الدكتور محمود المظفر وسمات شخصيته العلمية

مقدمة كتاب أصول الحديث المقارن للدكتور المظفر

 

تطوير مناهج الدروس في الحوزات العلمية والمعاهد الدينية، كان همًّا رئيسًا من هموم روّاد الإصلاح في التاريخ الإسلامي الحديث، وذلك لتأثير المناهج على خريجي هذه الحوزات والمعاهد، وهم الفقهاء والدعاة والخطباء، الذين يشكلون مرجعية لجمهور الأمة في فهم معالم الدين ومفاهيمه وأحكامه، وفي تشكيل الثقافة العامة، وتوجيه السلوك الاجتماعي.

فحين واجهت الأمة في العصر الحديث التحديات التي فرضها بروز الحضارة الغربية على المسرح الدولي، بهيمنتها العسكرية، وقوتها الاقتصادية، ومنجزاتها العلمية، وسعيها لنشر ثقافتها على مستوى الشعوب والمجتمعات. في هذه المواجهة انكشف عمق حالة الضعف والتخلف الذي تعيشه الأمة، وخاصة على صعيد مؤسساتها العلمية الدينية التي لم تكن مستعدة ولا مهيأة للاستجابة لهذه التحديات الخطيرة الهائلة.

وهنا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار المصلحين لمراجعة وتقويم مناهج التعليم في المؤسسة الدينية، فهي التي تشكل ذهنية الفقيه، وتوجه مسار إصداره للفتوى، وتصنع الرؤية التي ينطلق منها عالم الدين في أفكاره ومواقفه، وتصوغ للخطيب والمبلغ لغة تخاطبه مع جمهور الأمة.

وتأتي حوزة النجف الأشرف العلمية بعراقتها التاريخية، وتأثيرها الديني الاجتماعي، في مقدمة المؤسسات الدينية المعنية بالاستجابة لهذا التحدي الحضاري الصارخ، حيث انطلقت فيها دعوات لتطوير وتجديد مناهج ومقررات الدروس العلمية. وتجاوز نقاط الضعف والخلل في مناهج ونظام التعليم الحوزوي القائم.

كانت الكتب المقررة للتدريس في مختلف الموادّ العلمية تنتمي لقرون سابقة، كتبها مؤلفوها قبل مئات السنين بلغة عصورهم، وضمن مستوى المعرفة في أزمنتهم وبيئتهم، ومن الطبيعي ألا تكون مواكبة لتطورات العلم والمعرفة التي حصلت في القرون اللاحقة لزمن تأليفها.

ففي النحو مثلاً يدرّس كتاب (الأجرومية) لابن آجروم الصناهيجي (المتوفى 723هـ)، وكتاب (قطر الندى) وكتاب (مغني اللبيب) لابن هشام (المتوفى761هـ)، و(ألفية ابن مالك المتوفى 672هـ)، وفي المنطق تدرّس حاشية الملا عبدالله على تهذيب المنطق (المتوفى 981هـ)، وفي الفقه يدرّس كتاب (تبصرة المتعلمين في أحكام الدين) للعلامة الحلّي، الحسن بن يوسف المطهَّر (المتوفى 726هـ)، وكتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلّي، نجم الدين جعفر بن الحسن (المتوفى 767هـ)، و(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (المتوفى 965هـ)، وفي العقائد وعلم الكلام يدرّس كتاب (شرح الباب الحادي عشر) للفاضل المقداد السيوري (المتوفى 826هـ)، وفي أصول الفقه يدرّس كتاب (معالم الدين) للشيخ حسن بن زين الدين العاملي (المتوفى 1011هـ)، وكتاب (فرائد الأصول) للشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفى 1281هـ).

والخلل الأبرز في اعتماد بعض هذه الكتب كمنهج دراسي، أنها كما قال السيد محمد باقر الصدر في حديثه عن كتب الدرس الأصولي: (لم تؤلف من قبل أصحابها لهذا الهدف، وانما ألفت لكي تعبّر عن آراء المؤلف وافكاره في المسائل الأصولية المختلفة، وفرق كبير بين كتاب يضعه مؤلفه لكي يكون كتابًا دراسيًا، وكتاب يؤلفه ليعبر فيه عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من أفكار وتحقيقات، لأن المؤلف في الحالة الأولى يضع نصب عينيه الطالب المبتدئ الذي يسير خطوة فخطوة في طريق التعرف على كنوز هذا العلم وأسراره، وأما في الحالة الثانية فيضع المؤلف في تصوره شخصًا نظيرًا له مكتملًا من الناحية العلمية، ويحاول أن يشرح له وجهة نظره، ويقنعه، بها بقدر ما يتاح من وسائل الاقناع العلمي. ومن الواضح أن كتابًا يوضع بهذا الاعتبار لا يصلح أن يكون كتابًا دراسيًا مهمًا كانت قيمته العلمية وإبداعه الفكري، ومن أجل ذلك كانت الكتب الدراسية المتقدمة الذكر غير صالحة للقيام بهذا الدور على جلالة قدرها العلمي لأنها ألفت للعلماء والناجزين لا للمبتدئين والسائرين)[1] .

وبملاحظة الموادّ المقررة للتدريس في الحوزة العلمية، نجد أن هناك تغييبًا واهمالاً لجوانب أساس في بنية الفكر والمعرفة الدينية، فليس فيها مقررات معتمدة لتفسير القرآن وعلومه، ولا لعلم الحديث وعلم الرجال المرتبط به، ولا لتاريخ الإسلام، ولا الأخلاق، فضلاً عن العلوم الإنسانية الأخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد. فكل هذه المعارف المهمة تركت لاختيار طالب العلم، ولا ينظر إليها كدروس أساس في النظام الحوزوي.

