية: 194].

يحقّ للمعتدى عليه أن يردّ العدوان بمثله دون تجاوز وزيادة، فذلك التجاوز يخالف تقوى الله. ويكون استجابة لحسّ الانتقام والتشفي.

ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ‎﴿٣٩﴾‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. [سورة الشورى، الآيتان: 39-40].

ليس مطلوبًا من الإنسان أن يستسلم لمن يعتدي عليه، أو يبغي على حقوقه المادية أو المعنوية، فمن حقّه الدفاع عن نفسه وكرامته ومصالحه، بل قد يكون ذلك مطلوبًا منه، حتى لا تستشري حالة البغي والعدوان، لكن انتصار الإنسان لنفسه وحقّه يكون ضمن ضابطة العدل ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا والأصل أفضلية العفو والتسامح، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ. [سورة النحل، الآية: 126].

هكذا تؤكّد الآيات القرآنية على التزام الإنسان حدّ الأخذ بحقّه دون أن يتجاوز في مواجهته للعدوان والبغي.

مشاكل التجاوز في الخصومات

إننا نواجه الآن مشاكل كثيرة على الصعيد الاجتماعي، فيما يرتبط بإدارة الخصومات والنزاعات البينية، بين الأقرباء داخل العوائل والأسر، وبين الزملاء، وبين الشركاء، وبين المهتمين بالشأن الديني والثقافي.

إنّ حدوث الخصومات والنزاعات أمر طبيعي في كلّ مجتمع بشري، بسبب تضارب المصالح، واختلاف الآراء.

وليس المطلوب دائمًا أن يسكت الإنسان عمّا يعتبره حقًّا له، فقد أعطاه الله الحقّ في الدفاع عن مصالحه وحقوقه، وأقرّت الشريعة الإسلامية أحكامًا وتشريعات لإقامة العدل، وهناك أنظمة وقوانين حاكمة تحمي حقوق المواطنين، عبر المؤسسة القضائية.

فإذا أراد الإنسان حماية وإنقاذ أيّ حقٍّ من حقوه المادية أو المعنوية، فليبدأ بمطالبة الطرف الآخر، وليسعَ للتفاهم معه، وليستعنْ بمن يمكنه التدخل لإصلاح ذات البين، وعودة الحقّ إلى صاحبه. فإذا لم يتحقّق ذلك، يلجأ إلى الشرع، وإلى القضاء، والجهات النظامية المعنية، ويستفيد من المجال المتاح له للدفاع عن حقّه كالمحاماة.

إنّ البعض قد يتردد في الشكوى للدفاع عن حقّه، أو قد يتعرّض للوم من الآخرين، كيف يشتكي عند الجهات النظامية القانونية للدفاع عن حقّه؟ لكنه أمر مشروع ولا إشكال فيه إذا توقف عليه إنقاذ الحقّ. وليكون رادعًا لمن تسوّل لهم نفوسهم الاعتداء على حقوق الآخرين.

فمثلًا في قضايا الإرث، أو التحرش، أو التنمّر، أو التشهير، هناك من لا يرتدع عن الاعتداء إلّا إذا واجهته قوة النظام والقانون.

ويجب أن تبقى إدارة الخلاف والنزاع ضمن إطارها الشرعي والقانوني، وألّا يكون هناك تجاوز خارج هذا الإطار.

النموذج النبوي في معاملة الأعداء

وحين نقرأ سيرة رسول الله نراه حريصًا على المراعاة الشديدة للقيم الأخلاقية، حتى وهو يخوض حرب الدفاع عن الإسلام والمسلمين، ضدّ المعتدين من اليهود والمشركين، فقد كان كما ورد عن الإمام جعفر الصادق : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، دَعَا بِأَمِيرِهَا فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ، وَأَجْلَسَ أَصْحَابَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً»[5] .

وورد عن الإمام علي : «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُلْقَى السَّمُّ فِي بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ»[6] .

وفي إحدى المعارك مع اليهود، مرَّ بلال بامرأتين من اليهود على موقع جثث القتلى، فوبّخه رسول الله قائلًا: «أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلالُ، حَيْثُ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا؟»[7] .

فظاعة الإجرام الأموي

في مقابل هذه القيم الأخلاقية الراقية، والمبادئ الدينية التي تجسّدت في سيرة رسول الله ، تبدو فظاعة ما مارسه الجيش الأموي في كربلاء، تجاه خيرة من على وجه الأرض، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة رسول الله ، الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه.

