إدارة الحياة بين السنن والأوهام
يقول تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾. [سورة فاطر، الآية: 43].
تؤكد آيات كثيرة في القرآن الكريم على حاكمية السنن والقوانين في إدارة الكون والحياة.
فهناك سنن وقوانين إلهية تضبط وجود وحركة كلّ ذرة في الكون، وكلّ حدث في الحياة، فلا مجال للفوضى والعبث والارتجال؛ لأنّ الخالق مدبر حكيم قدير عليم.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. [سورة القمر، الآية: 49].
ويقول تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾. [سورة الحجر، الآية: 21].
وكما أنّ للطبيعة نظامها وقانونها الإلهي، فإنّ الحياة الاجتماعية أيضًا تخضع لسنن إلهية ثابتة، حيث تشير أكثر من 16 آية قرآنية إلى حاكمية هذه السنن.
يقول تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾. [سورة الأحزاب، الآية: 62] إنها سنن ثابتة لا تتغير في أجيال البشر وحياة المجتمعات.
ويقول تعالى: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 77].
وكما رجح بعض العلماء، فإنّ التبديل يختلف عن التحويل، تبديل الشيء: تعويضه بغيره كاملًا، أما التحويل، فهو: تغيير بعض صفات الشيء الأول من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.
وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الاستبدال والتعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدة والضعف أو القلة أو الزيادة[1] .
وبعض العلماء رأوا أنّ التحويل، هو: نقل تأثير السنة إلى مكان أو جهة أخرى، غير الجهة المستحقة.
وفي آية أخرى ينفي تعالى إمكان الأمرين في ذات الآية، التبديل والتحويل، يقول تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾. [سورة فاطر، الآية: 43].
الوعي بالسنن وقوانين الحياة
ولعلّ تأكيد الآيات القرآنية على ثبات القوانين والسنن في أنظمة الكون والحياة، يهدف إلى الحقائق التالية:
أولًا: تبيين عظمة الله وحكمته وقدرته، بتسيير هذا الوجود الضخم على هذا النحو الدقيق من الإتقان والثبات.
ثانيًا: لدفع الإنسان لاكتشاف هذه السنن والقوانين، ليستطيع من خلال ذلك التعامل مع واقع الكون وحركة الحياة بشكل أفضل، ولم يحرز الإنسان هذا التقدم والتطور في حياته إلّا عبر اكتشافه ومعرفته لبعض القوانين والسنن.
فكلّما اطلع الإنسان بدقة أكبر على نظام جسم الإنسان مثلًا، أمكنه أن يطوّر من واقعه الصحي بشكل أفضل.
ثالثًا: ليبني الإنسان طريقة تعامله مع الحياة على أساس علمي صحيح، بعيدًا عن الخرافات والأوهام، فالحياة لا يسيّرها السحر والسحرة، ولا التمائم والأحراز.
وقد يعتقد بعض المتديّنين أو يتوقعون أن تديّنهم يجعل حياتهم فوق السنن والقوانين الحاكمة في الكون والحياة، وأنّ الله تعالى يتدخل غيبيًا لتطوير حياتهم وتحسينها، وحلّ المشكلات التي يواجهونها. لكنّ القرآن الكريم يرفض هذا المنطق، فهذا خطأ في الفهم تريد معالجته هذه الآيات الكريمة.
فالموت مثلًا، سنة طبيعية، لم يستثنَ منها حتى أفضل خلق الله النبي محمد ، حيث يخاطبه الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾. [سورة الزمر، الآية: 30].
ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾. [سورة الأنبياء، الآية: 34].
حاكمية السنن على الجميع
لا يصح أبداً أن يتوقع الإنسان المؤمن أن تشفع له عقيدته الصحيحة في ترتيب شؤون حياته، وفي أخذ موقع متقدم على الآخرين، دون أن يكون مستحقًا لذلك بكفاءته وسعيه.
ففرص التقدم في الحياة متاحة للجميع، والسنن الإلهية الحاكمة لا تقبل المحاباة ولا المحسوبيات. إنّ القدرة على السباحة في البحر تنجي الإنسان من الغرق، مؤمنًا كان أو كافرًا، فإذا لم يتقن المؤمن السباحة فإنه سيغرق إنفاذًا لسنة الله، ولا يشفع له إيمانه وتديّنه في النجاة، وإذا كان الكافر قادرًا على السباحة فسيصل إلى ساحل البحر بسلام رغم كفره، يقول تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهـَؤُلاَءِ مِنْ عَطَـاءِ رَبِّكَ وَمَا كَـانَ عَطَـــاءُ رَبِّكَ مَحْظـُورًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 20].
فعطاء الله تعالى في الدنيا ليس خاصًّا بالمؤمنين، وإنما هو مبذول لهم وللكافرين على حدٍّ سواء، وليس محظورًا على أحد، بسبب بطلان عقيدته أو مذهبه.
وفي معركة أحد نجد مصداقًا جليًّا لهذه المعادلة الحياتية والسنة الإلهية، فمع أنّ المسلمين هم أصحاب الدين الصحيح والعقيدة الصادقة، وكان فيهم رسول الله وهو أشرف خلق الله، وأحبّهم إليه، إلّا أنّ ذلك لم يشفع لهم في الانتصار على العدو الكافر ذي العقيدة الفاسدة، حينما قصّروا في العمل ولم يلتزموا بخطة المعركة، حيث نزل الرماة من أعلى الجبل وأعطوا للعدو فرصة الالتفاف عليهم.