ولم تكن عملية المراجعة والنقد لمناهج التدريس أمرًا مستساغًا في بيئة تقليدية محافظة، تبالغ في الاعتزاز بأعرافها وتقاليدها، وتحيط كل ما يرتبط بالدين والتراث بهالة من التقديس، وترتاب من أي دعوة للنقد والتغيير، إنها ربما تستهدف طمس هويتها ومحو تاريخها، واضعاف وجودها.

وكأي مجتمع وبيئة بشرية، من الطبيعي أن تضمَّ الحوزة اتجاهات مختلفة، وأن تنشأ فيها مراكز قوى متعددة، فتتضارب المصالح، وينعكس ذلك على الموقف من دعوات الإصلاح والتجديد.

من هنا كانت مهمة الإصلاحيين التجديديين في الحوزة العلمية بالغة الصعوبة، حيث واجهتهم ممانعة شديدة، واتخذت تجاههم مواقف عدائية، جعلت حياة ومصالح بعضهم في معرض الخطر.

لكن إخلاص المصلحين لمبادئهم، ووعيهم بمقتضيات مهمة الإصلاح والتجديد، ألهمهم الاستقامة والثبات، لمواصلة السعي والعمل من أجل تحقيق التطلعات المنشودة.

وكانت الخطوة الأهم بعد تشخيص الثغرات ونقاط الضعف، هي المبادرة إلى تقديم مشروع علمي، يعيد صياغة وترتيب مناهج الدروس العلمية، ويخلق بيئة تعليمية أكاديمية، تتجاوز ثغرات النظام الحوزوي التقليدي.

المبادرة الرائدة:

وقد تحقق النجاح لهذه المبادرة الرائدة على يد الفقيه المجدد الشيخ محمد رضا المظفر (1322هـ ـ 1383هـ) حيث أسس كلية الفقه في النجف الأشرف، بعد جهود مضنية، ومساعٍ حثيثة، ومواجهة كثير من العقبات والصعوبات، بمؤازرة عدد من العلماء الواعين المخلصين، وتم الاعتراف بكلية الفقه رسميًا من قبل وزارة المعارف العراقية سنة 1377هـ ـ 1958م لتكون شهادتها الجامعية معتمدة ضمن النظام التعليمي الرسمي، إلى جانب مقبولية المشروع في الوسط الحوزوي، ومباركته من قبل المرجعية الدينية.

كان إنشاء هذا الصرح العلمي الجديد باعثًا للبدء بترجمة تطلعات الإصلاح والتجديد في مناهج دراسة العلوم الدينية، حيث تصدى الشيخ محمد رضا المظفر، والسيد محمد تقي الحكيم، ولاحقًا الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي وآخرون، لوضع مقررات وكتب دراسية جديدة، بتبويب وصياغة ولغة معاصرة، وباستحداث مقررات لموادّ علمية لم تكن محل اهتمام في النظام الحوزوي التقليدي، كتفسير القرآن وعلومه، وعلوم الحديث، وعلم الاقتصاد.

وشقّت بعض هذه المقررات الجديدة طريقها خارج كلية الفقه، في الوسط الحوزوي العلمي، ككتاب (المنطق) وكتاب (أصول الفقه) لمؤلفهما الشيخ محمد رضا المظفر، وأصبحا منهجين معتمدين في الحوزات العلمية، وكذلك بعض المقررات التي كتبها الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي، كخلاصة المنطق، والتربية الدينية، ومختصر الصرف...

كما أن نجاح (كلية الفقه) أسس لتجربة أخرى تبنتها المرجعية الدينية العليا في الحوزة العلمية، المتمثلة آنذاك في السيد محسن الحكيم (1306 ـ 1390هـ) حيث أنشأ مدرسة العلوم الدينية سنة 1383هـ ـ 1963م وعرفت بـ (دورة السيد الحكيم) والتي انتهجت مسلك التجديد في منهجها الدراسي، وأدخلت موادّ جديدة في مقرراتها الدراسية، ككتاب (الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية) و(ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي)، و(فلسفتنا) و(اقتصادنا) من مؤلفات السيد محمد باقر الصدر، وكتاب (البيان في تفسير القرآن) للسيد الخوئي. واعتمدت نظامًا تعليميًا أقرب إلى الحالة الاكاديمية، باشتراط مؤهلات في الطلاب الملتحقين، وتحديد سنوات الدراسة والتخرج، وإجراء الامتحانات.

إن حركة الشيخ محمد رضا المظفر الإصلاحية شكّلت منعطفًا كبيرًا في مسيرة الحوزة العلمية، وكان مقدرًا لها أن تحقق المزيد من الإنجازات، لولا التطورات السياسية في العراق، وسياسات حزب البعث الحاكم المناوئة للحالة الدينية، والذي فرض حالة من الحصار والضغوط المكثفة على الحوزة العلمية.

ومن الثمار المباركة لحركة الشيخ المظفر فتح المجال وشق الطريق أمام مبادرات التجديد في وضع مناهج دراسة العلوم الدينية، حيث كسرت مبادرته الناجحة في وضع منهج جديد للمنطق وأصول الفقه، حالة الجمود والركود على المناهج القديمة.

