خيط رفيع
ازدحم التقويم السنوي لدينا بالمناسبات، ذكرى ميلاد أحبتنا، تاريخ الزواج والأفراح، تخرج ونجاح الأبناء، عيد الأم وعيد المعلم، والعيد الوطني للبلاد.
نحن نمجد اللحظات الجميلة، ونكرم الأفراد، ولكنني اليوم اخترت شخصًا خارج نطاق التقويم المعتاد، فخري به يسبقني في خط الكلمات، وإيثاره العظيم المقرون بالتواضع، يخجلني في شكره وثنائه.
ولد على أرض القطيف منحدرًا من أعرق الأسر وأطيبها، اختياري له راجعًا لإدراكي لصعوبة الطرقات التي عبرها حتى أصبح اسمه مسجلا ضمن تاريخ أبرز علماء المنطقة الشرقية، رحلته متكاملة، ممتلئة بالتفاصيل التي تستحق النشر في كتاب، لن يكون كتابًا عاديًا، بل حافزًا لتغيير حياة الكثير من الناس، وأرى أن «الخيط الرفيع» يليق كعنوان لهذا الكتاب.
غادر القطيف شابًا، ليصبح طالب علم يتنقل بين البلدان، يبحث عن المعرفة التي تغذي طموحه، وأصبح العالم مدارًا لديه ليطوفه، اختار أفضل العلوم ذات الأهمية للحياة، سنوات من التعلم، جعلته في مراحل متقدمة في التفكر، وتحليل الأمور، مما جعله أكثر وعيًا وذكاء.
واقع الحياة أعاده للوطن بعد أن جلدته الغربة والمواقف؛ لتجعل منه أكثر صلابة واستعدادًا، وجهوزية. عاد في زمن انتشرت فيه الأنانية، والصراعات الدينية، ناهيك عن سوء التفاهم الثقافي؛ فقام بمساعدة المجتمع لتقبل الآخر، وإشاعة روح التعاون واحترام الأديان والثقافات، مع أخذه بعين الاعتبار مبدأ الإنسانية والدين واحترام أساسيات البناء، ومن هنا انطلق في مسيرته نحو التغيير..
فور خروجه للمجتمع برز نوره كنجم ساطع، طرح أفكارًا متجددة، فتح بابه لمختلف الأصناف، كانت كل أطروحاته وقرارته تنطلق من الدين والتسامح والألفة الاجتماعية، كل من يجالسه تنتقل له طاقة الهدوء والاستشعار بالأهمية؛ لقدرته الفائقة للاستماع لكل ما يقال من حوله.
الحوار معه من أفضل النقاشات التي ممكن أن تخوضها، لا ينحاز لرأي أعمى، يبقى منصفًا لوجهات النظر بكل احترام، يجعل جزءا من أفكاره تتغلغل بفكرك بقناعة العقل قبل العاطفة؛ لذلك لاقت أفكاره ترحيبًا من أغلب الفئات، فأزاح موجة الأنانية، وساهم بشكل كبير بالمحبة التي نعيشها اليوم، بنشر التسامح والتكافل، ليكون الجميع يدًا واحدة تصب في خدمة الدين وبناء وحدة الوطن.
لم يكتفِ بعطائه حدود الوطن، بل اتسع لينشر الدين والتغيير بالدول المحيطة، فأصبح صوته صادحًا بالمنابر، وفي وسائل الإعلام، مقالاته نشرت بالجرائد والمجلات، سنوات من قمة العطاء لشخص يتقن فن التجديد والتغيير، شخص ينمو الحب بداخله للجميع، ولا ينتظر من الآخرين ثناء، عرف قدراته وآمن أنه بعلمه يستطيع الوصول لغاياته. كانت استمراريته في التغيير سر نجاحه، والطريق المبهر لنتائجه العظيمة.
أعلم أن الأغلب وضع تخميناته لهذه الشخصية، وقبل أن أعرف عنها أحب أن أذكر أنها شخصية لديها قدرة استثنائية بالتعامل مع الظروف الشائكة، ومراقبة أدق التفاصيل، والاستشعار القوي بمن حولهم، يملك تنوعًا كبيرًا من الصداقات من أغلب الدول بجنسيات وثقافات متعددة، هذه الصداقات ليست وليدة الصدفة، بل نتاج وعيه الواسع وانفتاحه الفكري وذكاءه الاجتماعي؛ والأهم من ذلك بساطته الجميلة والعيش على سجيته العفوية دون تصنع أو كبرياء أو تعالٍ.