إنّ سعي الإنسان هو الذي يصنع واقعه في هذه الحياة، وإنّ عمله ونشاطه هو الذي يحدّد درجة مستواه الحياتي. وإذا ما رأينا الناس تتفاوت مستوياتهم، كأفراد وكأمم ومجتمعات، فهناك من يصنف ضمن فلك العالم المتقدم، وهناك من يرزح تحت وطأة التخلف، فلا بُدّ أن نبحث عن سبب هذا التفاوت في المجال السلوكي العملي.
فالنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ليس نتيجة لتفاوت مستوى التطلعات والآمال، ولا هو أثر حتمي للمعتقدات والأفكار المجردة، وإنما هو إفراز طبيعي لمستوى العمل والسعي والنشاط.
ويقرر القرآن الحكيم في آيتين كريمتين أنّ عمل الإنسان هو الذي يحدّد درجته ومستواه في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾. [سورة الأنعام، الآية: 132].
ويقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾. [سورة الأحقاف، الآية: 19].
إنّ درجة ومستوى كلّ إنسان، فردًا كان أو مجتمعًا، لا تتحدّد من وحي تخيلاته وآماله وتطلّعاته، ولا من خلال أفكاره ومعتقداته وإنما ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ أي إنّ درجته تتحدّد عبر سعيه وعمله.
التدخّل الغيبي
الإيمان بالغيب أساس في العقيدة الدينية، وينبثق عنه الإيمان بالسنن والقصدية والحكمة في الوجود.
التدخل الإلهي قائم وهو سنة إلهية. ولا نقول ما قالته اليهود كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سورة المائدة، الآية: 64]، نؤمن أنّ الله على كلّ شيء قدير، لكنّ قدرته موافقة لحكمته، وحكمته تقتضي ثبات السنن والقوانين.
إنّ الله تعالى قادر على نصر المؤمنين على أعدائهم، لكن ذلك عبر سنة تصدّي المؤمنين لتحمّل مسؤولية الجهاد والمقاومة؛ ليستحقّ المؤمنون جدارة النصر.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾. [سورة محمد، الآية: 7].
ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾. [سورة محمد، الآية: 4].
ويقول تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾. [سورة التوبة، الآية: 14].
وهنا نحتاج إلى فهم صحيح لمسألة الدعاء، فالدعاء طلب من الله يواكب السعي والعمل، وليس بديلًا عنه.
جاء عن رسول الله في وصية لأبي ذر: يا أَبا ذَرٍّ: «مَثَلُ الَّذي يَدعو بِغَيرِ عَمَلٍ كَمَثَلِ الَّذي يَرمي بِغَيرِ وَتَرٍ»[2] .
ومثله ما ورد عن الإمام علي : «الدَّاعِي بِلاَ عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلاَ وَتَرٍ»[3] .
وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «مَن سَأَلَ اللّه َ التَّوفيقَ ولَم يَجتَهِد فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ»[4] .
وتؤكد بعض النصوص على أهمية فهم الداعي لطبيعة ما يدعو به، ومدى موافقته للسنن.
ورد عن الإمام علي : «إِنَّ كَرَمَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْقُضُ حِكْمَتَهُ، فَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ اَلْإِجَابَةُ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ»[5] .
وجاء في الدعاء الثالث عشر من الصحيفة السجادية، عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين : «يَا مَنْ لا تُبَدِّلُ حِكْمَتَهُ الْوَسَائِلُ»[6] .
(والمعنى أنّ حكمته تعالى إذا اقتضت وقوع أمر أو لا وقوعه، فلا بُدّ من تحقق ما اقتضته، حكمته، ولا تغير ذلك الوسائل من الأعمال التي يتوسل بها إليه كالدعاء وغيره.
وإلى هذا المعنى أشار من قال: إنّ العلماء بالله لا يتوسلون إلى الله في أن يبدّل لهم جريان أحكامه بخلاف ما يكرهون، ولا ليغير لهم سابق مشيئته ومقتضى حكمته، ولا ليحول عنهم سائر سنته التي قد خلت في عباده من الابتلاء والاختبار.
فإن قلت: قد ورد أنّ الدعاء والصدقة يدفعان البلاء المقدر.
قلت: دفع ذلك البلاء بالدعاء والصدقة منوط بالحكمة الإلهية أيضا، وقد كانت الحكمة في وقوعه مشروطة بعدم الدعاء والتصدق، فلا منافاة)[7] .
وتحدث رسول الله عن عدد ممن لا يستجاب لهم، ومنهم: «رَجُلٌ مَرَّ بِحَائِطٍ مَائِلٍ وَهُوَ يُقْبِلُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُسْرِعِ اَلْمَشْيَ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: اَللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي وَلَمْ يَطْلُبْ»[8] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «يَا صَاحِبَ اَلدُّعَاءِ، لاَ تَسْأَلْ مَا لاَ يَكُونُ وَلاَ يَحِلُّ»[9] .
وسأل زيد بن صوحان العبدي عليًّا : أَيُّ دَعْوَةٍ أَضَلُّ؟ قَالَ
: «اَلدَّاعِي بِمَا لاَ يَكُونُ»[10] .
المؤمن يتعامل مع السنن القائمة وعبرها يدير حياته، والدعاء مطلوب ومهم لأنه:
1/ يعزّز الحضور الإلهي في نفس الإنسان، وتأكيد العبودية والحاجة له، والإقرار بهيمنته وقدرته المطلقة.
2/ يحيي الأمل في نفس الإنسان بأنّ هناك مخرجًا عبر سنة أخرى، وطريقًا آخر لم يكن ملتفتًا إليه، ولم يكتشفه.
3/ ينتج الدافعية للعمل والسعي.