كما أن طبيعة النظام الأكاديمي في كلية الفقه، كانت تقتضي وضع مقررات جديدة، وكان من أهم تلك المقررات من حيث القيمة العلمية بحوث السيد محمد تقي الحكيم في (أصول الفقه المقارن) وفي دراسة التاريخ الإسلامي.

ويعتبر الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي من أبرز الكفاءات المبدعة ضمن مدرسة الإصلاح والتجديد العلمي، حيث بدأ فور تخرجه ضمن الدفعة الأولى من كلية الفقه، بوضع مقررات ومناهج دراسية اعتمدتها الكلية، وشقت طريقها في الوسط الحوزوي، واستمر طوال حياته يحمل هذا الهمّ، ويمارس هذه المهمة بكفاءة وإبداع، نظرًا لعمق دراسته الحوزوية، واستكماله لمسار التعليم الأكاديمي بنيل درجة الماجستير ثم الدكتوراه، إضافة لجديته في البحث، وموسوعية معارفه. فوضع مقررات ومناهج دراسية في مختلف العلوم الأدبية والإسلامية، أصبحت معتمدة للتدريس في عدد من الحوزات العلمية والجامعات والمعاهد الأكاديمية.

وتكريسًا وتعزيزًا لهذا النهج الإصلاحي التجديدي جاءت مبادرة السيد محمد باقر الصدر، بالتصدي لوضع منهج جديد متكامل لدراسة علم الأصول في الحوزة العلمية، ضمن ثلاث حلقات ومستويات، أنجزها سنة 1397هـ، يبدأ مع الطالب في مرحلة دراسته الأولى لهذا العلم، ويواكبه إلى وصوله لمستوى الحضور في أبحاث الخارج مرحلة الدراسات العليا.

سيرة حافلة بالإنجازات العلمية:

ومن الثمار اليانعة ومن خير من أنجبت هذه الحركة الإصلاحية المباركة، الدكتور الشيخ محمود المظفر، فقد نشأ وترعرع في أحضانها، تحت رعاية والده الفقيه الشيخ محمد حسن المظفر (1301 ـ 1375هـ) وعمه الشيخ محمد رضا المظفر الرائد الأول لهذه الحركة التجديدية، وكان من أوائل الطلبة الملتحقين بكلية الفقه، وبعد تخرجه عاد اليها أستاذًا لمادة (أصول الحديث) حيث وضع المنهج المقرر لهذه المادة. إضافة إلى مشاركته الفكرية في مختلف الأنشطة الثقافية كالكتابة في مجلة (النجف) التي تصدرها الكلية.

وسيرة الدكتور محمود المظفر حافلة بالإنجازات العلمية، والممارسة التعليمية، والخبرة الأكاديمية، وكان وفيًا للهمّ الأول الذي حملته الحركة الإصلاحية وهو الاهتمام بالتجديد في مناهج تدريس العلوم الدينية، وإذا كان قد وضع منهجًا لتدريس أصول الحديث في بدايات مسيرته العلمية، لطلاب كلية الفقه في النجف الأشرف، فإنه فيما بعد وضع وشارك في مقررات علمية اعتمدت للتدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة منها:

مبادئ القانون والالتزامات: وهو كتاب دراسي مقرر على طلبة الانتساب بالجامعة، بالاشتراك مع زميل له، نشر سنة 1987م بجدة.
المدخل لدراسة الأنظمة: بالاشتراك مع أساتذة آخرين، وهو كتاب دراسي مقرر على طلبة قسم الأنظمة نشر سنة 1993م.
المقدمة في دراسة الأنظمة: بالاشتراك مع أساتذة آخرين بقسم الأنظمة (القانون) نشر سنة 1419هـ.
الوسيط في دراسة الأنظمة: بالاشتراك مع أساتذة آخرين بقسم الأنظمة (القانون) طبع سنة1997م.
الملكية والأموال: يبحث في الأموال وتقسيماتها وتطبيقات حق الملكية، مذكرات خاصة بطلاب قسم الأنظمة (القانون).
ومن كتبه العلمية المهمة التي أصبحت مراجع للبحث في الأوساط الأكاديمية، كتاب (نظرية العقد ـ دراسة قانونية مقارنة بفقه الشريعة الإسلامية) نشر من قبل دار حافظ بجدة سنة 2002م وأعيد نشره خمس مرات.

وتمتاز شخصية الدكتور المظفر بالخلق الإنساني الرفيع، الذي انعكس على أعماله العلمية، وعلى تعامله مع طلبته وتلامذته، وعلى علاقاته بزملائه ومحيطه الاجتماعي.

فهو في بحوثه العلمية يلتزم بأعلى درجات الأمانة والأدب، في عرض الآراء والنظريات المختلفة، وفي تقويمها ونقدها.

وهو في تعامله مع طلابه يتمتع بروح أبوية تربوية، وبرحابة الصدر، حيث يشجع طلابه على النقد وحرية التفكير، ويعزّز في نفوسهم الطموح والثقة، ويبدي لكل واحد منهم بالغ الاحترام والتقدير، وفق ما ذكره كثير منهم.

أما علاقته بزملائه ومحيطه الاجتماعي، فهي تتسم بالحب والمودة، والرزانة والاحترام، فهو هادئ الطبع، حسن الخلق والمعاشرة، يشيد بإيجابيات الاخرين، ويحرص على التواصل مع معارفه حتى في أوقات اعتلال صحته.

