ولا تنس نصيبك من الدنيا
يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾. [سورة القصص، الآية: 77].
حسب الرؤية الدينية فإنّ أمام الإنسان حياة أخرى بعد هذه الحياة، وأنّ عليه أن يتطلع لمستقبل أفضل في الحياة الأخرى، وأنّ يعمل بما آتاه الله من إمكانات وقدرات لصناعة ذلك المستقبل الأخروي الأفضل.
يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾.
لكنّ التطلع للآخرة لا يعني اللامبالاة والإهمال في إدارة هذه الحياة الدنيا، فإنّ صناعة المستقبل الأخروي يتم عبرها، والإدارة الأفضل للحياة الدنيا هي طريق الفوز والنجاح في الآخرة.
لذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾.
والآية الكريمة جاءت في سياق النصيحة والوعظ لقارون، من قبل الصالحين من قومه، أو من نبي الله موسى .
وحديثنا حول هذه الفقرة الثانية.
والنسيان المنهي عنه ﴿وَلَا تَنسَ﴾ كناية عن الترك والغفلة، أي لا تترك ولا تغفل عن نصيبك من الدنيا.
والنصيب هو الحصة والقسط، فالشيء الذي يُحدّد ويُميّز لأحد، يقال هذا نصيبه والقسم المخصص له.
يقول تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾ [سورة النساء، الآية: 7]، أي حصة معينة من الإرث.
إنّ الله تعالى خلق وسخّر ما في الكون من خيرات وثروات لبني البشر جميعًا.
يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾. [سورة الجاثية، الآية: 13]
فلكلّ إنسان حصة ونصيب في ثروات وخيرات هذا الكون، وعليه ألّا يترك حصته ونصيبه، ويغفل عنه وينساه.
بالسعي تنال المكاسب
إنّ على الإنسان أن يعمل ويسعى للحصول على حصته في هذه الحياة.
وهل هناك من ينسى ويترك حصته ونصيبه في الحياة حتى تنهى الآية الكريمة عن ذلك؟
نعم. هناك من البشر من يتقاعس ويتكاسل عن السعي والعمل، ويرضى لنفسه بالحدّ الأدنى من المكاسب، ويترك المستوى الأعلى الذي يمكن أن يحققه منها.
قد يكون ذلك لعجز يعاني منه الإنسان في قدراته الجسمية أو الذهنية، أو لظروف قاهرة أحاطت به تعوقه عن السعي والحركة. وهذا لا لوم عليه وهو معذور شرعًا وعقلًا.
وقد يكون ذلك بسبب الكسل وضعف الحركة، أو عدم تنمية القدرات والمهارات، وهذا ما تحذّر منه النصوص الدينية.
ورد عن الإمام محمد الباقر : «اَلْكَسَلُ يُضِرُّ بِالدِّينِ وَاَلدُّنْيَا»[1] .
وعنه : «إِنِّي لَأُبْغِضُ الرَّجُلَ أَوْ أُبْغِضُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ كَسْلَانًا [كَسْلَانَ] عَنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ»[2] .
وعن الإمام موسى الكاظم : قَالَ أَبِي لِبَعْضِ وُلْدِهِ: «إِيَّاكَ وَالْكَسَلَ وَالضَّجَرَ فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِكَ مِنْ حَظِّكَ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[3] .
إنّ سعي الإنسان هو الذي يحدّد نصيبه في هذه الحياة، يقول تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾. [سورة النجم، الآية: 39].
هناك ثلاثة مستويات للسعي لمكاسب الحياة:
الأول: مستوى الحاجة، وواجب على الإنسان عقلًا وشرعًا أن يسعى لتوفير احتياجات حياته وحياة من يعول. ولا يجوز له أن يقصّر في السعي ما دام قادرًا على ذلك.
الثاني: مستوى الرغبة، فبعض الناس قد يرتبط مستوى سعيه لما زاد على حاجته بمدى الرغبة والمزاج.
الثالث: مستوى القدرة والطاقة، فيعمل بمقدار طاقته وقدرته، ولا يكتفي بتوفير احتياجاته فقط، ولا يتحكم المزاج في مقدار حركته وعمله.
وهذا هو المستوى الأفضل؛ لأنه يفعّل طاقة الإنسان وينمّي قدراته، ويساهم بذلك في قوة مجتمعه، وتقدّم وطنه.
التحفيز للفاعلية والإنتاج
ونجد النصوص والتعاليم الدينية تحفّز الإنسان للمزيد من الفاعلية والإنتاج، وكسب الثروة، وإعمار الحياة، ما دام يمتلك القدرة والقوة.
ورد عن رسول الله : «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا»[4] .
إنّ العمل قوة ونشاط، فحينما يعمل الإنسان ويتحرك، يبدو له وكأنه صرف من جهده وطاقته، واستهلك من قوته وراحته، وفي الحقيقة فإنه في الوقت ذاته الذي أعطى فيه يكون قد أخذ أكثر مما أعطى. ذلك أنّ العمل والحركة مصدر قوة للنفس والجسم.
