الشيخ الصفار في مؤتمر بيروت: آليات الوحدة والتقريب ووسائل تحقيقها
نص الحديث الذي ألقاه سماحة الشيخ في المؤتمر العالمي حول شخصية الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين في بيروت يوم الخميس 18/مايو/2006م.
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
السادة العلماء
الأخوة الأعزاء
الأخوات الكريمات
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته
سأترك الورقة التي كتبتها جانباً، وهي بعنوان (الإمام شرف الدين وثقافة التسامح) لأنها مطبوعة وستصل إلى أيديكم، أرجو أن تنال شيئاً من اهتمامكم وأن أستفيد من ملاحظاتكم على ما ورد فيها.
واغتناماً لفرصة هذا الجمع الطيب وأجواء الحديث عن الوحدة والتقريب بين أبناء المذاهب الإسلامية، باعتبار أن الإمام شرف الدين في طليعة حملة هذه الرسالة، ورواد هذا النهج الوحدوي في عصرنا الحديث.
بهذه المناسبة أودّ أن أتحدث عن قضية هامة ترتبط بهذا الموضوع، أرى أنها لم تنل حظها من البحث والتركيز.
وهي قضية آليات الوحدة والتقريب ووسائل تحقيقها.
إنه لا يوجد أمة تتحدث عن الوحدة في أدبياتها وعلى ألسنة قادتها الدينيين والسياسيين أكثر من الأمة الإسلامية، في ذات الوقت ليس هناك أمة تعاني من التمزق والخصام مقدار ما تعاني الأمة الإسلامية.
فبينما استكملت معظم الأمم بناء وحدتها الداخلية، وتجاوزتها منطلقة لإنشاء أحلاف وتكتلات إقليمية ودولية، كالاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي، يعجز أبناء الأمة الإسلامية عن تحقيق الحد الأدنى من الوحدة والتفاهم داخل أوطانهم، و ضمن المذهب الواحد!
ترى ما هي أسباب هذه المفارقة؟
لعل من أبرز الأسباب في نظري: أننا ننشغل كثيراً بالكلام عن الوحدة كمفهوم وفكرة عامة، وكعنوان وشعار عريض، ولا نقترب من الحديث عن آليات وأدوات الحالة الوحدوية.
إننا لا نجتهد في وضع خارطة طريق توصلنا إلى الوحدة والتقارب، ولا نبحث في الخطوات العملية التي يجب اتخاذها لإنجاز الهدف المطلوب.
وبذلك تبقى الوحدة حلماً نتطلع إليه، وأملاً ننشده، دون أن نصل إلى تحقيقه أو نقترب منه.
إن افتقاد الآليات وخارطة السير، أبقى الساحة شاغرة أمام من يعلقون الوحدة والتقارب على حلول تعجيزيه، حيث يطرح بعضهم أن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بعودة دولة الخلافة الإسلامية، التي تلغي الحدود السياسية، وتسقط كيانات الأنظمة الحاكمة، وتقيم سلطة مركزية على رأسها خليفة، يعيد للعالم عصر الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية.
وهناك من يربط الوحدة بظهور إمام أو قائد واحد تجمع عليه الأمة، بمختلف بلدانها ومذاهبها.
بينما يرى البعض أن أخذ جميع المسلمين بمذهبه والتزامهم بمنهجه هو الطريق الوحيد لاجتماع الأمة ووحدتها.
وأمثال ذلك من الطروحات التعجيزية الأسطورية التي لا يمكن تحقيقها حسب معادلات الواقع، كما أن تجارب الشعوب والأمم الأخرى تكشف عن طرق وبرامج أكثر واقعية وأقرب للتحقيق، فأمم الأرض وشعوب العالم المعاصر لم تحقق وحدتها بمثل هذه الطروحات.
أعتقد أن من أهم الآليات التي ينبغي التفكير فيها، وإقامة المؤتمرات لبحثها، وتوجه العلماء في بحوثهم الفقهية والعقدية لمعالجتها، هي أربعة آليات، نلحظها من خلال تجارب سائر الأمم في تحقيق وحدتها، وهي كالتالي:
أولاً: تحقيق مفهوم المواطنة: التي تساوي بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة، في ظل نظام سياسي واحد، وإن اختلفت أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.
هذا المفهوم الجديد في هذا العصر لم يأخذ حقه من البحث في اهتماماتنا الفكرية والفقهية، وبقينا نتعامل مع الوطنية والمواطنة باعتباره مفهوماً وافداً أجنبياً دخيلاً على حياتنا، وبالتالي لم نحدد مواقفنا تجاه تفصيلاته ومستلزماته.