وقد حظيت بالتعرف المباشر على شخصيته الكريمة، قبل أكثر من عقدين من الزمن، وكان وقتها مقيمًا في جدة استاذاً في جامعة الملك عبدالعزيز، واستمر التواصل مع سماحته بعد أن تقاعد واختار السكن في مدينة الخبر، وتبادلت معه الزيارات، وجمعتني به مجالس ولقاءات كثيرة، فما رأيت منه إلا التواضع والخلق الرفيع والحديث العلمي النافع، وابداء التشجيع والتحفيز نحو العطاء الثقافي والاجتماعي، وتعزيز توجهات الوحدة والتقارب والاعتدال.

سمات شخصيته العلمية:

وتكشف المؤلفات والأعمال العلمية التي انجزها الدكتور المظفر عن سمات شخصيته العلمية، ومن أبرزها:

أولاً: العمق العلمي في القضايا التي يتناولها، فهو يعود بالفكرة إلى جذورها، ويُرجع الرأي إلى المباني التي انطلق منها، ويناقش النظرية ضمن متبنياتها.

ثانيًا: الجدية وسعة الاطلاع في مورد البحث، بالرجوع إلى المصادر المختلفة، وتتبع الآراء في أوسع مدى تاريخي، وعدم التجاهل لأي رأي أو التقليل من شأنه إلا في إطار معايير البحث.

ثالثًا: اعتماد منهج المقارنة، في سياق الداخل الديني، بعرض آراء المذاهب والمدارس الإسلامية المختلفة، وبين الرأي الديني ومنتجات القوانين والتنظيمات الوضعية.

رابعاً: الانصاف والموضوعية في تقويم الآراء ونقدها، فقد ينتقد رأي جهة دينية يفتقد واقعية التطبيق، منتصراً لرأي قانوني وضعي يراه أقرب إلى مقاصد الشريعة، وقد ينتقد رأيًا سائداً في وسطه المذهبي الذي ينتمي إليه.

كما يتحدث بكل ثقة عن نقاط القوة والايجابية في الرأي الديني أو المذهبي في مقابل الرأي الآخر، على ضوء معطيات البحث العلمي، وعبر المعالجة الهادئة، بعيدًا عن أي تعصب أو تشنج.

خامسًا: اشراقة البيان والوضوح في التعبير عن المطالب والآراء التي يطرحها، وتركيز العرض للفكرة دون استغراق في الإنشاء، ودون غموض أو تعقيد.

وسنرى تجليات بعض هذه السمات في حديثنا عن كتابه (أصول الحديث المقارن).

وقد رسخت لديه هذه السمات من خلال نشأته في أحضان أسرة علمية عريقة، ومواكبته لحركة الإصلاح والتجديد التي قادها أعلام أسرته والمؤازرين لهم من نخبة العلماء والفضلاء.

كما أن البيئة الأكاديمية التي انتمى إليها، طالبًا ثم أستاذًا وباحثًا ومحاضرًا، صقلت هذه السمات في شخصيته، فقد حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم الإسلامية واللغة العربية من كلية الفقه، ثم حصل على درجة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق بجامعة بغداد، وحصل على درجة الماجستير في العلوم الإسلامية مقارن بالقانون من جامعة بغداد، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة في العلوم الإسلامية مقارن بالقانون المدني بمرتبة الشرف الأولى، وكان عضو هيئة التدريس في الجامعة المستنصرية ببغداد لعشر سنوات، ثم كان محاضرًا في كلية الآداب بجامعة بغداد، والتحق بهيئة التدريس في كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، لما يقارب خمسة وعشرين سنة، إضافة إلى عمله كباحث في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي التابع للجامعة. كما عمل محاضرًا غير متفرغ في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بإنجلترا ـ لندن لمدة لا تقل عن اثني عشر عاماً دراسياً.

أصول الحديث المقارن:

ولنا هنا وقفة عرض وتأمل في أول مشروع أنجزه الدكتور المظفر كمقرر دراسي ومنهج تعليمي، وهو كتابه (أصول الحديث المقارن) الذي أعده في الأصل كمادة دراسية، ومحاضرات ألقيت على طلبة السنة الثانية بكلية الفقه في النجف الأشرف، في ستينيات القرن الماضي، ثم عاد إليه فيما بعد ليطوره ويستكمله، لكن المرض والأجل حالا دون أن ينجز كل ما أراد اضافته للكتاب.

إن علوم الحديث ترتبط بمصدر أساس من مصادر الفكر والتشريع الإسلامي وهو السنة الشريفة، حيث يستقي منها المسلمون معظم تفاصيل الأحكام والتشريعات، وتشكل مرجعيتهم في المساحة الأوسع من المعتقدات والمعارف، وموجهات السلوك الفردي والاجتماعي.

ورغم أن القران الكريم هو المصدر الأول والأعلى، وهو قطعي الصدور، مصان من أي تحريف أو تغيير، وهي ميزة تفتقدها السنة الواصلة لأجيال الأمة، إلا أن مهمة القران هي وضع الأسس والقيم، وطرح الكليات والمبادئ، ثم ايكال التفاصيل والتطبيقات إلى السنة، حيث نصّ القران على طاعة الرسول وأخذ ما أتى به، والانتهاء عما نهى عنه، فهو يبين للناس ما نزّل عليهم.

