خيارات التعامل مع الناس
يقول تعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. [سورة الشورى، الآية: 43].
إنّ العلاقة مع الآخرين ضرورة تفرض نفسها على الإنسان؛ لأنّ طبيعة الحياة الإنسانية أنها اجتماعية، والإنسان مدني بالطبع، فلا يستطيع تسيير حياته بمفرده.
لكنّ علاقة الانسان بأخيه الإنسان غالبًا ما تكتنفها صعوبات، وذلك لتضارب المصالح، بسبب نزعة حب الذات، وسعي كلّ واحد لتحصيل أكبر قدر من المكاسب ولو على حساب الآخر.
كما أنّ أمزجة الناس وأفكارهم ونفسياتهم مختلفة، فالتعامل مع البشر يختلف عن التعامل مع أشياء الطبيعة الأخرى، التي هي ضمن قوانين وحالة ثابتة، بينما البشر أمزجة مختلفة، وعقول متفاوتة، ومصالح متضاربة، بل إنّ مزاج الفرد قد لا يكون ثابتًا، بل يتقلّب باختلاف الأحوال والظروف، مما يضفي على الصعوبة صعوبة أخرى.
ولا يستطيع الانسان أن يجعل الآخرين حسب مزاجه ورغبته، وهل الناس لباس تفصّله على ذوقك ومقاس جسمك؟
أم أثاث يصنعه لك النجار حسب القياسات التي تريدها؟
خيارات أمام التحدّي الكبير
في مواجهة هذا التحدّي الكبير في علاقة الإنسان مع من حوله، فإنه سيكون أمام أحد خيارات:
الخيار الأول: أن يغيّر طبيعة الأشخاص الذين يتعامل معهم، بحيث يكونون وفق مزاجه، وكما يناسبه، وهذا مما لا يمكن لإنسان ادّعاء القدرة على تحقيقه، نعم قد يستطيع أن يؤثر في الآخرين بإقناعهم بما يريد، وبتعديل بعض سلوكهم، لكنه لا يستطيع الفرض ولا التأثير على الجميع في مختلف مجالات الاحتكاك بهم.
إنّ بعض الأنبياء والأئمة لم يستطع تغيير أقرب القريبين منه، كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ابن نبي الله نوح، يقول تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّـهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [سورة هود، الآيتان: 42-43].
وعن زوجتي نبيي الله نوح ولوط، يقول تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [سورة التحريم، الآية: 10].
وكان أكبر أولاد الإمام جعفر الصادق اسمه عبدالله الأفطح، ويكنّى به، وقد ورد عن الإمام موسى الكاظم أنه قال عن انحراف أخيه: «عبدُاللهِ يرُيدُ أَلا يُعْبَدَ اللهُ»[1] .
وكذلك جعفر بن الإمام علي الهادي الذي عرف بالكذّاب.
إنّ عدم قدرة أفضل البشر على التغيير الحتمي لسلوك كلّ من حولهم، يمثّل درسًا في الواقعية للتعامل مع أبناء البشر، وقد قال تعالى لنبيه محمد : ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. [سورة القصص، الآية: 56].
الانسحاب والعزلة الاجتماعية
الخيار الثاني: أن ينسحب الإنسان من العلاقة مع كلِّ من لا ينسجم معه.
وهنا قد يعزل الإنسان نفسه، وتتقلص دائرة علاقاته إلى حدّ كبير.
وقد رأينا أنّ بعض الناس مثلًا قد يضع تصوّرًا مثاليًا للزوجة أو الزوج الذي يقترن بها أو تقترن به، ثم يضطر للتراجع عن ذلك التصوّر كلًّا أو بعضًا، وإلّا فسيبقى دون زواج.
وكذلك من يضع شروطًا مثالية لاختيار الأصدقاء.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَن لَم يُؤاخِ إلّا مَن لا عَيبَ فيهِ قَلَّ صَديقُهُ»[2] .
وقال الشاعر:
أتطلِبُ صَاحِبًا لاَ عَيْبَ فِيهِ وَأيُّ النَّاسِ ليسَ لَهُ عيوبُ؟
ثم إنّ هناك من لا تستطيع الانسحاب من العلاقة بهم، كالأرحام والأقرباء، مثل الوالدين والأولاد.
