الفعل الدنيوي في ميزان الدين

 

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. [سورة الملك، الآية: 15].

يصنف الناس في مجتمعات المتدينين، الأعمال التي تصدر من الإنسان إلى صنفين: عمل ديني، وعمل دنيوي.

ويقصدون بالعمل الديني العبادات والشعائر من صلاة وصوم وحج وزكاة وبناء مسجد وحسينية، وما ارتبط بها من البرامج.

أما العمل الدنيوي فهو ما يرتبط بتسيير شؤون حياة الإنسان، من طعام وشراب ومسكن، وكسب للمعيشة، من حرفة أو تجارة أو زراعة وصناعة، وسائر ما يتعلق بأمور الحياة.

بين الفعل الدّيني والدّنيوي

وضمن هذا التصنيف فإنّ هناك فوارق بين العملين في نظر الناس:

أولًا: استحقاق الثواب من الله سبحانه في العمل الديني دون الدنيوي، فالصلاة عمل ديني فيها ثواب، بينما الزراعة والصناعة والتجارة عمل دنيوي لا يراها الناس سببًا للثواب.

وبناء المسجد والحسينية فيه ثواب، بينما بناء بيت السكن أو مصنع العمل ليس كذلك، ضمن هذه النظرة.

ثانيًا: الاهتمام بأداء العمل الديني العبادي وإتقانه، حيث يدقق المتدين في إنجاز ما يراه عملًا دينيًا كالصلاة والصوم والحج، بمراعاة الوقت المحدد للأداء، والأحكام التفصيلية للعمل العبادي، وقد يصل عند بعض المتدينين إلى حدّ المبالغة والوسوسة.

بينما قد يتعاطى في أدائه لمهام الشؤون الحياتية، كقيادة السيارة أو العمل الوظيفي بشيءٍ من التسيب والإهمال، مالم يكن هناك إلزام خارجي، فلا مشكلة لديه في مخالفة أنظمة المرور أو الالتزامات الوظيفية.

ثالثًا: الاحترام والتقدير في الوسط الاجتماعي، فطالب العلم الديني له احترام لا يحظى به طالب علم الهندسة أو الفيزياء أو الطب. ومن يذهب للحج أو العمرة أو زيارة الأماكن المقدسة، يُحتفى به، بينما من يسافر لمهمة دنيوية كالدراسة أو التجارة ليس متعارفًا الاحتفاء بسفره.

هكذا يفرّق الناس بين الفعل الديني والفعل الدنيوي.

الفعل الدّنيوي أمر ديني

إذا تأملنا النصوص الدينية ووعينا مقاصد الشريعة، نجد أنّ هذا التفريق والتصنيف بين هذين النوعين من العمل، وما يترتب عليه من تعامل اجتماعي ليس دقيقًا، وذلك للحقائق التالية:

أولًا: إنّ الدين الذي أمرنا بالعبادات والشعائر الدينية، أمرنا أيضًا بالمهام والأعمال الدنيوية.

يقول تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. [سورة يونس، الآية: 101] وذلك يعني الأمر بالبحث العلمي الفلكي والجيولوجي.

والفقهاء يذكرون أنّ طلب العلوم التي يحتاجها المجتمع المسلم لشؤون الحياة، كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء واجب كفائي، كطلب علم الاجتهاد الشرعي.

ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. [سورة الملك، الآية: 15].

إنّ الله تعالى قد هيّأ الكرة الأرضية وذلّلها، أي سخّرها لمصلحة البشر وأمرهم بالسعي في أرجاء الأرض ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا لتستفيدوا من خيراتها وثرواتها ﴿وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ.

ورد عن النبي محمد : «اِعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاِعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا»[1] ، ومثله ورد عن الإمام الحسن [2] ، وعن الإمام الكاظم [3] .

والنص يتضمن أمرًا بالعمل للدنيا، ثم العمل للآخرة، فالعملان مطلوبان بنفس الدرجة من الاستمرارية والفورية.

