إدارة الحياة بين التفاؤل والتشاؤم
ورد عن الإمام علي الهادي في كلام له لأحد أصحابه: «مَا ذَنْبُ اَلْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تَتَشَأَّمُونَ بِهَا، إِذَا جُوزِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا»[1] .
مشاعر الإنسان وأحاسيسه النفسية، لها تأثير على تشكيل تصوره ورؤيته لأمور الحياة، وعلى طريقة تعامله معها.
فإذا كانت مشاعره وأحاسيسه إيجابية، كانت رؤيته للأمور أكثر واقعية وتوازنًا، وكان أقدر على التعامل السليم مع ما يواجهه من قضايا وأحداث.
أما إذا كان يعيش حالة سلبية في مشاعره وأحاسيسه، فستكون رؤيته للأمور أكثر تشويشًا واضطرابًا، وقد يندفع لاتخاذ مواقف سيئة ضارة.
تأثير مشاعر التفاؤل والتشاؤم
والشعور بالتفاؤل أو التشاؤم من المشاعر البالغة التأثير على رؤية الإنسان ومواقفه.
والتفاؤل هو: قوة الأمل وتوقع الخير، أما التشاؤم فهو: حالة نفسية تجعل الشخص يتوقع دائمًا حدوث الأسوأ.
وحين يعمر الأمل والتفاؤل نفس الإنسان يعيش الطمأنينة في داخله، وينبعث تفكيره بإيجابية، وتكون جوارحه أكثر طاقة وقدرة على مواجهة المشكلات.
أما حين تسيطر عليه حالة التشاؤم، فستنقبض نفسه، ويتشوش تفكيره، وتتعثر حركته العملية.
إنّ المتفائل حتى لو واجه مشكلة أو صعوبة فإنه يتوقع تجاوزها ومعالجتها، ويستثير قدراته الذهنية، وطاقته الفعلية، بحثًا عن الحلول والمعالجات، أما المتشائم فإنه غالبًا ما يستسلم أمام المشكلة، لضعف توقعه للخلاص منها، أو قدرته على معالجتها.
المتفائل يفكر في حلٍّ لكلّ مشكلة، والمتشائم يضع مشكلة أمام كلّ حل.
لذلك يوصي أمير المؤمنين علي بالتفاؤل كطريق للنجاح، حيث روي عنه: «تَفَأَّلْ بِالْخَيْرِ تَنْجَحْ»[2] .
وورد في المأثور: (تفاءلوا بالخير تجدوه)[3] .
وكان من أبرز صفات رسول الله أنه كثير التفاؤل.
إنّ المتشائم حتى وإن كان يعيش في خير ونعمة، فإنه يعاني من هواجس وقلق زوال ذلك الخير، وفقدان تلك النعمة.
التشاؤم يتعب الإنسان نفسيًا، بينما التفاؤل يخفف عنه وطأة المشاكل التي يواجهها.
والتشاؤم قد ينعكس على علاقة الإنسان مع محيطه الاجتماعي؛ لأنه يكون أقرب إلى سوء الظنّ في الآخرين، فيفسّر كلّ نظرة أو كلمة أو تصرف من الآخرين تجاهه تفسيرًا سلبيًا.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ المتفائل يكون إيجابيًا في نظراته وتصوراته عن الآخرين.
إنّ حالة التفاؤل والأمل لا تعني عدم أخذ التحدّيات بعين الاعتبار، ولا عدم الحذر أمام احتمالات السوء والخطر، لكنّها تعني التشخيص الموضوعي للأمور بوعي وواقعية، والعمل بثقة لتجنب الأخطار وإدارة التعامل معها.
الأوهام والتصورات الزائفة
هناك نوعان من البواعث التي تدفع إلى التشاؤم في نفس الإنسان.
النوع الأول هو الأوهام والتصورات الزائفة، حيث تنتشر في بعض الأوساط أفكار وتصورات عن أشياء باعتبارها مؤشرات للسوء والشر، فعند مصادفتها، يتوقعون حدوث المخاطر.
كان العرب في الجاهلية تنتشر بينهم هذه الحالة، ويطلق عليها التطيُر، من الطِّيرة، بكسر الطاء وفتح الياء، وهو التشاؤم من بعض الأيام أو الطيور أو الأسماء أو التصرفات.
ومنه ما حكاه القرآن الكريم في قصة ثمود، حيث قالوا لنبيهم النبي صالح : ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ [سورة النمل، الآية: 47] أي تشاءمنا.
وكانوا في الجاهلية يتشاءمون من سماع نعيق الغراب، وخوار البقر، ورؤية ذي آفة أيّ إعاقة.
وجاء اسم التطيّر من انبعاث حالة التشاؤم من الطير.
قال ابن حجر: (إنّهم كانوا في الجاهليّة يعتمدون على الطّير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطّير طار يمنة تيمّن به واستمرّ، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربّما كان أحدهم يهيّج الطّير ليطير فيعتمدها)[4] .
