المال الحرام
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 188].
من أجلى مظاهر حبّ الذات عند الإنسان، حرصه على ماله وممتلكاته، فكما يهتم بذاته فإنه يهتم بماله، ويدافع عنه كما يدافع عن نفسه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى عمق نزعة حبّ المال في نفس الإنسان، بقوله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾. [سورة الفجر، الآية: 20].
وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾. [سورة العاديات، الآية: 8] يقول المفسرون إنّ (الخير) هنا هو المال بدلالة قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾. [سورة البقرة، الآية: 180].
وكأنّ إطلاق لفظ المال مأخوذ من الميل؛ لكونه مما يميل إليه القلب، كما يقول السيد الطباطبائي في الميزان[1] .
وأهمّ ما يحتاجه الإنسان في حياته الاجتماعية ويبحث عنه؛ هو الأمن على نفسه، ثم الأمن على أمواله وممتلكاته. فكما يرفض ويقاوم الاعتداء على شخصه، فإنه يرفض ويقاوم العدوان على ماله.
ودفاع الإنسان عن ماله مشروع، ورد عن الإمام جعفر الصادق : «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اَلشَّهِيدِ»[2] .
من هنا اعتبر الإسلام حرمة المال موازية لحرمة الدم، فقد بدأ رسول الله خطبته المهمة يوم عرفة في حجة الوداع بقوله: «ألَا إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ علَيْكُم دِماءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ -ثَلاثًا-»[3] .
وورد عنه : «حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»[4] .
وعنه : «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[5] .
وهذه الحرمة لا تخصّ مال المسلم، بل تشمل مال كلّ إنسان ولو كان كافرًا، ما دام ليس محاربًا للمسلمين.
العدوان على أموال الآخرين
وقد يتعرض الإنسان للعدوان على ماله بأحد طريقين:
الأول: العدوان الصارخ الواضح بالنهب والسرقة.
الثاني: العدوان الخادع بالنصب والاحتيال والالتفاف على القانون.
ولعلّ الطريق الثاني هو الأخطر والأسوأ، لما فيه من استغفال واستدراج، وقد يكون أخذ المال من الطرف الآخر بموافقته، أو بغطاء قانوني غير صحيح.
والآية الكريمة ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ قد تكون عامة في التّحذير من التصرف بغير حقّ في أموال الآخرين، سواءٌ كان على شكل عدوان واضح أو عبر الاحتيال، فهي تنهى عن أكل مال الآخرين بالباطل، ويشمل كلّ ما يخالف النظام الشرعي والعرفي.
وقد يكون التّحذير في هذه الآية مركزًا على الطريق الثاني، لذكرها أحد مصاديقه، وهي رشوة القضاة في الخصومات المالية.
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ والأكل كناية عن الأخذ والاستيلاء أو مطلق التصرف مجازًا، أي لا يتصرف أحدكم في مال الآخر بغير حقٍّ، ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي تلقون بالمال إلى الحكام القائمين على محاكم القضاء كرشوة، والادلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة، تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده[6] ، ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
إنّ أخذ المال من أيّ أحدٍ بوسيلة غير مشروعة، كالرشوة والغش والخداع والتحايل على القانون، جرم عظيم، وحرام وإثم، فهو أكل من أموال الناس بالباطل، إنه المال الحرام.
مكافحة الفساد
وسنتحدث عن بعض مصاديق أكل أموال الناس بالباطل، ومنها:
فساد بعض الموظفين، وسوء استغلالهم لمناصبهم الوظيفية، في الأخذ من المال العام، أو من المال الخاص بابتزاز المراجعين، وعدم إنجاز معاملاتهم إلّا بمقابل، أو بتمرير بعض المعاملات المخالفة للنظام والقانون.
ويعتبر الفساد من أهمّ عوائق التنمية، وإضعاف سلطة النظام والقانون، وتبديد ثروات الشعوب، وانتشار الظلم والجور في المجتمع.
وهنا لا بُدّ أن نقدّر الدور الذي تقوم به هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) في المملكة، ومهم جدًا أن يتابع المواطنون البيانات التي تصدرها، والتي تكشف تسلّل الفساد والمفسدين إلى مختلف أجهزة الدولة حتى الأجهزة الأمنية والعدلية، بل حتى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد نفسها لم تسلم من اختراق الفاسدين، كما أفادت بعض بياناتها[7] ، فضلًا عن سائر الأجهزة، كما تكشف الطرق والأساليب الماكرة التي يستخدمونها لكسب المال الحرام، وخيانة الأمانة، على حساب ضمائرهم ودينهم ووطنهم ومجتمعهم.
وواجب على كلّ موظف ومسؤول الحذر من الوقوع في فخ الفساد بتزيين زملاء فاسدين، أو إغراء بعض المنتفعين، وعلى كلّ مواطن ألّا يستجيب لابتزاز الموظفين الفاسدين، بل عليه إبلاغ الجهات المعنية بما يطّلع عليه من حالات فساد.
الالتفاف على القانون
ومن مصاديق أكل الحرام؛ التحايل والالتفاف على القانون عبر المحاكم في الخصومات المالية والعائلية، عبر تقديم الرشاوي، وتزوير الأدلة، والاستفادة من شهود الزور، وحلف اليمين الكاذبة.
إنّ ما يحصل عليه الإنسان بحكم مبني على باطل، ليس حقًّا له، وصدور الحكم لصالحه لا يجعل الحرام حلالًا، حتى لو صدر الحكم عن رسول الله ، فضلًا عن غيره.