غير أن المشكلة العويصة التي واجهتها أجيال الأمة في التعامل مع أحاديث السنة، هي الملابسات والظروف التي أحاطت بنقل هذه الأحاديث، حيث تدخلت العوامل السياسية، والأغراض المصلحية، وحالات الاختلاف المذهبي والفئوي، لتغييب بعض الأحاديث وإخفائها، وللزيادة والانقاص من بعضها، وللتعارض والاختلاف في مضامينها، ولاختلاق ووضع عدد ضخم من الأحاديث.

وذلك ما اقتضى أن يجتهد علماء الأمة في وضع قواعد واصول لدراسة هذا التراث الحديثي وغربلته، وفرز الصحيح والمعتبر منه، واعتماد درجات للصحة والاعتبار، عبر تقويم شخصيات الرواة، وتمييز الثقات منهم عن الضعفاء والمجهولين والوضاعين، ومن خلال فحص متن ومضمون الحديث المنقول وفق ضوابط علمية شرعية.

وهكذا تشكل علم الحديث بفروعه وأقسامه المختلفة. وأصبحت الإحاطة به شرطًا أساسًا لاكتساب القدرة الاجتهادية في استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة معالم الدين، وأُعتمدت بعض المؤلفات في علم الحديث كتبًا دراسية ومنهجًا للتعليم في الحوزات والمعاهد الدينية.

لكن الدرس الحديثي ـ كسائر دروس العلوم الدينية ـ عانى من الجمود والركود، بل أصبح شبه مغيّب في بعض الأوساط الحوزوية، وجرى التعامل معه كدرس اختياري غير أساس، لينحصر الاهتمام بقواعده في مراحل الدراسات العليا، وكان من أبرز الكتب التي يدرسها الطلاب في الحوزة العلمية كتاب (البداية في علم الدراية) للشهيد الثاني (توفي 966هـ) وكتاب (الوجيز في علم الدراية) للشيخ بهاء الدين العاملي (توفي 1030هـ).

ويعبّر الشيخ باقر الإيرواني عن تعجبه من غياب الاهتمام بمجالات علوم الحديث كعلم الرجال، من خلال مسيرته الدراسية، فيقول في مقدمة كتابه (دروس تمهيدية في القواعد الرجالية): (فتحت عيني في مدرسة النجف الأشرف الحبيبة في فرعي الفقه والأصول، ولم أجد إلى جانب ذلك فرعًا في علم الرجال وقواعده، وإنما كنت أقرأ في تراجم الأعلام أن فلانًا قرأ الرجال على فلان من دون أن ألمس على مستوى التطبيق شاهدًا.

وأنهيت مرحلة السطوح و دخلت مرحلة الخارج و ليس لي أي إلمام من قرب أو بعد بالقضايا الرجالية خصوصًا وقد قرأت في الفقه الروضة البهية والمكاسب و كلاهما بعيدان عن ذلك بتمام معنى الكلمة)[2] .

(وكان المجال الثالث للطفرة التي واجهتها مجال الرجال واسناد الروايات. فما هي طرق ثبوت الوثاقة وكيف نعرف أن فلانًا ثقة أو لا؟ وما هو ضابط حجية الرواية؟ وما هي التوثيقات العامة؟ إن كل هذا لم أعرفه في مرحلة السطوح وبقيت استفيد من الأساتذة هذه النكتة وتلك وأسعى وراء البقية للتعرف عليها.

وكنت اسمع بعض القضايا الرجالية من هذا العلَم أو ذاك عند حضوري بحث الخارج الأمر الذي اشعرني بوضوح بالطفرة)[3] .

وضمن توجهها للإصلاح والتجديد في المناهج الدراسية، اعتمدت كلية الفقه مقررات لتدريس علم الحديث لمختلف مستويات طلابها، وعهدت بمسؤولية التدريس ووضع المقررات لبعض الفضلاء من الحوزة العلمية كالشيخ عبدالمهدي مطر، والشيخ الدكتور أحمد البهادلي، والدكتور السيد عدنان البكاء، والشيخ علي سماكة، ولبعض الخريجين المتميزين من دورات الكلية، كالدكتور السيد عبدالهادي الحكيم والدكتور الشيخ محمود المظفر.

وقد اختار الدكتور المظفر لمقرره أن يكون حول (أصول الحديث المقارن) وذلك لتوسعة أفق الطالب بتعرفه على آراء المذاهب الأخرى، ولتعزيز توجهات التقارب في الداخل الإسلامي، كما يقول في مقدمته: (وجدنا أن ثمة اغفالاً ظل ملحوظًا لدراسة علم الحديث بشكله المقارن، ولهذا عمدنا إلى جعل هذه المادة الدراسية الخاصة بـ (أصول الحديث) قائمة على أساس مقارن بين آراء مختلف المذاهب الإسلامية المتعبد بها، اسهامًا منا في توثيق عرى الترابط بين أتباع هذه المذاهب، وتجسيداً عملياً لفكرة التقريب بين المذاهب).

