الشيخ الصفار ورؤى المستقبل

 

في أيّ لقاء يجمعك مع فضيلة الشيخ حسن الصفار، يأخذك للتفكير بالمستقبل، واضعًا بعين الاعتبار ظروف الواقع المعيش ومعطياته، ولكن نظرته دومًا نحو الآفاق المستقبلية سواءً على الصعيد النظري أو العملي -ومن خلال تجربتي الطويلة في الاستفادة من فكره وآرائه- رأيته ينظر دومًا للأمام ويتطلَّع للمستقبل، ويخطِّط له برؤى ثاقبة وعزيمة ثابتة.

منذ أول لقاء جمعني مع فضيلته -وكنت حينها في الصف الأول ثانوي- في منزل المرحوم الحاج محمد تقي آل سيف بتاروت، شدَّني تصوُّره للمستقبل، ونظرته الواثقة والثاقبة لما ينبغي أن يكون عليه الشباب أمثالنا. ومع أنه كان لا يزال يافعًا حينها، إلّا أنّ أحاديثه كانت مليئة بالثقة والحماس والرؤية المستقبلية، والدفع باتِّجاه إعادة النظر في دور الشباب وموقعيتهم في إصلاح وتطوير مجتمعاتهم. في ذلك اللقاء الذي جمع ثُلَّة من شباب المنطقة في حوار مفتوح، استحضر الشيخ -حفظه اللَّه- نماذج تاريخية عديدة لشباب أسهموا في تحسين أوضاع مجتمعاتهم، وكذلك لشخصيات معاصرة عملت على تطوير وبناء أمتها، وذكر من بينها نموذج السيد موسى الصدر الذي عمل على التصدِّي لقضايا مجتمعه في لبنان، وكان الصدر حينها بالمناسبة يقوم بزيارات متكرِّرة للمملكة، ويستقبله كبار المسؤولين فيها وهو بزيّه الديني المعروف، وتُغطَّى لقاءاته في القنوات التلفزيونية.

بعد هذه اللقاءات الشبابية، انتظمت في حضور محاضرات الشيخ في القطيف وسيهات بصورة مستمرة، كما كنت أقتنص فترة عودتي من أمريكا للإجازة الصيفية في حضور مجالسه في مدن المحافظة، حيث كانت ملهمة، وتحمل مضامين فكرية وثقافية تناسب اهتمامات الشباب وتطلُّعاتهم، ويقدّمها بطرح تجديدي مخالف للحالة التقليدية السائدة التي تعودنا عليها، بل وتواكب التطوُّرات والتحوُّلات السائدة عالميًّا. فقد كانت تساؤلات الشباب الدينية والفكرية حينها تقف حائرة أمام تعدّد الأُطروحات التي تأثَّرت بها ساحتنا الثقافية، ولم يكن الطرح الديني التقليدي متمكِّنًا من مواجهة الأسئلة والقضايا المطروحة وقادرًا على التفاعل معها، ممَّا حدا بالكثير من الشباب إلى الانخراط ضمن تيارات واتِّجاهات مخالفة للحالة الدينية السائدة.

