الدعاء طاقة روحية ومدد إلهي
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. [سورة غافر، الآية: 60].
يواجه الإنسان في هذه الحياة تحدّيات كثيرة، قد يجد نفسه عاجزًا عن تحمّلها، كما أنّ له حاجات وتطلّعات يتمنى تحقيقها، ويشعر بعدم القدرة على الوصول إليها.
والإنسان إنما يستقبل التحدّيات ويحمل هموم التطلّعات بطاقته الروحية والنفسية، التي هي المحرك والباعث لسائر قدراته وإمكاناته. وكلما امتلك طاقة روحية أكبر، انخفض شعوره بالعجز والضعف أمام التحدّيات والتطلعات، وأصبح أكثر ثقة بالقدرة على تجاوز التحدّيات، وتحقيق التطلّعات.
وذلك ما يدفعه للسعي والحركة، وتفعيل إمكاناته وقدراته الفكرية والجسمية، ويجنّبه حدوث الأزمات داخل نفسه، بسبب مشاعر الإحباط والعجز. وهذا هو الأثر المهم الذي ينتجه الدعاء في حياة الإنسان.
ترسيخ الإيمان وتعزيز الأمل
إنّ الدعاء يفتح أمام الإنسان أبواب الأمل والرجاء، ويجنّبه حالة اليأس والقنوط، فيجتهد في سعيه وحركته للوصول إلى مبتغاه، وتكون نفسه مفعمة بالسكينة والاطمئنان لو صدّته الموانع والعوائق.
والإيمان بالله تعالى وبصفاته الحسنى، هو الأرضية التي ينطلق منها الإنسان في التجائه إلى الله تعالى بالدعاء. حين يؤمن بأنّ للكون والحياة خالقًا مدبرًا مهيمنًا، وكلّ الأمور بيده.
يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 109].
إنّ الدّعاء يعزّز ويرسّخ هذا الإيمان في نفس الإنسان، وهو هدف أساس للحث على الدعاء، والتأكيد على أهميته في جميع الرسالات الإلهية.
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. [سورة غافر، الآية: 60].
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 186].
ويقول تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾. [سورة النمل، الآية: 62].
أما الأحاديث والروايات التي تحث على الدعاء، فهي كثيرة جدًا، نكتفي منها بنص واحد:
عن الإمام جعفر الصادق : «عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّكُمْ لاَ تَتَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَسْأَلُوهَا فَإِنَّ صَاحِبَ اَلصَّغَائِرِ هُوَ صَاحِبُ اَلْكَبَائِرِ»[1] .
لكنّ هناك إشكالًا يفرض نفسه أمام هذا الوعد الإلهي باستجابة الدعاء الذي تؤكده الآيات والأحاديث الكثيرة.
وهو أنّ الإنسان لا يلمس الاستجابة لكثير من دعواته التي يتقدّم بها إلى الله تعالى، فيتساءل عن فائدة الدعاء وجدواه.
شروط استجابة الدعاء
إنّ المفاهيم الدينية منظومة متكاملة، ولا يصح أن ينظر الإنسان إلى جزء من هذه المفاهيم ويغفل عن الأجزاء الأخرى، فذلك هو ما يحدث التشويش والإرباك في وعيه الديني.
إنّ نصوصًا دينية كثيرة تؤكد على أنّ هناك شروطًا للدعاء ليكون في موقع الإجابة.
إنه تعالى يقول: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 186] أي فليستجيبوا لله فيما دعاهم إليه، وأمرهم به، وليكن إيمانهم صادقًا بالله تعالى.
ويقول تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. [سورة غافر، الآية: 14]. فلا أن يواكب الدعاء إخلاص الدين لله، وإن كانت الظروف معاكسة لذلك ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
وفي هذا السياق ورد عن رسول الله أنه قال في جواب من سأله: أحِبُّ أن تُستَجابَ دَعوَتي، فأجاب
: «اجتَنِبِ الحَرامَ تُستَجَب دَعوَتُكَ»[2] .
وعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عن آبائه عن رسول الله
: «أَطِيعُوا اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُطِعْكُمْ»[3] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «مَنْ عَظَّمَ أَوَامِرَ اَللَّهِ أَجَابَ سُؤَالَهُ»[4] .
وقال رجل للإمام جعفر الصادق : جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فَإِنَّا نَدْعُو فَلاَ يُسْتَجَابُ لَنَا، قال
: «لِأَنَّكُمْ لاَ تَفُونَ لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَإِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وَاَللَّهِ لَوْ وَفَيْتُمْ لِلَّهِ لَوَفَى اَللَّهُ لَكُمْ»[5] .
مسارات الاستجابة للدعاء
هناك ثلاثة ألوان من الدعاء:
الأول: يتعلق بالآخرة، كطلب المغفرة من الله تعالى، والخلاص من النار والعذاب، ودخول الجنة، ونيل المزيد من الأجر والثواب.
وعلى هذا الصعيد، تؤكد النصوص الدينية على سعة رحمة الله تعالى وعظيم فضله على عباده في الآخرة، بأضعاف ما يغمرهم به في الدنيا.
فأبواب الاستجابة مشرعة لما يدعو به المؤمن من تطلعات في الآخرة، فليكثر من الدعاء لتحقيق أعظم التطلعات فيها، وذلك أهم من حاجاته وطموحاته الدنيوية.