لا نريد أن نستشهد بالمواطنة في الدول الكبرى الغربية كأمريكا ودول أوربا التي تخوض معنا أو نخوض مع إداراتها صراعاً، وبيننا وبينها مساحات كبيرة فاصلة، ولكننا يمكن أن نستشهد ببلد آسيوي قريب منا هو الهند، الذي يزيد عدد سكانه على المليار نسمة، وفيه من تعدد الأعراق والأديان والقوميات والمذاهب واللغات ما يجعله حالة تكاد تكون مميزة في العالم، ففيه خمسة عشر لغة رسمية إلى جانب أربعة وعشرين لغة محلية أخرى، وينتمي سكانه إلى حوالي عشر ديانات، والأغلبية هم الهندوس ويشكلون 82.6% ثم المسلمون 11.4% ثم المسيحيون 2.4% ثم السيخ 2% إن رئيس جمهورية الهند الآن شخص مسلم هو (عبدالكلام) منذ سنة 2002م، ورئيس الوزراء من الأقلية السيخية هو (مانموهان سينغ) منذ عام 2004م، ورئيس البرلمان من الحزب الشيوعي هو (تشاتيرجي)، ويعيش الهنود على تنوعهم عرقياً ودينياً في ظل نظام يساوي بينهم في حقوق المواطنة، ولا يخلو واقعهم من حدوث بعض المشاكل بين الجماعات والأقوام كأي مجتمع بشري، لكن القانون العام لديهم قائم على أساس نظام المواطنة.
إنهم يديرون حياتهم ويشقون طريقهم نحو التقدم الصناعي والتكنولوجي، وقد قامت الهند بأول تفجير نووي عام 1974م، وفرضت نفسها عضواً في النادي النووي، وقبل مدة وجيزة وقعت مع أمريكا اتفاقية للتعاون النووي خلال زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للهند مطلع مارس 2006م.
ومثال آخر هو سنغافورة التي يتكون شعبها من أربع مجموعات عرقية: صينيين 75%، ماليزيين 15%، هنود – باكستانيين 7%، أوربيين 2%. كما تتعدد فيها الديانات إلى ست ديانات هي: البوذية والطاوية والكونفوشية 54%، الإسلام 18%، المسيحية 13%، الهندوسية 4%، وتتعدد فيها الأحزاب السياسية حيث تصل إلى عشرين حزباً مسجلاً رسمياً.
ومع هذه التعددية تعيش سنغافورة استقراراً داخلياً، ووئاماً وانسجاماً بين هذه الأعراق والديانات، وينشط الجميع في صنع تجربتهم الوطنية المتقدمة وبناء واقعهم الاقتصادي المتطور.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تعيش هذه الأمم في ظل نظام المواطنة، الذي يحقق بينهم المساواة والمشاركة في الحقوق والواجبات، والتنمية والبناء، بينما يتعذر علينا في غالب بلداننا مثل ذلك؟
ونعيش صراعات عرقية ودينية ومذهبية وسياسية؟
إن بعض أوساطنا الدينية لا تزال تنظر بارتياب لواقع الأوطان والدول القائمة ضمن الحدود السياسية في العالم الإسلامي، وتعيش صراعاً بين المفهوم الديني للوطن والذي يتسع لكل شبر من الأراضي الإسلامية، وبين الواقع المعاش في ظل الدولة القومية.
كما أن التفاوت في بعض الحقوق والواجبات بين المسلم وغيره في الدولة الدينية الإسلامية الذي يطرحه الفقهاء ضمن أحكام أهل الذمة، لا يزال عائقاً نظرياً أمام فكرة المواطنة والمساواة.
والأسوأ من ذلك وجود حالات من التمييز الرسمي الطائفي بين المواطنين المسلمين في بعض البلدان الإسلامية، والذي يستمد تبريراته من فقه وثقافة مذهبية. وكذلك توجد حالات من التمييز العرقي والقومي بين المواطنين المسلمين في بعض الأوطان الإسلامية بسبب معادلة الأكثرية والأقلية.
إننا بحاجة لمقاربة هذه المشاكل الواقعية ومعالجتها نظرياً ضمن أبحاث العلماء والفقهاء، وطرح الرأي الشجاع الجريء الذي يمكّن الاجتماع الإسلامي من تجاوز حالة الفرقة والصراع، ويهيئ أرضية التقارب والوحدة.
أما الدعوة إلى التقارب ورفع شعارات الوحدة في ظل واقع يعاني فيه الناس من التمييز والتفاوت، وانعدام المساواة، فلن يحقق أي إنجاز أو نتيجة، ولن يوقف الخلافات والصراعات.
ثانياً: تبني قضية حقوق الإنسان، ومناقشة وثيقة حقوق الإنسان المعتمدة دولياً، والاتفاقيات الملحقة بها، وتسليط الأضواء عليها برؤية دينية إسلامية، وإذا كان هناك تحفظ على مادة أو مادتين مثلاً، فلا يصح تجاهل كل تلك الجهود، خاصة وأن مجتمعاتنا بحاجة ماسّة لتفعيل هذه القضية، إن إغفال الاهتمام بحقوق الإنسان هو الذي يفتح المجال لتيارات التطرف والتشدد، وللتوجهات التعصبية، التي تسيء فهم الدين، وتمارس العدوان على الحقوق المادية والمعنوية للمخالفين لها في الدين أو المذهب أو الاتجاه الفكري والسياسي. إن هذه الجهات لا تعترف ولا تلتزم بالحقوق الإنسانية لمخالفيها، وقد تهدر دماءهم أو تستبيح حرماتهم المادية والمعنوية.