لقد تمكَّن الشيخ الصفار وقتها من كسب تأييد مجموعة كبيرة من الشباب، وتفعيل دورهم ضمن أنشطة وفعاليات اجتماعية متنوِّعة، لعلّ أبرزها نشر وتوزيع الكتب، والمشاركة في دورات وبرامج تثقيفية وتأهيلية، وكذلك الكتابة والتأليف والنشر في مختلف الصحف الخليجية والعربية. هذا النشاط الاجتماعي والثقافي أعاد للكثيرين من الشباب ثقتهم بالدين وموقعيته، من حيث استحضار الدور الحضاري له في الواقع المعاصر، وتمكّنه من الانسجام مع الواقع المعيش. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اهتم الشيخ حسن الصفار مبكِّرًا بطرح نموذج عملي لدور عالم الدين في المجتمع؛ لكون الحالة السائدة حينها لرجل الدين الانغماس الكامل في القضايا الدينية البعيدة عن قضايا المجتمع التي كانت تُركِّز بكثافة على الأحكام الفقهية والمعارف الدينية فقط البعيدة عن شؤون الحياة. لقد كان هذا الطرح التجديدي حينها يواجه بمقاومة شديدة من قبل القيادات الدينية والاجتماعية التقليدية التي كانت ترى في ذلك خروجًا عن الأعراف التي كانت سائدة، وأن عالم الدين يقتصر دوره على إعطاء الأحكام والرَّدّ على المسائل الفقهية بمختلف تفرُّعاتها وتفاصيلها. وعشنا نحن هذا الجيل مرحلة التحوُّل في دور عالم الدين، ورأينا بعد فترة من الزمن كيف تغيَّرت نظرة الناس لدور عالم الدين، وكيف تفاعل واستجاب مختلف علماء الدين، بحيث أصبحوا أكثر تفاعلًا مع شؤون وقضايا الحياة، وتركوا الدور التقليدي المقتصر على نقل وشرح الأحكام الفقهية إلى دور أكبر وأشمل، ممَّا انعكس على تفاعل المجتمع -وخاصة الشباب- بصورة أفضل مع علماء الدين.

وفي سنوات لاحقة -وكنت حينها لا أزال أواصل دراستي- زار الشيخ حسن الصفار الولايات المتحدة الأمريكية للاطِّلاع على أوضاع الطلبة الخليجيين الدارسين هناك، والتقى بالكثيرين منهم في مدن وولايات مختلفة، وكان حينها يبشّر بضرورة الاستفادة من الفرص المتاحة أمام الطلبة هناك، من انفتاح وتعارف وتواصل مع مختلف التجارب العربية والغربية، ونقل المفيد منها إلى مجتمعاتنا. وكان -أيضًا- يتطلَّع للمستقبل، فدعا لعقد اجتماعات مع النشطاء من الطلبة لتأسيس جمعية طلابية خليجية منفتحة على الجميع، تُعنى بشؤون وقضايا توجيه الطلاب في أمريكا. ومن هنا تم إنشاء «مركز الشباب المسلم» الذي أصبح مظلَّة اجتماعية وثقافية يلتقي ضمن برامجها المئات من الطلبة بشكل منتظم خلال مؤتمرات سنوية عامة ومخيمات محلية، ويستضيف المركز شخصيات دينية من مختلف الدول العربية لإلقاء محاضرات والمشاركة في برامج ثقافية عامة.

لقد تحوّل هذا النشاط الطلابي -وعبر مدى عقود- إلى حاضنة للطلبة الشباب من الجنسين ومن مختلف الدول العربية، ومصنعًا لخلق الكوادر المؤهَّلة في المجال الثقافي والإداري والإعلامي، حيث عقد المركز أكثر من اثني عشر مؤتمرًا عامًّا، وعشرات المخيمات الطلابية، كما كان يصدر عدَّة مجلَّات شهرية منتظمة كـ(الشباب المسلم) و(مريم)، إضافة إلى نشرات تصدرها فروعه في مختلف الولايات. هذا الإنجاز لم يكن ليحدث لولا وجود شخصية تمتلك الرؤية المستقبلية، والأفق المنفتح على الفرص المتاحة، والدفع باتِّجاه تحقيقها.

وفي المجال الفكري، أتذكر أنّ الشيخ حسن الصفار أطلق منذ أواخر الثمانينات مشروعًا فكريًّا تنويريًّا، أعتقد أنه كان سبّاقًا في طرحه، يتعلَّق بفكرة التعدُّدية والتنوُّع. فمثل هذه الأفكار والمفاهيم لم تكن مطروحة أو مستساغة في الوسط الديني حينها، باعتبار أنّها تنطوي على الاعتراف والقبول بالآخر المختلف، وأن طرحًا من هذا القبيل قد يُفسَّر بأنه استعدادًا للتنازل عن الأسس والمبادئ والثوابت. لكنّ هذه الأطروحات التجديدية التي كانت في رؤية الشيخ الصفار تحديًّا قائمًا وأفقًا مستقبليًّا مهمًّا في الوسط الديني، كان البعض متردِّدًا في الإفصاح عن تأييده لها علنًا، وكان الشيخ الصفار يدافع عنها في محاضراته الثَّريَّة التي أقامها في سوريا، وأصدرها لاحقًا في عدَّة دراسات وكتب.