نهج المقارنة:

وقد التزم الدكتور المظفر بنهج المقارنة في مختلف مواضيع علم الحديث التي تناولها في كتابه، بدءاً من التعريفات وشرح المصطلحات، مرورًا بتاريخ تدوين الحديث ونشأة علومه وتطورها، وذكر أعلام مدرسة الحديث، وأهم المراجع فيها لدى السنة والشيعة. وكذلك في مجال تصنيف الأحاديث، ودرجة اعتبارها، وبنفس المنهجية تناول أوصاف الرواة، وأصول الجرح والتعديل، وما يرتبط بتحمل الحديث وأدائه، وانتهاءً بملحق ختم به الكتاب، ذكر فيه نماذج من أحاديث الرسول وعترته الطاهرة، اختار نقلها من أهم مصدر حديثي عند السنة وهو صحيح البخاري، وأهم مصدر حديثي عند الشيعة وهو كتاب (الكافي) للكليني، ضمن تسعة عشر عنوانًا تتناول مسال عقدية وفقهية، ومن تلك العناوين (من هو المسلم؟ هل رأى النبي الله سبحانه؟ فضائل الإمام علي ـ طهارة الأرض ـ صلاة الجماعة ـ إحياء الأرض الموات)، ولعله قصد من اختيارها وعرضها ضرورة الاهتمام بموارد الاتفاق والاشتراك في التراث الحديثي لمختلف المذاهب الإسلامية، تعزيزًا لروح التقارب التي أشار إلى استهدافها في مقدمة الكتاب.

وإذا كان اختيار الدكتور المظفر لكتابي الكافي وصحيح البخاري هنا أمرًا متوقعًا لتعادل أهمية الكتابين عند الطائفتين، فقد لفت نظري أنه في نهاية الفصل الذي عقده عن (واقع تدوين الحديث) عند السنة والشيعة ختمه (بدراسة موجزة لكتابين مشهورين في رواية الحديث عند الإمامية وأهل السنة، وهما الكافي وسنن أبي داود)، وكان من المفترض أن يقدم دراسة عن صحيح البخاري إلى جانب الدراسة عن الكافي، خاصة وأنه ذكر (أن سنن أبي داود تعد ثالث (الكتب الستة) في الأهمية ومدى قبول أحاديثها)، إن عُدوله عن اختيار الكتاب الأول في الأهمية عند أهل السنة وهو صحيح البخاري ليكون موازيًا لكتاب الكافي الأول في الأهمية عند الإمامية أمرٌ يدعو إلى التساؤل.

وفي الكتاب ـ على صغر حجمه ـ نلتقي بكثير من تجليات السمات العلمية في شخصية مؤلفه الدكتور المظفر. فهو يناقش التراث الحديثي في كتب السنة والشيعة بعقل علمي مفتوح، دون رهبة من الهالة التي تحاط بها كتب التراث، ودون تحيّز أو مجاملة للانتماء المذهبي، ففي عرضه لكتابي الكافي وسنن أبي داود، وبعد أن يتحدث عن قيمة كل من الكتابين، يسجل وقفة نقدية لبعض الأحاديث الواردة فيهما، فعن كتاب (الكافي) يقول:

(وقد استوقفتنا بعض الأحاديث الواردة في الكتاب:

إما من حيث كونها لا تلتقي في الأصل مع معتقدات الامامية ذاتها.
وإما من حيث ما يخالطها من الأساطير التي لا تنسجم مع العقل السليم.
وإما أنها جديرة بالاعتبار، ولكن فقهاء الامامية تركوا الأخذ بها أخذًا بالإجماع أو بالمشهور.
وسنورد لكل من هذه النقاط الثلاث بعض الأمثلة دون الدخول في التفاصيل)[4] .

وعن سنن أبي داود وبعد أن ينقل عن الحافظ ابن الجوزي طعنه في تسعة أحاديث منه، ذكر بأنها من الموضوعات، يقول الدكتور المظفر:

(غير أني لاحظت إلى جانب ذلك  أن هناك قسمًا من الأحاديث ـ بالرغم من ادعاء صحتها ـ مما تلفت النظر وتستوجب الفحص عن سندها ومدلولها)[5] .

ويذكر منها خمسة أحاديث كنماذج، ثم يقول (إلى نحوها من الأحاديث التي يمكن التشكيك وتوجيه الطعون بشأنها لمنافاتها مع أصول الإسلام أو مع نص القرآن الكريم، أو منافاتها مع العقل السليم)[6] .

وينقل عن أبي داود قوله: ( كتبت عن رسول الله خمسمائة ألف حديث، انتقيت منها أربعة آلاف وثمانمائة حديث ضمنتها هذا الكتاب)، فيعلق على ذلك منبهًا إلى مشكلة الوضع والدسّ التي يعاني منها التراث الحديثي.

وحينما يتحدث عن طبيعة الحديث القدسي المنسوب إلى الله تعالى، يقول (لم يُعن الرواة بالأحاديث القدسية عنايتهم بالأحاديث العادية من حيث التمحيص عن سندها ومتنها، ولهذا يخالجني الشك في الكثير مما ورد منها، لا سيما ما يتعلق بقصص الأنبياء وأحداث الأقدمين وشؤون الكون، إذ يغلب عليها طابع الأسطورة أكثر من طابع الواقعية)[7] .

كما يتحدث بكثير من الشك والارتياب عن النسخة المطبوعة المتداولة في الوسط الشيعي من كتاب (سليم بن قيس الهلالي)، فيقول: (أغلب الظن أن هذه النسخة المطبوعة المتداولة الآن بين أيدينا والمنسوبة إلى سليم هي لا تمثل كتاب سليم الذي جاء ذكره في الأخبار الذي اتفقت الكلمة على أهمية محتوياته.

فكتاب سليم الذي حفلت بذكره الأخبار هو كتاب فقه وحديث ـ كما هو المعروف ـ وكما هو المستفاد من نص كلمة الامام زين العابدين في تقريظ الكتاب. أما كتابه المتداول، فهو يتصل بالموضوعات العقائدية والوعظية مضافًا إلى حشوه بالأساطير وبالقصص البعيدة عن واقع الإسلام، وما أحسب هذا الكتاب إلا من وضع القصاصين الذين استهواهم اسم الكتاب وشهرته في الأخبار فنسجوا كتابًا يمثله ولكنه محشو بالقصص والأساطير مضافًا إلى بعض المسائل العقدية الداعمة للكتاب)[8] .