إن فقهاءنا في الحوزات العلمية وفي رسائلهم العملية، يصرفون جهداً كبيراً في بحث مسائل الطهارة والنجاسة والعبادات، وهو جهد مطلوب يشكرون عليه، لكن قضايا حقوق الإنسان لم تنل من جهودهم واهتمامهم بمقدار ما تحتاجه في الساحة الداخلية وعلى المستوى العالمي.
وحين يكون هناك إقرار رسمي وديني واجتماعي بحقوق الإنسان فإن ذلك يكرّس حالة الاحترام المتبادل، ويساعد على الابتعاد عن حالات الإساءة والعدوان، وذلك هو ما يصنع أجواء التقارب والوحدة.
ثالثاً: إقرار التعددية الفكرية والسياسية، فمشكلة الأوساط الدينية أنها تخلط بين اعتقادها بأحقية معتقدها، وبين الإقرار بحق الآخرين في تبني معتقداتهم، إن اعتقاد أي جهة بأنها على الحق والصواب أمر طبيعي، لكنها يجب أن تعرف وتعترف بأن الآخرين ينظرون لأنفسهم كذلك، ويرون أنهم على الحق والصواب.
وإذا كان الله سبحانه لم يأذن لأنبيائه أن يفرضوا دينه ورسالته على الناس، وقصر مهمتهم على البلاغ والتذكير ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾. بل دعاهم للاعتراف بحرية الآخرين في أديانهم ومعتقداتهم: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.
فكيف يحق لأي جهة أن تفرض رأيها أو وصايتها على الآخرين؟
أو تصادر حريتهم في الاعتقاد أو التعبير عن الرأي؟
إن القبول بالتعددية الفكرية مبدأ هام، نفتقده مع الآسف في أوساطنا الدينية ليس بين المذاهب فقط، وإنما حتى بين المدارس والتيارات داخل المذهب الواحد.
وكذلك الأمر بالنسبة للشأن السياسي، فلا زالت غالب أوطاننا تخضع لسياسة الرأي الواحد والحزب الواحد، ولا مجال للمعارضة ولا لتعدد الأحزاب والتوجهات السياسية.
إن القمع الفكري والسياسي لا يحقق الوحدة كما قد يتوهم البعض بل يؤسس للصراع والاحتراب، وما قد يظهر على السطح من وحدة قسرية، هو غطاء رقيق لبراكين وحمم غاضبة تستقر في أعماق المجتمع لا تلبث أن تنفجر عند أول فرصة سانحة.
بينما يوفر إقرار التعددية حالة من الاطمئنان والثقة بين الأطراف المختلفة، ويمكنها من صنع إطار جامع، تحافظ من خلاله على المصالح المشتركة. وهذه ليست فرضية علمية، ولا أطروحة نظرية، بل هي واقع قائم تعيشه سائر المجتمعات البشرية، التي يتنوع أبناؤها في أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم وأحزابهم.
إن إقرار التعددية الفكرية والسياسية يترتب عليه الاعتراف بحق مختلف الأطراف في التعبير عن آرائها وإعلان مواقفها، وممارسة شعائرها الدينية وأنشطتها السياسية، وإقامة مؤسساتها الاجتماعية، ضمن قانون يخضع له الجميع، دون هيمنة واستعلاء من أحد، أو تهميش وإقصاء لأحد.
رابعاً: تجريم التحريض على الكراهية والإساءة، بأن يحاسب القانون ويعاقب النظام على ذلك، إن من أهم أسباب الفتن والصراعات الداخلية، وجود دعاة دينيين يصدرون فتاوى وينتجون خطابات تعبوية تتضمن الإساءة لآخرين مخالفين لهم، وتبيح هدر حقوقهم، ويتم التغاضي عن هذه الجهات، بل ويحصل التشجيع لها في بعض الأحيان، بمبرر أنها تعكس رأياً شرعياً، أو كما يقول عنها أصحابها إنها تكليف شرعي.
ولكن ذلك يعني توفير أجواء الفتنة والاحتراب، إنه لا بد من تجريم التحريض على الكراهية، كتجريم من يحرّض على الإرهاب والسرقة والفساد.
إن البحث في مثل هذه الآليات، وتأصيلها من الناحية الشرعية، وتحويلها إلى صيغ قانونية نظامية، وتوعية جمهور الأمة بالبرامج العملية المنبثقة عنها.. كل ذلك يرسم لنا خارطة طريق لتحقيق التقارب والوحدة، وينقلنا من حالة التطلع والأمل، إلى واقع الممارسة والتطبيق.
والحمد لله رب العالمين.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.