لذلك يقول الله تعالى عن العلاقة بالوالدين المشركين: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [سورة لقمان، الآية: 15].
التورط في الصراعات والأزمات
الخيار الثالث: حياة التشنج والتوتر مع الآخرين، بأن يعيش الإنسان الأزمات الدائمة في علاقاته ويتورط في الصراعات المستمرة مع من حوله. وفي ذلك ضرر كبير على نفسيته ومصالحه.
الخيار الرابع: سياسة الصبر والاستيعاب:
وهذا هو الخيار الذي تحفّزنا إليه الآية الكريمة، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية: 20].
﴿أَتَصْبِرُونَ﴾؟ ثم تجعل الله رقيبًا على الإنسان في انتهاجه لهذه السياسة: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾.
إنّ العلاقة مع الآخرين مادة اختبار وامتحان من قبل الله تعالى للإنسان، فهل ينجح فيها بانتهاج سياسة الصبر والاستيعاب؟
أم يفشل ويخفق بالخضوع لحالة الانفعال واتباع الهوى والأنانية المفرطة؟
الخيار الأفضل
قد يسيء إليك أو يخطئ بحقّك أحدٌ ممن تتعامل معه، وقد تكون قادرًا على ردعه بحكم الشرع أو سلطة القانون، لكن ذلك ليس هو الخيار الأفضل دائمًا، وإنما الأفضل هو الصبر والاستيعاب، وهذا ما تعالجه الآيات الكريمة: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. [سورة الشورى، الآيات: 40-43]
ويجري هذا الموقف الأخلاقي في العلاقات ضمن الدوائر القريبة والبعيدة، ففي العلاقات الزوجية مثلًا: يمكن لكلٍّ منهما أن يصرّ على كامل حقوقه من الطرف الآخر، وعلى محاسبته عن خطئه تجاهه، لكن ذلك وإن كان حقًّا قد يفجّر العلاقة بينهما، ويؤدّي إلى تفكيك الأسرة، بينما سياسة الصبر والاستيعاب تحفظ شمل العائلة، لذلك ورد عن النبي : «مَنْ صَبَرَ عَلَى سُوءِ خُلُقِ اِمْرَأَتِهِ وَ اِحْتَسَبَهُ أَعْطَاهُ اَللَّهُ (بِكُلِّ مَرَّةٍ) يَصْبِرُ عَلَيْهَا مِنَ اَلثَّوَابِ مِثْلَ مَا أَعْطَى أَيُّوبَ عَلَى بَلاَئِهِ»[3] .
وعنه : «مَنْ صَبَرَتْ عَلَى سُوءِ خُلُقِ زَوْجِهَا أَعْطَاهَا مِثْلَ ثَوَابِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ»[4] .
يقول تعالى: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء، الآية: 19].
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «كَانَتْ لِأَبِي
امْرَأَةٌ وَكَانَتْ تُؤْذِيهِ فَكَانَ يَغْفِرُ لَهَا»[5] .
وكذلك الحال في العلاقة مع الأولاد: كما قال نبي الله يعقوب لأبنائه بعد أن جرحوا قلبه، وسببوا له أكبر أذى في حياته بجرمهم تجاه أخيهم يوسف.
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة يوسف، الآية: 74]
ويقول تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾. [سورة يوسف، الآية: 18].
وفي ذات السياق تأتي مسألة الصبر مع الجيران:
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ صَبْرُكَ عَلَى الْأَذَى»[6] .
الصبر شجاعة
قد يتصور البعض أنّ احتماله وصبره مؤشر ضعف أمام الطرف الآخر، لكنّ الإمام عليًّا يقول فيما روي عنه: «الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ»[7] .
ويقول تعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [سورة الشورى، الآية: 43].
ما أحوجنا خاصة في هذا الزمن الذي تستود فيه النزعة الأنانية والحالة الانفعالية، فتؤدي إلى تفكك الأسر وتدمير العلاقات بين الأقرباء والأرحام، ما أحوجنا إلى ترويض نفوسنا وتدريبها على الصبر والاستيعاب، لنكون أقرب إلى النجاح في حياتنا، وأقرب إلى رضا الله سبحانه وتعالى.