تساؤلات حول تدوين الحديث:

ومن أهم مواضيع الكتاب وفصوله ـ في تقديري ـ هو الفصل الثالث (تدوين الحديث بين الحكم والواقع) حيث ناقش فيه الخلاف الذي برز بعد وفاة النبي بين الصحابة في مسألة تدوين الحديث النبوي (وقد انقسموا حول هذه المسألة إلى فريقين: فريق يميل إلى النهي عن التدوين، وآخر يميل إلى جوازه ومشروعيته)[9] ، وذكر أن الفريق الأول: يمثله كل من الخليفة عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت... أما الفريق الثاني: يمثلهم كل من الإمام علي، وابنه الحسن، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وابن عباس... ونقل نصوصاً في دعم وجهتي نظر الفريقين، ثم استعرض محاكمة تلك النصوص، عبر طريقة الجمع والمواءمة بينها أولاً، بالادعاء أن التعارض بينها بمثابة التعارض الذي يبدو بين العام والخاص، فالرسول نهى بشكل عام عن كتابة أحاديثه، لكنه خصّص هذا العموم بالإذن لبعض الصحابة في الكتابة.

أو أن النهي كان خطوة مرحلية في بداية التشريع مخافة اختلاط السنة بالقرآن، وجاء الإذن أو الأمر بالتدوين في مرحلة لاحقة بعد الأمن من الالتباس فهو بمثابة الناسخ والمنسوخ.

ويردّ الدكتور المظفر كل هذه المحاولات التوفيقية، مرجحاً النصوص المشجعة على التدوين، طاعنًا في حجية النصوص المدعاة في النهي عن التدوين (وعليه، إن أمكن أن يأتي الطعن أو النقاش  واسعًا بالنسبة إلى أحاديث النهي ـ  كما رأينا ـ فإنه ـ أي الطعن ـ لا يمكن أن يأتي ـ وبهذه السعة ـ إلى أحاديث الإذن المقابلة، وذلك لما لأغلبها من قوة سندية ودلالتية معترف بها)[10] .

كما عرض للتساؤلات التي تثار حول عدم تدوين الرسول الحديث في عهده، وذكر إجابات محتملة، لكنه لم يبد اقتناعاً كاملاً بتلك الإجابات فهي في نظره (لا يمكن أن تقضي على كل تلكم التساؤلات التي أثيرت بشان حاجة التشريع إلى التدوين تحت علم الرسول وإشرافه، وبصورته الشاملة)[11]  وحتى ما يثار من إجابة في وسط الشيعة من (أن الرسول أراد أن يكل كل هذه المهمة إلى خلفائه من الأئمة ـ على رأي الإمامية ـ بتبيان بقية الأحكام)[12] .

فإنه يرده بالقول: (غير أن هذا الاحتمال أيضًا لا ينهض على تبديد تلك التساؤلات من حيث أن هذه الكتب الأربعة تختلف كثيرًا فيما عرضته من أحاديث وأن كل ما عرضته منها هو قابل للطعن إذا ما توفرت أسبابه في رأي المحققين من الإمامية)[13] .

ويرجح أخيراً تفسيراً مهمًا مثيرًا يراه أقرب إلى السلامة والصحة، مفاده أن عدم التدوين النبوي للحديث، هو لفتح الباب أمام العقل الإسلامي ليمارس دوره في الاجتهاد تجاه المتغيرات والتطورات التي تفرضها طبيعة الحياة، على ضوء المبادئ والضوابط الشرعية، ولو حصل ذلك التدوين واعتمد كما هو حال القرآن لأصبح المسلمون أمام أزمة في التفاعل مع الأحداث والتطورات الزمنية.  

ويسجل الدكتور المظفر نقده لمبالغة بعض العلماء في الدفاع عن الأحاديث والروايات عبر التكلف في التأويل والتفسير، من أجل تصحيح تلك الأحاديث وتبرير الخلل في اسنادها ومضامينها، فيقول ضمن بحثه عن الحديث المؤوّل: (ولكن يظهر أن ما جرى في ذلك من بعض التأويلات، وإن قام به جمع من الأعلام لم يكن قائمًا على موضوعية واساس متين، وذلك لولوج الحرص عندهم على تصحيح الأحاديث كافة وعلى مدّ عملية التأويل ـ بالتالي ـ إلى كل حديث مختلف منها وإن كانت ملامح التحريف أو الوضع عليه واضحة.

وقد أدى هذا النوع من التأويلات، وتصحيح كل ما ورد من الأخبار مهما كان شأنها، إلى أن ينوء التشريع بأكداس من أساطير الأحاديث التي تصدى لوضعها ـ كما نعرف ـ حفنة من المنافقين والمنتفعين في صدر الإسلام وما بعده.

كما فسح ذلك النوع من التأويل وإقراره الذي لوحظ فيه تجنب الطعن بالروايات أو الرواة المجال إلى تبرير جملة من الأخطاء التي اقترفها بعض الصحابة والتابعين ومن إليهم)[14] .