تغمرني الفرحة وأنا أكتب اسم «سماحة الشيخ حسن الصفار» - أطال الله في عمره -، الذي أشرقت - بفضله - المنطقة الشرقية وميزت بصفة التعاون والتكاتف، رجل الدين الذي بدل أن يعتني بعائلته فقط؛ قرر أن يجعل المجتمع المحيط به بأكمله تحت نطاق مجالاته واهتماماته، الشيخ صاحب الملامح السمحة، الحازم الصلب في حضوره، والصادق بابتسامته التي تنشر الحب الأخوي بين الجميع.
أدعوكم لفتح الإنترنت والبحث عن اسمه في محرك غوغل، ستجدون تاريخًا كبيرًا وحاضرًا مستمرًا، للكثير مما لا تسعني الكلمات في نشره، الشيخ الفاضل «حسن الصفار» راكم خلف اسمه اليوم مئات المحاضرات المسجلة، والمقالات والمقابلات المنشورة، والأعمال التطوعية التي ارتقت بالمجتمع الديني لأسمى المراحل، ميراث ثمين صالح لأجيال متعددة قادمة.
سنوات مثمرة من الاجتهاد، يتوجه الناس للاستماع لمحاضراته أينما كان يتواجد، فقد برع في الفقه والفلسفة وبطرح المواضيع الاجتماعية الأخلاقية والدينية والأسرية بذكاء مرن بسيط يفهمه الجميع. سعيه للإصلاح من كل الجوانب قيمة حقيقية، لا تقاس بالمال، بل بتأثيره بتغيير حياة الآخرين، بفضل حكمته ونضج أفكاره.
هذا الشخص لا يتغير، لا يتوقف عطاؤه؛ لأنه صاحب عقل متفهم مرن متكيف مع الظروف، يملك محبة لا تنضب، يمنحك الحفاوة كلما حضرت لمجلسه، ويسأل عنك إذا غبت، بابه مفتوح كقلبه، يستقبلك دوما بكل ود.
بدأت الأمور تتغير منذ سنوات، فقد تعددت القنوات، وبرز الكثير من الأشخاص المحبين للدين ونشره، ويأخذ الشيخ «حسن الصفار» يد التشجيع والعون لهم ليكملوا مسيرة التغيير ونشر جمال الدين وقوته في زمن يحتاج أبناؤنا هذا التوجيه بقوة.
كثر من اجتهد في ساحات الدين لكن هناك «خيط رفيع» جدا يفصل بين أولئك، ليجعل البعض منهم في القمة، وسماحة الشيخ «حسن الصفار» امتلك هذا الخيط ليتربع ضمن رجال الدين القلة الذين يمتلكون سمة نادرة وهي الغوص تحت الفكر الديني ويتعمق به؛ ليستخرج الجوهرة الثمينة ويترجمها كذوق ديني راقٍ تراه الأديان والثقافات الأخرى وتتعلم منه.
صاحب «الخيط الرفيع» الذي خطت يداه مئات الكتب، وأنا هنا أقدم كلماتي البسيطة، محبة وتقديرًا مني لقلبه الذي لم نرَ منه إلا الود، ولروحه التي لم تبخل علينا بأفضل الأخلاق، ولعلمه الذي أفاض علينا وعلى أولادنا به. حفظك الله ورعاك لنا منار خير وعلم وحكمة.
هذه الشخصية المعطاءة، ما زالت قصتها مستمرة تنبض بالحياة وتسعى لترمم القلوب بحب الدين والفكر السليم، تكتب ما يعين الأجيال؛ لفهم الدين والحياة دون تعب أو كلل.
ردد سماحة الشيخ بإحدى محاضراته عبارة مفادها «إن المبدع من يحول المحن إلى منح» هذه الكلمات تختزل درسًا عظيمًا في إحدى مهارات الشيخ في التعامل مع المشكلات. وهو من أكثر الناس تطبيقًا لها، لذلك يده ممتدة لإشعال شمعتك المنطفئة، لا ينير فيها ظلمة مكانك فقط، بل لينقلك لمكان به نور متوهج؛ لينتج منك «خيطًا رفيعًا» مميزًا ونادرًا من خلفه.