الشيخ الصفّار يُقّدم تأصيلاً لثقافة التفاهم عند الإمام علي (ع)
قدّم سماحة الشيخ حسن الصفار تأصيلاً لثقافة التفاهم عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وذلك في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام علي بجامع المصطفى في صفوى، مساء الاثنين 13 رجب 1446هـ، بمرافقة المترجم لفئة الصم البكم جواد السعيد.
وفي مستهلّ كلمته قال: خير ما نستفيده من هذه المناسبات العظيمة المباركة هو الاهتداء بهدي أهل البيت والاقتباس من علومهم والاستضاءة بسيرتهم، مقتبساّ من كلمات أمير المؤمنين ما قاله فيما يؤصّل لثقافة التفاهم: «اَلْإِنْصَافُ يَرْفَعُ اَلْخِلاَفَ، وَيُوجِبُ اَلاِئْتِلاَفَ».
وأكد الشيخ الصفار أن من أكبر الهموم التي حملها أمير المؤمنين علي في حياته هو هم الوحدة والألفة بين الناس، وتجد ذلك واضحاً في كلماته الكثيرة، والتي تتناول الموضوع من زوايا مختلفة، ومن أبعاد متنوعة، وتجد مصداقية ذلك في سيرته ومواقفه .
وتابع: قد يتحدث كثيرون عن الوحدة والألفة، إلا أنهم في سيرتهم العملية ومواقفهم لا تجد فيها الالتزام بمستوى ما يتحدثون فيه عن هذا المفهوم. لكنّ سيرة أمير المؤمنين علي تّجسّد الوحدة، ويُترجمها في سلوكه وعمله، وعلى حساب ما يرتبط به شخصياً في مختلف الجوانب والمجالات، لذلك ورد عنه : «وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ الْمَآبِ».
وأضاف: قد يهتم إنسان بالوحدة والألفة لأن له مكسبًا، لكن أمير المؤمنين يؤكد أن اهتمامه بالوحدة إنما ينطلق من المبادئ التي يؤمن بها.
وتناول الشيخ الصفار واحدةً من أهم المفردات التي تساعد على ترسيخ الوحدة، وتعزيز الألفة في المجتمع، وهي مفردة التفاهم.
وقال: هناك بعض الناس لديهم قدرة على التفاهم مع الآخر، فالاختلافات طبيعية بين بني البشر، سواءً في الآراء، أو التضارب في المصالح، أو التفاوت في المزاج، متسائلاً: كيف يُدير الإنسان اختلافه مع الآخرين، القريبين أم البعيدين؟
مجيباً على ذلك بأن هناك مسألة مهمة وهي: القدرة على التفاهم. مؤكداً أن هناك تبايناً بين الناس فالبعض يمارس التفاهم، والبعض الآخر يتّجه اتّجاهاً سلبياً نتيجة عدم اهتمامه بالتفاهم مع الآخرين.
مؤكداً أن الأمر لا يقتصر على الأفراد فقط، بل إن بعض المجتمعات تسودها ثقافة التفاهم، وبعض المجتمعات تسودها حالة التشنج والعصبية، وعلى أقل شيء يحصل خلاف وصدام.
وأضاف: إن ثقافة التفاهم مهمّةٌ جداً، يحتاجها الإنسان الفرد للنجاح في حياته مع محيطه الاجتماعي، ويحتاجها المجتمع في تعاطيه مع بقية المجتمعات التي تُحيط به أو يتعامل معها.
وحول معنى التفاهم ذكر الشيخ الصفار أنه مأخوذٌ من الفهم، والفهم يعني المعرفة الواضحة للأمر.
وبذلك فإن مفهوم التفاهم يعني أن يهتم كل طرف من أطراف العلاقة بأن يعرف الطرف الآخر بوضوح، وأن يتعامل معه بوضوح.
وفي تأصيل ثقافة التفاهم، قدّم الشيخ الصفار عدّة توجيهاتٍ وإرشاداتٍ من الكلمات المروية عن الإمام علي ، من شأنها أن تُعزز هذه الثقافة، وتُرسّخ جذورها في نفس الإنسان.
وأبان أن من معززات ثقافة التفاهم، تنمية القدرة على فهم الطرف الآخر، وعلى الإنسان أن ينّمي في ذاته هذه القدرة، بأن يفهم المحيط من حوله، ولو ضمن الإطار العام بحيث يفهم طبيعة الطرف الآخر ومزاجه العام، ووفقاً لذلك الفهم يتعامل معه.
مؤكداً أن الإنسان حين يتجاهل فهمه للطرف الآخر، فإنه يقع في مطبات ومشكلات في العلاقة معه. مشيراً إلى أنّك إذا سمعت من أحد كلاماً دون فهم طبيعته فإنك قد تُفسّر ذلك خطأً، فمثلاً حين يكون أحدهم بطبيعته كثير المزح فقد تتعامل مع مزحه بجدّية حين لا تفهم طبيعته، وذلك قد يخلق صِداماً بينكما، وكذلك حين يكون من طبيعة أحدهم أن يتحدّث بصوتٍ مرتفع فإنك قد تفهم ذلك سوء أدبٍ معك في حين أن ذلك من طبيعته.
وأضاف: كما أنه ينبغي فهم طبيعة الطرف الآخر، ينبغي أيضاً فهم مقصده من الكلام الذي يتحدث به، لأن عدم فهم المقصد من الكلام قد يؤدي إلى تأويلات خاطئة، وذلك بدوره قد يؤدي إلى الخصومة.