هذه الأطروحات في الحقيقة شملت بصورة طبيعية العديد من المفاهيم ذات الصلة بها، ومن بينها قضايا حقوق الإنسان، والحريات الدينية، والتعايش والتسامح والتعدُّدية وغيرها من العناوين التي تحوَّلت في فترة زمنية لاحقة إلى مواد كتب حولها وفيها الكثير، سواء من الأوساط الدينية أو غير الدينية. وبدا لاحقًا أنّ الكثير من التحفُّظات حول هذه الأطروحات بدأت تتلاشى أو تطرح ضمن نقاشات أكثر موضوعية. وهذه الاهتمامات الفكرية الناضجة جاءت نتيجة للخبرة الطويلة التي اكتسبها من ممارسته العمل الاجتماعي بأشكاله المتعدِّدة، وما يتبعها من تجاذبات، ويُحيط بها من صراعات بين مختلف الفاعليات الدينية والقوى الاجتماعية.

الرؤية المستقبلية لدى الشيخ الصفار -أيضًا- جعلته من الأوائل الذين اشتغلوا فكريًّا على موضوع التقارب المذهبي من زاوية وطنية، حيث كان هذا الموضوع من القضايا الحسّاسة جدًّا، وطرحه يُشكّل دومًا إشكالات مذهبية واجتماعية لدى مختلف الأطراف. تمكّن الشيخ حسن الصفار من الإقدام على طرح هذه القضية من عدَّة أبعاد، تشمل الوحدة الوطنية، والاندماج المجتمعي، والحوار المذهبي، متجاوزًا بذلك كلّ المحاذير والإشكالات المطروحة، ومُلبِّيًا حاجة وطنية ملحّة.

أطلق الشيخ حسن الصفار العديد من المبادرات المتعلِّقة بالحوار بشكل عام، وبالحوار المذهبي خصوصًا، بصورة جعلت منه رمزًا بارزًا في هذا المجال على الصعيد الوطني. ولم يقتصر ذلك على الجانب النظري فقط، بل إنه مارس ذلك عمليًّا من خلال استضافته للعديد من الشخصيات السلفية، ولقاءاته المتكرِّرة مع أبرز رموز المؤسسة الدينية السلفية، وفتح حوار إيجابي معها ضمن سياقات متعدِّدة. وعندما أطلق الملك عبداللَّه بن عبد العزيز في 2003م -عندما كان وليًّا للعهد- مشروع الحوار الوطني، كان الشيخ الصفار من أوائل المشاركين في لقاءاته المتكرِّرة، وقدّم من خلاله العديد من الأطروحات والآراء التي كانت متوافقة مع هذه التحوُّلات والمسارات الجديدة.

وضمن هذا الإطار -أيضًا- تناول الشيخ الصفار قضية تعتبر من القضايا الشائكة والملتبسة، وهي موضوع المواطنة وإعادة مكانته كمفهوم أساس في الفكر السياسي، باعتبار أنه كان من المفاهيم المشوَّشة وخاصة في الأوساط الدينية والفكر الديني، حيث يتداخل الدين والمذهب والوطن ضمن دوائر غير محدَّدة أو واضحة. جاءت أطروحات الشيخ الصفار في هذا المجال معزِّزة لموقعية الوطن أولًا فوق الانتماء المذهبي والديني، وبذلك فقد حسم هذا التداخل ليكون طرحه مُتقدِّمًا على الآخرين، في الوقت الذي كان الكثيرون -وخاصة في الأوساط الدينية- تقدّم الدين والمذهب على الوطن، باعتبار أنّ رابطة الدولة الوطنية جاءت متأخِّرة على روابط الاعتقاد التي تعتبر أنّ لها الأولوية والسيادة من وجهة نظرهم.