الثاني: يتعلق بتحقيق التكامل النفسي والاستقامة السلوكية، وهذا ما يعتمد على جدّية الإنسان في تحقيقه والوصول إليه، والله تعالى يوفق الساعين في طيق التكامل الروحي والأخلاقي.
وعلى الإنسان أن يدعوَ الله بأن يوفقه للتحلي بأفضل الصفات الأخلاقية والسمات النفسية، ونجد نماذج لهذه الدعوات فيما ينقله القرآن الكريم عن الأنبياء والأولياء.
يقول تعالى: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. [سورة الأحقاف، الآية: 15].
ويقول تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾. [سورة إبراهيم، الآية: 40].
ويقول تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. [سورة الحشر، الآية: 10].
وكذلك الأدعية المأثورة، وفي طليعتها دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين زين العابدين .
الثالث: يرتبط بحاجات الإنسان وتطلّعاته المادية في هذه الحياة، ولعلّ أكثر ما يدعو به الإنسان هو ما يرتبط بهمومه وحاجاته الدنيوية، وفي هذا المجال يتركز الإشكال والتساؤل عن مدى جدوى الدعاء في تحقيق طموحات الإنسان وتلبية احتياجاته، ومعالجة المشاكل التي يواجهها.
الاستجابة ضمن السنن الإلهية
لا بُدّ من الالتفات إلى حاكمية السنن والقوانين الإلهية، فقد شاءت حكمة الله تعالى أن تجريَ أمور الحياة بنظام وتقدير، ليس فيه مجال للعبث والفوضى والارتجال، وذلك ما تؤكده النصوص الدينية الكثيرة، ولذلك يجب أن يواكب الأخذ بالأسباب مراعاة أنظمة الكون والحياة، فيسعى الإنسان ويبذل جهده ويكون الدعاء سببًا للمدد الإلهي له بالعون والتوفيق.
أما الاكتفاء بالدعاء دون العمل والسعي فهذا يكون بعيدًا عن الاستجابة.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «أَرْبَعَةٌ لَا تُسْتَجَابُ لَهُمْ دَعْوَةٌ: رَجُلٌ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَيُقَالُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالطَّلَبِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَدَعَا عَلَيْهَا فَيُقَالُ لَهُ: أَ لَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا إِلَيْكَ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَفْسَدَهُ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَيُقَالُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالاقْتِصَادِ، أَ لَمْ آمُرْكَ بِالْإِصْلَاحِ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَدَانَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَيُقَالُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالشَّهَادَةِ»[6] .
وقد يكون ما يدعو ويطلبه الإنسان لا ينسجم مع سنة وحكمة إلهية، فلا يلبّي طلبه.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «إِنَّ كَرَمَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْقُضُ حِكْمَتَهُ فَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ اَلْإِجَابَةُ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ»[7] .
لكنّ الإنسان لا يعرف كلّ السنن والقوانين، وموارد انطباق الحكمة الإلهية، لذلك عليه أن يدعوَ ويجتهدَ في الدعاء، فقد يكون موردًا لسنة أخرى ينال من خلالها المدد الإلهي.
وتمرّ على الإنسان حوادث وقضايا كثيرة يرى من خلالها كيف تحقق ما لم يكن متوقعًا، وكيف كفاه الله سوءًا كان على وشك الإصابة به.
يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾. [سورة الطلاق، الآيتان: 2-3].
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل للإنسان مخرجًا عبر سنة لم يكن ملتفتًا إليها ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ ولكن ذلك ضمن النظام الإلهي للكون والحياة، ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.
الدعاء مكاسب مضمونة
تشرح نصوص دينية أنّ الله تعالى لا يخيّب عبده إذا دعاه، بل يستجيب له بشكل أو بآخر، فآثار الدعاء ومكاسبه مضمونة.
روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دَعْوَةً لَيْسَ فِيهَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلاَ إِثْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ اَللَّهُ بِهَا أَحَدَ خِصَالٍ ثَلاَثَةٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ اَلسُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِذَنْ نُكْثِرُ، قَالَ: أَكْثِرُوا»[8] .
وعنه : «ما مِن مُؤمِنٍ يَدعو بِدَعوَةٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ؛ فَإِن لَم يُعطَها فِي الدُّنيا أُعطِيَها فِي الآخِرَةِ»[9] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَخِّرُوا إِجَابَتَهُ شَوْقًا إِلَى صَوْتِهِ وَدُعَائِهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي دَعَوْتَنِي فَأَخَّرْتُ إِجَابَتَكَ، وَثَوَابُكَ كَذَا وَكَذَا، وَدَعَوْتَنِي فِي كَذَا وَكَذَا فَأَخَّرْتُ إِجَابَتَكَ، وَثَوَابُكَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ فَيَتَمَنَّى الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يَرَى مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ»[10] .
وورد عن الإمام زين العابدين : «اَلْمُؤْمِنُ مِنْ دُعَائِهِ عَلَى ثَلاَثٍ إِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ بَلاَءٌ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهُ»[11] .
علينا ألّا نبخل على أنفسنا ونحرمها من خيرات وبركات الدعاء، فقد ورد عن رسول الله : «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ»[12] .
ورد عن أمير المؤمنين علي : «مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اَللَّهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ»[13] .