مؤكداً أن كثيراً من المشاكل التي تحصل في العلاقة البينية سواء الأسرية أو الاجتماعية تكون نتيجة سوء الفهم لكلمة أو موقف، وهنا نجد أمير المؤمنين يقول: «اُطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْرًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا»، وقال : «لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سَوءًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلا»، وقال : «أَعْقَلُ اَلنَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لِلنَّاسِ».
وأشار إلى أن من معززات ثقافة التفاهم، حسن البيان والوضوح في الحديث والتعامل مع الطرف الآخر، فإذا لم تُبين ما تُريده بوضوح فقد لا يفهم الآخر قصدك، ومصاديق ذلك في حياتنا اليومية كثيرةً سواءً في التعامل مع القريبين أم في البيئة الاجتماعية.
مؤكداً أن حالة التشفير والغموض التي قد يستخدمها البعض في حديثه، ويُريد للآخر أن يفهم مُبتغاه، وهذا مطلبٌ ليس في محلّه. وفي هذا المجال ورد عن الإمام علي : «أحسَنُ الكلامِ ما لا تَمُجُّهُ الآذانُ، ولا يُتعِبُ فَهمُهُ الْأَذْهانَ».
وأضاف: وفي التصرفات أيضاً، فحين يصدر منك تصرّفٌ يحتمل أكثر من معنى، عليك أن توضّح معنى تصرّفك لتسود علاقة الانسجام في العلاقات البينية.
ومضى يقول: إن من معززات ثقافة التفاهم، الاعتذار عن الخطأ، وقبول اعتذار الطرف الآخر.
مشيراً أن بين بني البشر الأخطاء واردة سواءً في الدائرة القريبة، أو مع البعيدين، «كُلُّ ابَنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
وأضاف: حين الخطأ ينبغي أن يمتلك الإنسان الشجاعة للاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، فالاعتذار عن الخطأ فضيلة، حتى مع الأبناء وبين الزوجين، مؤكداً أن البعض تُصبح عنده مكابرة، رغم أنه في أعماقه يُدرك أنه مخطئ، إلا أنه يفتقد الشجاعة التي تؤهله للاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه.
وتابع: وإذا اعتذر منك الطرف الآخر عليك أن تكون مستعدّاً لقبول اعتذاره، بعكس ما يُمارسه البعض من عدم قبول الاعتذار لأن ذلك خطأٌ كبير. وضمن هذا الأمر يروي أمير المؤمنين عن رسول الله أنه قال له: «يَا عَلِيُّ؛ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذْرَ مِنْ مُتَنَصِّلٍ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي»، وورد عن الإمام علي : «اِقْبَلْ أَعْذَارَ اَلنَّاسِ تَسْتَمْتِعْ بِإِخَائِهِمْ».
وبيّن أن من معززات ثقافة التفاهم، التنازلات المتبادلة، فعند الاختلاف ينبغي أن يمتلك أطراف الاختلاف روحية قبول التنازل، أما حين يُصر كل طرف على موقفه تتشنّج العلاقة بينهما، ويحصل تباعد.
مشيراً إلى وجود حالة سلبية هي أن البعض يُريد أن الطرف الآخر هو الذي يُقدّم جميع التنازلات، وهذا لا يُحقق العلاقة المنسجمة، مؤكداً أنه على كل طرف أن يتقدّم خطوة باتّجاه فك الخلاف، والالتقاء في منتصف الطريق، وذلك يتطلب مرونة وروح تسامح، قد يفتقدها كثيرون.
وأضاف: إن الثقافة الدينية تؤكد على هذا المبدأ، وتُعبّر عنه بالصلح، يقول تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ﴾، والصلح يختلف عن أخذ الحقوق بأن يأخذ كل طرف حقّه، بينما الصلح يكون عن تراضٍ وإن كانت هناك تنازلات عن بعض الحقوق.
وتابع: إن نفس الإنسان عادةً شحيحةً عن التنازل، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يروّض نفسه عليه، حين يحصل بينه وبين الآخرين خلاف.
وختم الشيخ الصفار كلمته بالتأكيد على الحاجة الماسة إلى ثقافة التفاهم، فمجتمعنا متدين ومتداخل، فلماذا تكثر المشاكل والخلافات التي لا تسلم منها حتى الأوساط الدينية؟ إن ذلك يدعونا أكثر للتمسّك بثقافة الدين وسيرة الأئمة التي تدعونا إلى ثقافة التسامح، وسيرة أمير المؤمنين تضرب لنا أروع النماذج في ذلك، فتراه حين أُخذ حقه في الخلافة وقيادة الأمة صدح بقوله: «وَوَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ».
مؤكداً أن احتفاءنا بذكريات أهل البيت ينبغي أن يُعزز في نفوسنا هذه الثقافة، وإلا سيكون احتفاؤنا شكلياً لا قيمة له.
هذا وقد بدأ الحفل الذي قدم فقراته الدكتور محمد آل ليل، بآيات من القرآن الكريم تلاها القارئ علي آل هاني، ثم مشاركة الشاعر الأستاذ سيعد رهين، وأهازيج قدمها الملا أحمد آل هاني، كما شارك كل من الشبل علي المويس، والشبل أحمد رهين بكلمات بهذه المناسبة.