تحفيز التحوّل الإيجابي في السلوك

 

يقول تعالى: ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. [سورة إبراهيم، الآية: 1].

عرّفوا السلوك بأنه النشاط الذي يصدر عن الإنسان، سواء كان أفعالًا يمكن ملاحظتها وقياسها، كالنشاطات الفسيولوجية والحركية، أو نشاطات غير ملحوظة، كالتفكير والتّذكّر والوساوس وغيرها.

وسلوك الإنسان هو البرمجة لنمط حياته وتفاعله مع محيطه، فهو يشمل أسلوب إدارة الإنسان لحياته الذاتية، وطريقة تعامله مع الآخرين، ومع الأشياء من حوله.

كيف يتشكّل السلوك؟

يتشكل سلوك الإنسان بتأثير عوامل متعددة، منها التأثير الوراثي، والتربية، والبيئة الاجتماعية، والثقافة، والتجارب والخبرات الشخصية.

لذلك من الطبيعي أن يختلف الناس في سلوكهم بسبب اختلاف العوامل المؤثرة عليهم.

كما يختلف الناس في الاهتمام بالمراجعة والنقد لسلوكهم، والسعي للارتقاء إلى الأحسن والأفضل.

فقد يُبتلى الإنسان بسلوك سيئ، نتيجة مؤثر من المؤثرات الذاتية أو الخارجية، فيستصعب تغييره رغم إدراكه لسوئه وضرره عليه.

وقد يعتقد أنّ السلوك الذي هو عليه جزء من طبيعته وذاته. وهذا خطأ كبير، ذلك أنّ الله تعالى منح الإنسان عقلًا وإرادة، وبإمكانه إذا قرر أن يتخطى تأثير مختلف المؤثرات.

التحوّل في سلوك الأفراد والمجتمعات

تاريخ البشرية حافل بتجارب التغيير والتحوّل في سلوك الأفراد والمجتمعات إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ.

وتُقدِّم البعثة النبوية الشريفة أروع وأنجح تجربة في التغيير والتحوّل الاجتماعي، فقد بعث النبي محمد في مجتمع كان يتصف معظم أفراده بالسلوك السيئ، حيث كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويعيشون حالة الاحتراب والانقسام، وتسودهم العصبية والجهل، وتنتشر بينهم مساوئ الأخلاق.

وفي زمن قياسي استطاع النبي تربية جيل مختلف في أفكاره ومعتقداته، وفي سلوكه وطريقة حياته.

وقد انطلق هذا التغيير من تغيير النفوس والأفكار، ذلك أنّ سلوك الإنسان لا يحدث من فراغ، وإنما بإرادة نفسية وخلفية ثقافية، كان حجر الزاوية لذلك التغيير هو تغيير الرؤية للذات والحياة.

فالإنسان الجاهلي كانت رؤيته مشوشة للكون ولوجوده في هذه الحياة، ما كان مهتمًا بالتفكير في هذا الموضوع، قد يكون مدركًا بفطرته أنّ لهذا الكون إلهًا خالقًا، لكنه لا يمتلك تصوّرًا صحيحًا عن صفات هذا الإله ولا عن العلاقة به.

فكان الأساس الأول الذي عمل عليه رسول الله هو هدايتهم للإيمان بالله تعالى برؤية صحيحة واضحة. يشعرون من خلالها بالمسؤولية أمام الله تعالى في حياتهم وتصرفاتهم؛ لأنّ الله رقيب ومطّلع على كلّ تصرفات خلقه، وهم سيرجعون إليه ليحاسبهم على كلّ ما عملوه.

وكانت شخصية رسول الله مؤثرة في نفوسهم، مهيمنة على مشاعرهم وأحاسيسهم، لما رأوه من صدقه وعظيم خلقه، فامتلأت قلوبهم بالثقة به والمحبة له، فكانوا يستجيبون لأمره بقناعة وثقة.