فقد منعوا عنهم الماء حتى عن النساء والأطفال، ثم مثّلوا بجسد أبي عبدالله الحسين ، ورضوه بحوافر الخيول، وأحرقوا خيام النساء، وسبوا بنات رسول الله ، وأسروهم مع أطفالهم، وجالوا بهم البلدان أسارى يتفرج الشامتون عليهم.

ومن يقرأ كتب التاريخ التي كتبها أعلام أهل السنة يجد شواهد فظيعة مؤلمة.

جاء في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير: (ومالَ النّاسُ عَلى‌ نِساءِ الحُسَينِ عليه السلام وثَقَلِهِ ومَتاعِهِ، فَإِن كانَتِ المَرأَةُ لَتُنازَعُ ثَوبَها عَن ظَهرِها حَتّى‌ تُغلَبَ عَلَيهِ، فَيُذهَبَ بِهِ مِنها)[8] .

وفي البداية والنهاية لابن كثير عن حميد بن مسلم: (تَقاسَمَ النّاسُ ما كانَ مِن أموالِهِ وحَواصِلِهِ، وما في خِبائِهِ حَتّى‌ ما عَلَى النِّساءِ مِنَ الثِّيابِ الطّاهِرَةِ)[9] .

وفي سير أعلام النبلاء للذهبي، والطبقات الكبرى لابن سعد: (أُخِذَ ثَقَلُ الحُسَينِ عليه السلام، وأخَذَ رَجُلٌ حُلِيَّ فاطِمَةَ بِنتِ الحُسَينِ عليه السلام، وبَكى‌. فَقالَت: لِمَ تَبكي؟ فَقالَ: أأَسلُبُ بِنتَ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله، ولا أبكي؟ قالَت: فَدَعهُ! قالَ: أخافُ أن يَأخُذَهُ غَيري!)[10] .

وفي مقتل الحسين للخوارزمي: (أقبَلَ الأَعداءُ حَتّى‌ أحدَقوا بِالخَيمَةِ، ومَعَهُم شِمرُ بنُ ذِي الجَوشَنِ، فَقالَ: اُدخُلوا فَاسلُبوا بِزَّتَهُنَّ. فَدَخَلَ القَومُ فَأَخَذوا كُلَّ ما كانَ بِالخَيمَةِ، حَتّى‌ أفضَوا إلى‌ قُرطٍ كانَ في أُذُنِ أُمِّ كُلثومٍ - أُختِ الحُسَينِ - فَأَخَذوهُ وخَرَموا أُذُنَها، حَتّى‌ كانَتِ المَرأَةُ لَتُنازَعُ ثَوبَها عَلى‌ ظَهرِها حَتّى‌ تُغلَبَ عَلَيهِ)[11] .

إنّ هذه الفظائع التي حدثت بحقّ عترة رسول الله في كربلاء، لا يمكن لمسلم، ولا لإنسان سويّ، أن يمرّ بها مرور الكرام.

إنّ مشاعر الأسى والحزن تجاه هذه المصائب هو انفعال طبيعي وجداني، وإنّ إعلان التعاطف مع ظلامة العترة النبوية، وإدانة وتجريم ما وقع عليهم هو أقلّ ما يفرضه الواجب الشرعي والأخلاقي.

 

خطبة الجمعة 12 محرم 1446هـ الموافق 19 يوليو 2024م.

[1]  الليثي الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص46.
[2]  التميمي الآمدي: غرر الكلم ودرر الكلم، ص91.
[3]  نهج البلاغة، حكمة: 327.
[4]  صحيح البخاري، ح34.
[5]  الشيخ الكليني: الكافي، ج5، ص30، ح9. (دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1407هـ).
[6]  المصدر السابق، ج5، ص28، ح2.
[7]  تاريخ الطبري، ج3، ص14.
[8]  تاريخ الطبري، ج5، ص453، الكامل في التاريخ، ج2، ص 573.
[9]  البداية والنهاية، ج8، ص188.
[10]  سير أعلام النبلاء، ج3، ص303. الطبقات الكبرى، ج1، ص479.
[11]  مقتل الحسين للخوارزمي، ج2، ص37.