فإنّ العمل يملأ الفراغ النفسي ويرفع معنويات الإنسان، عبر شعوره بأنّ له دورًا وإنتاجًا، كما يجعله أكثر تفاعلًا مع الطبيعة والحياة والمحيط الاجتماعي.
جاء في رواية عن الإمام محمد الباقر : «كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجُ فِي اَلْهَاجِرَةِ فِي اَلْحَاجَةِ قَدْ كَفَاهَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ اَللَّهُ يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ اَلْحَلاَلِ»[5] .
وعن محمد بن عذافر عن أبيه قال: أَعْطَى أَبُو عَبْدِاللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] أَبِي أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ: «اِتَّجِرْ لِي بِهَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لِي رَغْبَةٌ فِي رِبْحِهَا، وَإِنْ كَانَ اَلرِّبْحُ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُتَعَرِّضًا لِفَوَائِدِهِ»[6] .
ويشير الإمام جعفر الصادق إلى أنّ العمل له تأثير في إنضاج فكر الإنسان ورأيه، وفي تنمية إمكاناته وقدراته، حيث أعرب له أحد أصحابه وهو معاذ بن كثير، وكان تاجرًا للألبسة، في رغبته ترك العمل في السوق، لاكتفائه المادي قائلًا: إِنِّي قَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدَعَ اَلسُّوقَ، وَفِي يَدِي شَيْءٌ، قَالَ : «إِذَنْ يَسْقُطَ رَأْيُكَ، وَلاَ يُسْتَعَانَ بِكَ عَلَى شَيْءٍ»[7] .
وفي رواية أخرى، سأل الإمام جعفر الصادق صاحبه معاذ بن كثير: «يَا مُعَاذُ، أَضَعُفْتَ عَنِ اَلتِّجَارَةِ أَمْ زَهِدْتَ فِيهَا؟» قُلْتُ: مَا ضَعُفْتُ عَنْهَا، وَلاَ زَهِدْتُ فِيهَا، قَالَ : «فَمَا لَكَ؟» قُلْتُ: كُنْتُ أَنْتَظِرُ أَمْرَكَ، وَذَلِكَ حِينَ قُتِلَ اَلْوَلِيدُ، وَعِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ وَهُوَ فِي يَدِي، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلاَ أَرَانِي آكُلُهُ حَتَّى أَمُوتَ، فَقَالَ : «لاَ تَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ»[8] .
إنّ تحفيز الدين للإنسان لتحصيل نصيبه الأعلى من الدنيا، هو من أجل إعمار الأرض واستثمار خيراتها، فقد أوكل الله تعالى هذه المهمة للإنسان. يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾ [سورة هود، الآية: 61]، من أجل تفعيل طاقات الإنسان وتنمية قدراته، ولكي يوظّف الإنسان مكاسبه الدنيوية في صناعة مستقبله الأخروي، حين يلتزم بالمبادئ والقيم، كما يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾. [سورة القصص، الآية: 77].
دخل أمير المؤمنين علي على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذًا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ»[9] .
المنافسة العالمية في النمو الاقتصادي
إننا نعيش في عالم تتنافس فيه الدول والمجتمعات على بلوغ أعلى درجات النمو الاقتصادي، وقد حبى الله بلادنا بكثير من النعم والثروات، ولا تنقص الإنسان فيها الكفاءات والطاقات الذاتية، وما يحتاج إليه هو الظروف المشجعة والثقافة المحفزة لصقل إرادة العمل والحركة والسعي من أجل النهوض بمجتمعنا إلى مستوى المنافسة العالمية في النمو الاقتصادي.
وفي وطننا الغالي هناك الآن رؤية طموحة تحفّز المواطن للتطلع نحو صناعة المستقبل الأفضل، ببذل الجهد ومضاعفة الحركة والسعي.
وحين نقرأ عن نماذج من أبناء الوطن نجحوا في تحقيق مستوى متقدّم من النمو الاقتصادي، فهذا ما يجب أن يفرحنا ويشجّعنا على الاستفادة من تجاربهم وتوسيع مساحة الثراء والإنتاج في اقتصادنا الوطني.
فقد نشرت الصحافة المحلية هذا الأسبوع عن انضمام سبعة ملياردير جديد هذا العام إلى قائمة المليارديرات السعوديين[10] .
ونأمل أن تتسع القائمة كلّ عام، وتلحق بها أسماء جديدة من مختلف مناطق المملكة، خاصة وأنّ بلادنا تستقبل حدثًا عالميًا مهمًّا هو استضافة كأس العالم لكرة القدم 2034م، وهو ما يفتح الفرص أمام الكثير من المشاريع الاستثمارية في مختلف المجالات.
نسأل الله تعالى أن يبارك للأثرياء في ثرواتهم ويوفقهم في خدمة الشعب والوطن.
وأن يوفق كلّ العاملين في ميادين الاقتصاد للتقدم والنجاح، وأن يوسّع في أرزاق جميع المواطنين والمقيمين في هذا الوطن العزيز.