وأساسًا فإنّ الله سبحانه خلق الإنسان ليقوم بعمارة الأرض وإدارة الحياة فيها.

يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. [سورة هود، الآية: 61].

الفعل الدّنيوي النافع عبادة

ثانيًا: تشير النصوص الدينية إلى أنّ الإنسان إذا أحسن القصد واستهدف المنفعة المشروعة، فإنه يستحقّ المثوبة من الله في أعماله الدنيوية.

جاء عن رسول الله : «الْعِبَادَةُ سَبْعُونَ جُزْءًا أَفْضَلُهَا طَلَبُ الْحَلَالِ»[4] .

فطلب الحلال، أي الكسب وتحصيل الثروة، جزء من العبادة، بل هو أفضل أجزائها.

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[5] .

وحتى العلاقة الخاصة بين الزوجين ورد عن رسول الله أنها سبب للأجر والثواب من الله تعالى، حيث تحدّث لأصحابه عن ذلك فأثار استغرابهم، حينما قال : «وَفِي بُضْعِ[6]  أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟، قَالَ : «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»[7] .

وعنه : «ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ»[8] .

والقرآن يحدّد ثمانية مجالات كموارد لصرف الزكاة، وأحدها ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. [سورة التوبة، الآية: 60].

وقد تحدّثت الروايات وأفتى الفقهاء أنه: يقصد به المصالح العامة في حياة المسلمين كتعبيد الطرق، وبناء الجسور والمستشفيات، وملاجىء للفقراء، والمدارس، وغير ذلك مما يحتاج إليه المسلمون. ولا يجوز دفع هذا السهم في غير ذلك من الطاعات.

وكان رسول الله يُبدي التقدير والاحترام للعامل الكادح، ويراه عملًا في سبيل الله.

عن كعب بن عجرة قال: مَرَّ عَلى النَّبِيِّ رَجُلٌ فَرَأى أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ مِن جَلَدِهِ ونَشاطِهِ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كانَ هَذا في سَبِيلِ اللَّهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى ولَدِهِ صِغارًا فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى أبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى نَفْسِهِ يُعِفُّها فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ»[9] .

الإشادة بما فيه مصلحة للناس والحياة

ثالثًا: يمجّد الدّين كلّ عمل فيه نفع للناس ومصلحة للحياة.

ورد عنه : «أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»[10] .

وعنه : «خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ اَلْبِرِّ شَيْءٌ اَلْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَاَلنَّفْعُ لِعِبَادِ اَللَّهِ»[11] .

فأيّ نفعٍ للناس وأيّ خدمةٍ يقدّمها الإنسان لأحدٍ من عباد الله، بل حتى من الحيوانات، فإنّ في ذلك أجرًا ومثوبة، فقد ورد عن النبي : «بَيْنمَا رَجُلٌ يَمْشِي بطَريقٍ اشْتَدَّ علَيْهِ الْعَطشُ، فَوجد بِئرًا فَنزَلَ فِيهَا فَشَربَ، ثُمَّ خَرَجَ فإِذا كلْبٌ يلهثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ العطشِ مِثْلَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَملأَ خُفَّه مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَه بِفيهِ، حتَّى رقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَه فَغَفَرَ لَه». قَالُوا: يَا رسولَ اللَّه، إِنَّ لَنَا في الْبَهَائِم أَجْرًا؟ فَقَالَ : «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ»[12] .

إذا قصد الإنسان بعمل الخير التقرب إلى الله تعالى، يكون مستحقًا للأجر والثواب، بل حتى لو لم تكن له هذه النية، فإنّ الله يقدّر له عمل الخير، ويجزيه عليه.