والتطيّر نوع من الإيحاء النفسي بالتشاؤم، وهو ما ينتج أثرًا في نفس الإنسان وسلوكه، وليس الأثر من الواقع الخارجي.
قال ابن القيّم: (التّطيّر إنّما يضرّ من أشفق منه وخاف، وأمّا من لم يبالِ به ولم يعبأ به شيئًا لم يضرّه ألبتّة)[5] .
وبعد البعثة النبوية تصدّى رسول الله لثقافة التطيّر والتشاؤم.
ورد عن رسول الله : «إِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ»[6] .
وعنه : «ذَاكَ شَيْءٌ تَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، فَلا يَصُدَّنَّكُمْ»[7] .
وعنه : «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ»[8] .
وجاء عنه : «مَنْ ردَّتْهُ الطِيَرَةُ عنْ حاجتِهِ فقدْ أشرَكَ» قالوا: يا رسول الله، ما كفّارة ذلك؟ قال: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ»[9] .
التشاؤم من الأيام والأرقام
لا يزال هناك في أوساطنا الدينية من يروّج للتشاؤم والتّطير بالأيام، فيقسّمها إلى أيام سعود وأيام نحوس، تراعى في أمثال مناسبات الزواج، وذلك لم يثبت بدليل من الشرع أو العقل.
وفي بعض المجتمعات الغربية هناك تشاؤم من رقم (13)، فكثير من الفنادق في العالم يوجد لديهم الغرفة رقم 12 تليها الرقم 14 بسبب أنّ أغلب النزلاء يتجنبون الرقم 13.
ورغم أنه لا يوجد أيّ دليل على أيّ علاقة بين الرقم 13 والأشياء السيئة التي يواجهها الناس، فإنّ الكثيرين يحلو لهم التمسّك بهذه القناعة دون أن يعلموا من أين جاءت ولا ما هو سببها.
وبحسب موقع "إنفيرس" الأميركي فإنه يوجد في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 40 مليون شخص يتجنبون السكن في الطابق الثالث عشر إذا ما نزلوا في أيّ فندق ولو لليلة واحدة، وذلك بسبب أنهم يعتبرون بأنّ هذا الرقم هو نذير شؤم ومصدر للتعاسة.
ونقل الموقع عن مسح أجرته شركة "أوتيس إليفايتر" المتخصصة بالمصاعد الكهربائية قولها إنه مقابل كلّ مبنى في الولايات المتحدة يتضمن الطابق 13 فإنه يوجد ستة مبانٍ بالمقابل لا يوجد فيها هذا الطابق، أي إنها تنتقل من الطابق 12 إلى 14 مباشرة، ما يعني أنّ الذين يتشاءمون من هذا الرقم هم ستة أضعاف الذين لا يكترثون به في المجتمع الأميركي.
ويقول موقع "إنفيرس" في التقرير الذي اطلعت عليه "العربية.نت" إنّ مصدر السمعة السيئة للرقم 13 غامض ومتضارب، كما يشير الموقع إلى أنّ منظمة مستقلة وغير ربحية في الولايات المتحدة تحقّق حاليًا في أسباب التشاؤم من هذا الرقم[10] .
وكان الشاعر المعروف في العصر العباسي ابن الرومي علي بن العباس (221-283هـ/836-896م) كثير الطيرة، وكان يتشاءم لأيّ شيءٍ يراه أو يقع أمامه.
وربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف؛ تطيرًا بسوء ما يراه ويسمعه، حتى إنّ بعض إخوانه من الأمراء افتقده، وأُعلم بحاله في الطيّرة، فبعث إليه خادمًا اسمه (إقبال) ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب، قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص، ومنكوس اسمك (لابقا).
وكان إذا وصل إلى الباب ليخرج نظر من خلال ثقب المفتاح، فإذا رأى جاره الأعور جالسًا، جبن فلم يخرج، وخلع ثيابه ثانية.
ومنها أنّ أبا الحسن الأخفش كان كثيرًا ما يقرع بابه، فإذا ردّ عليه ابن الرومي مستفسرًا أجابه: «مرة بن حنظلة» فيتطيّر من ذلك ولا يجسر على الخروج بقية يومه.
ولم يكن التطيّر يفتك بابن الرومي، وحده، بل بمن حوله أيضًا، فقد أقفل الباب على نفسه وعلى خدمه، مدة ثلاثة أيام، فمات بعض قاطني الدار عطشًا، بسبب تطيّره[11] .
الفشل والنكسات
النوع الثاني من بواعث التشاؤم، هو التأثر بنكسات تحصل للإنسان، فتسبب له اضطرابًا نفسيًا يتحول إلى تشاؤم، وحالة سلبية تؤدي به إلى التراجع وفقدان الثقة في النفس.
فبعض الطلاب حين يفشل في الامتحان قد يتوقف عن الدراسة وينسحب، وكذلك لو لم يجد قبولًا جامعيًا مناسبًا.
والبعض قد تصيبه انتكاسة في حياته الزوجية فيعزف عن الزواج.