ومع أنه تحدث عن مكانة الشيخ الكليني وثناء العلماء عليه، وعن مزايا كتاب الكافي بقوله: (وللكتاب مزايا وخصائص مهمة جعلته يحتل مكان الصدارة، من بين كتب الحديث عند المسلمين)[15] .

إلا أنه مارس حقه في النقد، وعبّر عن رأيه المخالف لبعض ما ورد في (الكافي) انطلاقًا من أن (الامامية ـ وهذه ميزة مهمة ـ قد فتحوا الباب على مصراعيه في إمكانية الطعن بكل حديث ورد في كتبهم الأربعة وغيرها .. حتى تلك التي وصفت بالصحة والوثاقة.. الأمر الذي يسمح بإعادة النظر في بعض ما جاء في هذه الكتب من أخبار مشكوك في أمرها، في حين لا يتأتى هذا حسب رأي المشهور لأي واحد بالنسبة إلى كتابي البخاري ومسلم وربما الكتب الأخرى عند أهل السنة)[16] .

وحين استعرض عناوين القسم الأول في الكافي المتعلق بالأصول العقدية قال: (ولكن مما يلفت النظر  أن هذا القسم حوى كثيراً من الأشياء التي لا تنسجم مع مدركاتنا العقلية، لذلك لا بدّ في رأيي من النظر فيها وتمحيصها)[17] .

وفي استعراضه لملحق (الكافي) المسمى (الروضة) يقول المظفر: (فهو (روضة) تجمع أشتاتًا من الورود والرياحين، بيد أنها لا تخلو من (أشواك).. وعلى الخبير المنقب أن يتحاشاها، كما أنها غير متناسقة مع بعضها.. إذ حشدت فيما يظهر حشدًا دونما تنسيق أو تصنيف)[18] .

ويعرض الدكتور المظفر لبعض اجتهاداته الفقهية من خلال ترجيحه لبعض الأحاديث، ففي مسالة وقت صلاة المغرب يقول: (المشهور بين الامامية  أن صلاة المغرب تحدد بوقت غياب الحمرة المشرقية من الأفق وليس بسقوط قرص الشمس، استناداً إلى بعض الأخبار، وقد تسنى لي مراجعة هذه الأخبار، فوجدت أنها لا تداني في دلالتها وصراحتها الأخبار الأخرى التي تجعل سقوط القرص هو علامة دخول صلاة المغرب وحلية الإفطار، وليس غياب الحمرة المشرقية)[19] .

(وأما الأخبار الأخرى المقابلة التي تحدد الوقت بذهاب الحمرة المشرقية، فيمكن حملها على الاحتياط في تأخير الصلاة مقداراً جزئيًا من الوقت يحرز فيه سقوط قرص الشمس عن آفاقها، لا سيما في مثل البلدان التي تحيطها الجبال كمكة المكرمة)[20] .

كما يبدي رأيه في مسألة الزواج بالكتابية (فالمشهور كذلك بين الامامية حرمة هذا الزواج بالعقد الدائم استناداً إلى بعض الأخبار.. غير أنه يمكن حمل هذه الأخبار على الكراهة لا الحرمة جمعاً بينها وبين الأخبار الأخرى القائلة بحلية هذا الزواج)[21] .

وفي مسألة عدة اليائسة والصغيرة، أيّد رأي السيد المرتضى بوجوبها خلافًا للإجماع المدعى عند الامامية بنفي العدة[22]  مستدلاً على رايه بالإطلاق في الآية الكريمة ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وتأييد روايات الكافي لذلك.

لقد كتب الدكتور المظفر كتابه بمنهجية علمية نقدية، ليغرس هذه الروح في نفس طالب العلم عند دراسته لهذا المقرر، وأخال أنه أخذ بعين الاعتبار ما تعانيه الساحة الإسلامية ممن يأخذون ببعض الأحاديث والنصوص المروية دون تمحيص ولا تحقيق، فيسببون كثيراً من الارباك في المجتمع، والتشويه لصورة الإسلام.

وقد أرسى الدكتور المظفر بكتابه (أصول الحديث المقارن) لبنة مهمة في مجال تجديد الدرس الحديثي، وصدر فيما بعد للدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي كتاب (أصول الحديث) في ذات السياق، حيث أعده كمقرر دراسي قام بتدريسه لطلاب الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية العالمية، كما ألف الشيخ محمد باقر الأيرواني كتاب (دروس تمهيدية في القواعد الرجالية).

رحم الله العلامة الدكتور الشيخ محمود المظفر، وأثابه خير الجزاء على ما بذل من جهد كبير في خدم الدين والعلم، وحفظ الله للأمة علماءها المخلصين الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً.

والحمد لله ربّ العالمين.

حسن موسى الصفار

8 ذو القعدة 1443هـ

8 يونيو 2022م

 

اصول الحديث للدكتور محمود المظفر

الدكتور محمود المظفر: أصول الحديث المقارن، الطبعة الأولى، 2024م، دار الانتشار العربي، بيروت - لنبان.
[1]  محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الجزء الأول، ص13.
[2]  الشيخ محمد باقر الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية، ص5.
[3]  المصدر نفسه، ص9.
[4]  أصول الحديث المقارن، ص94
[5]  ص104.
[6]  ص 105
[7]  ص33
[8]  ص77
[9]  ص44.
[10]  ص54.
[11]  ص6
[12]  ص63
[13]  ص63
[14]  ص40
[15]  ص91
[16]  ص93
[17]  ص90
[18]  ص91.
[19]  ص 96-97.
[20]  ص97
[21]  ص98
[22]  ص99