لقد صنع الإسلام ثقافة جديدة للمجتمع من خلال آيات القرآن الكريم وخطب وأحاديث رسول الله .

وكانت تلك الثقافة محفّزة للتحوّل والتغيير وصناعة واقع سلوكي جديد، ينبثق من القيم والمبادئ السامية، وينسجم مع العقل والفطرة.

مشاهد من التحوّل والتغيير

ينقل لنا التاريخ بعض مشاهد الاستجابة للتغيير والتحوّل في السلوك عند الجيل الأول من المسلمين.

فمثلًا: كان شرب الخمر متداولًا بينهم، لا يكاد أحد منهم يستغني عن شربه، إلّا ما ندر، حيث ينقل التاريخ عن أشخاص كانوا يترفعون عن شرب الخمر في الجاهلية.

وحين جاء التّحريم القاطع، بادر كلٌّ منهم إلى إراقة ما لديه من الخمر، حتى جرت في سكك المدينة[1] .

وعلى مستوى العلاقات كانت تسوهم العصبية القبلية، كان عنوان العربي قبيلته، ينتمي إلى القبيلة ويفخر بها، ويدافع عنها في أيّ خلاف أو نزاع، ولا يعنيه إن كانت على حقٍّ أو على باطل، فهو يتبع قبيلته، يقول الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:

وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ    غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

وهو ينصر ابن قبيلته ولو كان ظالمًا، يقول أحد شعرائهم:

إِذَا أَنَا لَمْ أَنْصُرْ أَخِي وَهْوَ ظَالِمٌ           عَلَى الْقَوْمِ لَمْ أَنْصُرْ أَخِي حِينَ يُظْلَمُ

وقال آخر:

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ          في النَّائِبَاتِ على مَا قالَ بُرْهَانَا

ولما خرج مسيلمة وادّعى النبوة جاءه واحد من قبيلته، وقال له: أنت مسيلمة؟

قال: نعم.

قال: من يأتيك؟

قال: رحمن.

قال: أفي نور أو في ظلمة؟

فقال: في ظلمة.

فقال: أشهد أنك كذّاب وأنّ محمدًا صادقٌ، ولكن كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر[2] .

فجاء الإسلام ليغيّر هذا السلوك، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا. [سورة النساء، الآية: 135].

وبعد أن كان الجاهلي يقاتل ليغنم من الآخرين، صار بالإيمان يؤثر الآخرين على نفسه.

عَنْ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ: (انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِّي، وَمَعِي شَنَّةٌ مِنْ مَاءٍ وَإِنَاءٍ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ بِهِ رِمَاقٌ سَقَيْتُهُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَسَحْتُ بِهِ وَجْهَهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ يَنْشَغُ، فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ. فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامٌ أَنِ انْطَلِقْ بِهِ إِلَيْهِ، فَجِئْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَتَيْتُ ابْنَ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ)[3] .

درس في مراجعة السلوك وتغييره

وحين نحتفي بالبعثة النبوية الشريفة، علينا أن نقف عند هذا الدرس المهم، وهو تحفيز التحوّل الإيجابي في السلوك، عبر استحضار الرؤية الصحيحة عن الحياة وعن الذّات، وإثارة الثقافة الواعية، وخلق الأجواء الإيجابية المحفّزة للإصلاح والتطوير في السلوك.

وعلى كلّ واحدٍ أن يهتم بمراجعة سلوكه، ليرى نقاط الضعف فيه، ثم يقرّر التغيير والتحوّل عن السلوك الخطأ إلى السلوك الصحيح، وهذا يجري على مختلف الجوانب في حياة الإنسان، في مجال إدارة الذات والعلاقة مع الآخرين.

 

خطبة الجمعة 1 شعبان ١٤٤٦هـ الموافق 31 يناير ٢٠٢5م.

[1]  صحيح البخاري، ح4620.
[2]  ابن كثير: البداية والنهاية، ج6، ص360.
[3]  ابن المبارك، الجهاد، ص97.