والبعض قد يتشاءم من مرض يصيبه، فيُعين المرض على نفسه، حيث تضعف مناعته، ولا يثق بجدوى إجراءات العلاج.
والبعض قد يتعثر في مشروعه الاقتصادي، فيصاب بالتشاؤم، ويتراجع عن تكرار المحاولة والسعي. وقد يصبح فريسة للاكتئاب والأمراض النفسية.
لكنّ التجارب تثبت أنّ الفشل هو طريق النجاح، حين يستفيد الإنسان من تجربته الفاشلة، ما يؤدي به إلى النجاح.
إنّ على الإنسان ألّا يستسلم للفشل، ويرفع الراية البيضاء أمامه، بل يتسلّح بالإرادة والثقة، والاستفادة من التجربة، ليخوض غمار المحاولات الجديدة.
وكما يقول المثل الغربي: (أنت لا تفشل إلّا إذا توقفت عن المحاولة).
يقول رجل الأعمال الأمريكي المتخصص في التنمية البشرية «روبرت كيوساكي» إنّ «الفشل جزء من عملية النجاح، وتجنّب الفشل تجنّب للنجاح أيضًا».
هذه المقولة قد تقاربها مقولة شهيرة نستخدمها في مجتمعاتنا، مفادها بأنّ «من لا يعمل لا يخطئ»[12] .
النجاح الباهر بعد الفشل
نجد في الحياة المعاصرة نماذج وأمثلة كثيرة لمن حقّق نجاحًا باهرًا بعد نكسات فشل مريرة.
ومن تلك النماذج البارزة تجربة صاحب شركة (علي بابا) الشهيرة عالميًا، الملياردير الصيني الذي يُعدّ أغنى رجل في الصين (جاك ما)، الذي كتبوا عنه أنه فشل مرتين في امتحان قبول الجامعة، وتقدّم للعديد من الوظائف لكنه رُفض، وتقدّم لامتحان الشرطة وفشل، وتقدم لشركة (كنتاكي) ضمن 24 شخصًا، فقبلوا 23 وهو لم يقبل، توجه نحو إنشاء موقع إلكتروني استثماري، فواجهته انتكاسة ايضًا، لكنه أخيرًا نجح في إنشاء شركته المعروفة (علي بابا) حيث تصل أرباحه سنويًا ترليون دولار، أي مليون مليون دولار.
يعمل في شركته أكثر من 22 ألف موظف في أكثر من 70 مدينة حول العالم، وهي من أكبر أسواق التجارة الإلكترونية في العالم.
كان يكرر: (الفشل ليس سوى فرصة لطريق آخر).
واختار اسم (علي بابا) لشركته؛ لأنه اسم يمكن كتابته بسهولة بكلّ اللغات.
موقف تربوي توعوي
وفي ذكرى ميلاد الإمام علي الهادي واستقبال ذكرى وفاته ، نلتقي بهذا الموقف التربوي التوعوي، الذي واجه به الإمام أحد أصحابه، لتحذيره من مشاعر التشاؤم، وقبول الأفكار الوهمية الخرافية، وتوجيهه إلى الثقة بالله تعالى، والتعامل بواقعية وموضوعية مع أحداث الحياة.
قَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ مَسْعُودٍ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الهادي وَقَدْ نُكِبَتْ إِصْبَعِي، وَتَلَقَّانِي رَاكِبٌ، وَصَدَمَ كَتِفِي، وَدَخَلْتُ فِي زَحْمَةٍ فَخَرَقُوا عَلَيَّ بَعْضَ ثِيَابِي، فَقُلْتُ: كَفَانِي اَللَّهُ شَرَّكَ مِنْ يَوْمٍ فَمَا أَشَأمَكَ، فَقَالَ لِي: «يَا حَسَنُ هَذَا وَأَنْتَ تَغْشَانَا تَرْمِي بِذَنْبِكَ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ»، قَالَ اَلْحَسَنُ: فَأَثَاب إِلَيَّ عَقْلِي، وَتَبَيَّنْتُ خَطَئِي، فَقُلْتُ: يَا مَوْلاَيَ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ، فَقَالَ : «يَا حُسْنُ مَا ذَنْبُ اَلْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تَتَشَأَّمُونَ بِهَا إِذَا جُوزِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا؟».
ثم قال : «لاَ تَعُدْ وَلاَ تَجْعَلْ لِلْأَيَّامِ صُنْعًا فِي حُكْمِ اَللَّهِ»[13] .
إنّها رسالة مهمة خاصة لشبابنا وفتياتنا الذي تواجههم التحدّيات المختلفة، فعليهم ألّا يتشاءموا ولا يتراجعوا أمام أيّ انتكاسة أو فشل في مسيرتهم الدراسية أو العملية أو العائلية والاجتماعية، بل يتسلّحون بالثقة والتوكل على الله، والإرادة الواعية، فذلك هو طريق التقدّم والنجاح.
اللهم خذ بأيدي أبنائنا وبناتنا إلى ما فيه الخير والصلاح، ووفقهم للنجاح في دنياهم وآخرتهم، وانفع بهم وطنهم ومجتمعهم.