ورد عن الإمام جعفر الصادق قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ»[8] .
وورد عن الإمام محمد الباقر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أنه قال: «يَعْنِي بِالْبَاطِلِ اَلْيَمِينَ اَلْكَاذِبَةَ، يَقْتَطِعُ بِهَا اَلْأَمْوَالَ»[9] .
الاحتيال والنصب
ومن مصاديق أكل الحرام الخداع والنصب وبيع الأوهام على الناس لأخذ المال منهم، تارة باسم الاستثمار وجلب الأرباح لهم، وتارة بعنوان التوسط لحلّ المشاكل الرسمية، كالحصول على الوظائف، أو النقل من مكان العمل، أو إطلاق سراح متهم موقوف.
وقد نقل أحد المحامين عبر فيديو نشر له أنّ أحد المقيمين في الكويت، كان يدّعي أنه يستطيع مساعدة السائقين في استخراج رخص قيادة لهم، وكان يتقاضى مبالغ مالية عن هذه الخدمة، وقد أثار توافد الناس عليه الجهات الأمنية وقامت بمراقبته للتعرف على الشخصيات التي تساعده من داخل إدارة المرور، وبعد القبض عليه اكتشفوا أنه يوهم المتقدم بأنه سيساعده في استخراج الرخصة، فإن نجح أخذ المال، وإن رسب برر له وجود ظرف يمنع من مساعدته وأرجع له ماله.
إنّ على الناس أن يتحلّوا باليقظة والوعي، وألّا يفسحوا المجال للنصابين والمحتالين أن يعيثوا في المجتمع فسادًا، ويثروا من المال الحرام.
العناوين الدينية والروحية
ومن أسوأ مصاديق أكل أموال الناس بالباطل، استخدام العناوين الدينية والروحية، لخداع الناس وبيع الأوهام عليهم، وأخذ المال في مقابل ذلك.
وقد حدّثنا القرآن الكريم عمّا كان يفعله كثير من رجال المؤسسة الدينية من اليهود والنصارى في هذا المجال.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾. [سورة التوبة، الآية: 34].
كانوا يبيعون على الناس صكوك الغفران وأماكن في الجنة. كما كانوا يقبلون الرشوة ليقلبوا الحقّ باطلًا والباطل حقًّا، لصالح الأقوياء على حساب الضعفاء.
قال المؤرخون: مرّ على رجال الكنيسة عهد كانوا فيه من أغنى الفئات[10] .
وقد يروج في بعض المجتمعات الإسلامية حالات من استغلال العناوين الدينية والروحية، بادّعاء كشف السحر وإبطاله، وإخراج الجنّ المتلبسين بالإنسان عبر الرقية.
وقد نشرت الصحف المحلية، عن شخص يدعى الشيخ عليّ العمري وكان يمارس الرقية الشرعية مدة عشرين سنة، وبعد أن اعتزل ممارسة الرقية قال: (إنّ الحديث عن تلبّس الجنّ بالإنسان أمر غير صحيح، وأنّ تكلّم الجنّ بلسان الإنسان أمر منافٍ للواقع، مبيّنًا أنّ مثل هذا الحديث لا ينطلي إلّا على طبقة السّذج والمغفلين، ونقلت الصحف عنه القول إنّه لم يثبت في الكتاب ولا السنة أنّ الجنّ يمكن أن يتكلم على السنة الناس، وقال إنّه طيلة عمله لم يحضر إليه طلبًا للشفاء إلّا طبقة السّذج والمغفلين فقط، ثم يتساءل العمري؛ هل الجنّ سذّج فلا يبحثون عن التلّبس إلّا بالفقراء، ولماذا لا يتلّبسون بالأثرياء؟!)[11] .
وقد حذّر أئمة أهل البيت من أنّ هناك من يستأكل بهم.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِرًا بِنِعَمَ اللهِ عَلَى عِبادِهِ»[12] .
وورد عن الإمام محمد الباقر : «الشِّيعَةُ ثلاثةُ أصنافٍ: صِنفٌ يَتَزَيَّنُونَ بنا، وصِنفٌ يَستَأكِلُونَ بنا، وصِنفٌ مِنّا وإلَينا»[13] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «اَلشِّيعَةُ ثَلاَثٌ مُحِبٌّ وَادٌّ فَهُوَ مِنَّا، وَمُتَزَيِّنٌ بِنَا وَنَحْنُ زَيْنٌ لِمَنْ تَزَيَّنَ بِنَا، وَمُسْتَأْكِلٌ بِنَا اَلنَّاسَ، وَمَنِ اِسْتَأْكَلَ بِنَا اِفْتَقَرَ»[14] .
قال الشيخ المجلسي في التعليق على هذا الحديث: (والاستئكال بهم عليهم السلام هو أن يجعلوا إظهار موالاتهم ونشر علومهم وأخبارهم وسيلة لتحصيل الرزق، وجلب المنافع من الناس، فينتج خلاف مطلوبهم، ويصير سببًا لفقرهم)[15] .
وواضح أنّ الحديث يحذّر من الارتزاق بذكر أهل البيت، فهو رسالة وليس مصدر رزق، أو دكان تجارة، ومن تعامل مع ذكر أهل البيت بهذه الطريقة، فإنه يصاب بالفقر، وقد لا يكون الفقر المادي، بل الفقر المعنوي، أو الفقر الأخروي.