يرى السيد اليزدي في العروة الوثقى أنّ من الجائز أن يثيب الله على عمل الخير ولو لم يأتِ به الفاعل لوجه الله، قال: «نعم تَرَتُّبُ الثواب موقوفٌ على قصد القربة، مع أنّه يمكن أن يُقال بترتّبه على الأفعال الحسنة وإن لم يقصد بها وجه الله، فإنّ الفاعل لها يستحقّ المدح عند العقلاء وإن لم يقصد بفعله التقرّب إلى الله، فلا يبعد أن يستحقّ من الله التفضّل بالثّواب، ويؤيّده: ما في الأخبار المرغّبة من انتفاع الميّت بولده الصالح، مع أنّه لم يقصد القربة في طلبه، وإنّما قصد لذّة النفس بالمقاربة أو بتحصيل الأولاد»[13] .

ويقول الشيخ مرتضى مطهري: «من الممكن أن يُقال: إنّه لا ضرورة لوجود الحسن الفاعلي في قصد التقرّب إلى الله، فإذا عمل شخص عمل خير بدافع وجدانه والرّحمة المستولية على قلبه، فذلك كافٍ ليتحقّق لعمله الحسن الفاعلي، ولا يهمّ حينئذٍ أن يكون الدّافع هو الله أو الإنسانيّة»[14] .

الدين رؤية ومنهج حياة

إنّ الدين في حقيقته ليس مجرّد معتقدات في زاوية من ذهن الإنسان، ولا يتلخص في مجموعة طقوس وشعائر عبادية تؤدى في مكان وزمن محدود، بل هو رؤية ومنهج في الحياة، يعطي لوجود الإنسان معنى وقيمة، ويجعله متصلًا ومنفتحًا على مصدر وجوده ومدركًا لدوره في هذه الحياة، فتكون كلّ أعماله وتصرفاته في مختلف الشؤون والمجالات ضمن إطار هذه الرؤية والمنهج، وبذلك يكون عابدًا لله في جميع حركاته وسكناته.

يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‎﴿١٦٢﴾‏ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. [سورة الأنعام، الآيتان: 162-163].

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لاَ بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ خَالِصِ اَلنِّيَّةِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا اَلْمَعْنَى يَكُونُ غَافِلاً»[15] .

وانطلاقًا من هذه الرؤية فإنّ على المسلم أن يهتمّ بإنجاز كلّ عمل يخدم الحياة وينفعه وينفع الناس، وأن يتقن أداء أعماله المرتبطة بشؤون حياته المختلفة، كما يحرص على إتقان أدائه لعباداته.

وفي مجتمع المتدينين ينبغي أن تسود ثقافة التشجيع على الاهتمام بالأعمال الدنيوية وأدائها بانتظام وإتقان، إلى جانب الالتزام بالبرامج والشعائر الدينية.

 

خطبة الجمعة 27 جمادى الأولى ١٤٤٦هـ الموافق 29 نوفمبر ٢٠٢٤م

[1]  تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ج2، ص234.
[2]  بحار الأنوار، ج44، ص138.
[3]  من لا يحضره الفقيه، ج3، ص156.
[4]  الكافي، ج5، ص78، ح6.
[5]  الكافي، ج5، ص88، ح1.
[6]  بُضع: بضم الباء، يطلق على الجماع.
[7]  صحيح مسلم، ح1680. باب بيان أنّ اسم الصدقة يقع على كلّ نوع من المعروف.
[8]  صحيح البخاري، ح2162. باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه.
[9]  الألباني: صحيح الترغيب، ح1692.
[10]  سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح906.
[11]  بحار الأنوار، ج77، ص139.
[12]  صحيح البخاري، ح2363. باب فضل سقي الماء.
[13]  السيد محمد كاظم اليزدي: العروة الوثقى، كتاب الوقف، ج6، ص282، مسألة: 3. (مؤسسة النشر الإسلامي، قم - إيران، ط3، 1429هـ)
[14]  الشيخ مرتضى المطهري، العدل الإلهي، ص353.
[15]  بحار الأنوار، ج67، ص210.