وتأتي حوارات الشيخ الصفار المتلفزة وكتاباته في مجال المواطنة ضمن سياقات توافقية، تخلق توازنًا واضحًا بين دوائر الانتماء الديني والمذهبي والولاء الوطني، وممَّا جاء في كتابه (المذهب والوطن) أنه «لا تعارض ولا تزاحم بين الولاء للدين - المذهب والولاء للوطن، فحب الوطن من الإيمان. ومن يخون وطنه لا دين له. والوطن كهف ومأوى لجميع أبنائه على اختلاف مذاهبهم، فهم شركاء في أرضه وخيراته، ويتحمَّلون جميعًا مسؤولية بنائه وحمايته، ويتساوون في حقوقهم وواجباتهم تجاهه. إنّ الوطن لا يضيق ذرعًا باختلاف القناعات المذهبية لأبنائه، فحرية المعتقد حقُّ إنساني ثابت ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. والحب الصادق للوطن يعني حب أبنائه والمنتمين إليه، فما أحب وطنه من ملأ قلبه بالحقد والكراهية لإخوانه المواطنين. وهذا الكتاب دعوة صادقة لبناء وطن المحبة وتعزيز الوحدة الوطنية، عبر احترام الخصوصيات المذهبية، وإذكاء روح التنافس في خدمة الوطن، والعمل من أجل تقدّمه وعزته».

وعلى صعيد آخر، كان للشيخ حسن الصفار آراء جريئة حول قضايا المرأة ودورها العام في المجتمع تخالف السائد في الأوساط الدينية، من ناحية التشدُّد في إعطاء المرأة حقّها في المشاركة في الشأن العام، وتقييد حركتها وحريتها، وتأكيد موقعية ولاية الرجل عليها بصور متشدِّدة ولا تتناسب مع تحوُّلات العصر الحاضر. ناقش الشيخ الصفار هذا الموضوع مبكِّرًا في خطاباته وكتبه، مستعرضًا نماذج بارزة لشخصيات قيادية لنساء بارزات في التاريخ الإسلامي مارسن كامل حرياتهنّ في المشاركة العامة والدفاع عن حقوقهنّ بكلّ جرأة وشجاعة، دون أن يتعارض ذلك مع عفَّتهنّ أو ينتقص من مكانتهنّ. وفي أكثر من لقاء وتصريح، يتناول الشيخ الصفار مواضيع تمكين المرأة ومعالجة المعوِّقات والقيود التي كانت تجعلها حبيسة أمام إطلاق قدراتها وكفاءاتها والحصول على مواقع وظيفية متقدّمة أو المشاركة بفاعلية في شؤون مجتمعها وقضايا وطنها. 

هذا الطرح الجريء وما تبعه من مبادرات جادَّة، واجهت في البداية مواقف متشنِّجة ومُشكِّكة من قبل الكثيرين من مختلف الأطراف، ولكنّها لاحقًا أصبحت مادة متداولة عند الكثير من المثقَّفين والكتّاب، الذين نشر العديد منهم إشادات بهذا الطرح والرؤية التي أسهمت بكلّ تأكيد في تحقيق تقارب وتفاهم بين أطراف كانت مختلفة ومتباعدة أشدّ البعد في المجتمع السعودي، وتخفيف حدَّة أزمة التباعد بين مكوِّناته.

تلك هي بعض النماذج البارزة من مبادرات لا حصر لها، تُنبئ عن رؤية مستقبلية واضحة اهتم الشيخ حسن الصفار بها ولا يزال، حيث إنه كان دومًا يتلمّس آفاق المستقبل، ويدرس متطلَّباته، ويُطلق مبادرات نظرية وعملية لا تتناسب مع الواقع المعيش فقط، بل تأخذ الأفق المستقبلي بعين الاعتبار، ممَّا يجعل منه رائدًا بارزًا في العديد من الأدوار التي قام ويقوم بها.

 

 

رجل أعمال وكاتب، رئيس ومؤسس منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف - السعودية