في ندوة رمضانية بمسجد الإمام الباقر (ع) بسيهات

الشيخ الصفار: النفس منطقة الخطر الحقيقي.. ولا فلاح إلا بتزكيتها

مكتب الشيخ حسن الصفار

 

في أجواء رمضانية عامرة بالإيمان والتأمل، شهد مسجد الإمام الباقر بسيهات ظهر يوم السبت 8 رمضان 1446هـ الموافق 8 مارس 2025م ندوة فكرية روحية لسماحة الشيخ حسن الصفار، جاءت تحت عنوان "النفس منطقة الخطر"، حيث قدّم سماحته طرحًا تربويًا عميقًا، مستنيرًا بالقرآن الكريم والحديث الشريف، ومستلهمًا من الواقع الإنساني.

الاهتمام بالمادة وإهمال النفس

واستفتح الشيخ الصفار حديثه بنقد الواقع المعاصر، حيث يغرق الإنسان في العناية بجسده وحياته المادية، بينما يُهمل جانبه الروحي والإنساني، مبينًا أن الثقافة السائدة باتت تُقصي البُعد النفسي من مركز الاهتمام، حتى في الدراسات الإنسانية، التي تركز على الظواهر السلوكية أكثر من تعمقها في الكينونة الباطنية للإنسان.

وأكد أن هذا الإهمال لا يمكن أن يُعالج إلا بالعودة إلى الرسالات الإلهية، التي جاءت لتضع النفس الإنسانية في صلب مشروع الإصلاح والتزكية، مستشهدًا بالآية الكريمة:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، ليؤكد أن مهمة الرسول الأعظم كانت إصلاح النفس وتزكيتها، لا مجرد التعليم أو نقل الأحكام.

الفلاح والخيبة

وتوقف سماحته عند قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ‎*‏ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا، مشيرًا إلى أن هذه الآية تمثّل جوهر مشروع الإنسان في هذه الحياة، إذ إن الفلاح لا يعني شيئًا خارجيًا بقدر ما يعني النجاح في تزكية النفس، والخيبة تعني الفشل في هذا الامتحان الداخلي.

وأوضح أن كل إنسان يحب ذاته، ويسعى لما يراه مصلحةً لها، لكن الكثيرين يخطئون في تشخيص طريق المصلحة. فبعضهم يسلك طرقًا منحرفة ظنًا أنها تؤدي للخير، فيما الحقيقة أنها تؤدي إلى الشقاء.

وأضاف: الإنسان الذي يبني مسجدًا، أو من يسعى في خدمة المجتمع، يفعل ذلك بدافع حب الذات، وقد سلك الطريق الصحيح لذلك، بينما من يسرق أو يظلم الآخرين يفعل ذلك بدافع مشابه، لكنه انحرف عن الطريق بسبب تصوّره الخطأ للمصلحة.

النفس بين الهوى والفطرة

وبيّن الشيخ الصفار أن النفس الإنسانية تتكوّن من تركيبة معقدة من العقل، والوجدان، والشهوات، والفطرة، والضمير، وهي محط صراع دائم بين نداء الخير ووسوسة الهوى، مؤكدًا أن على الإنسان أن يدرك أن أعظم معركة في حياته ليست من الخارج، بل من الداخل، مع نفسه.

وأضاف: القرآن عندما يقول: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فإنه يشير إلى أن النفس مهيّأة للسير في كلا الطريقين، وإن مسؤولية الإنسان أن يرجّح جانب النور على الظلمة، وجانب التقوى على الفجور.

خداع النفس والتبرير الذاتي

وانتقد آفة تزكية النفس التي يقع فيها الكثير من الناس، حين يتصورون أنهم على صواب دائم، ولا يقبلون مراجعة أنفسهم، أو الاعتراف بأخطائهم.

واستشهد بقوله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ، محذرًا من الوقوع في فخ العُجب والتقديس الذاتي، الذي يحجب الإنسان عن رؤية تقصيره.

وشدد على أهمية مراجعة النيّة، وفحص الدوافع في كل موقف وسلوك، داعيًا إلى الشجاعة في مصارحة الذات، والاعتراف بمواضع الانحراف والخلل، لأنها الخطوة الأولى نحو الإصلاح والتزكية.

من المسؤولية إلى النجاة

وأكد الشيخ الصفار أن الله سبحانه وتعالى عادلٌ لا يظلم أحدًا، وأن الناس في مواقفهم أمام الحق صنفان، مُقصر في معرفة طريق الهداية رغم قدرته، فهو مسؤول ومحاسب على تقصيره وعدم اهتمامه.

وتابع: وصنف لم تبلغه الرسالة، أو لم تكن لديه القدرة الكافية على التمييز لقصوره، فحكمه بيد الله الرحيم العادل.

واعتبر أن كل إنسان يُمتحن بمقدار ما وُهب من وعي وقدرة، مشيرًا إلى أن الهداية لا تفرض نفسها، بل تتطلب استعدادًا داخليًا، وتفاعلًا حرًا من النفس الباحثة عن الحق.

كُن صادقًا مع نفسك

ومضى يقول: أهم عنصر في مسيرة التزكية، هو أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه، لا يخدعها، ولا يبرر لها أخطاءها. ليحاسب ذاته، ويسأل: لماذا رفضت هذا الخير؟ لماذا غضبت في ذلك الموقف؟ لماذا تحاملت على فلان؟ إن هذه المكاشفة هي الخطوة الأولى في طريق الفلاح.

وختم حديثه بالدعاء للحاضرين ولجميع المؤمنين أن يكونوا من الذين يعرفون أنفسهم، ويهذبونها، وينجون بها من غوائل الهوى ودسائس الشيطان، لينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة.

مداخلات الجمهور: أسئلة وهموم واقعية

شهدت الندوة التي أدارها الأستاذ عبدالله الهمل تفاعلًا لافتًا من الحضور، حيث طُرحت عدة مداخلات وأسئلة عبّرت عن حاجة الناس لفهم ذواتهم والتعامل مع تحدياتها النفسية والسلوكية، من أبرزها:

تساؤلات حول كيفية التمييز بين الوساوس القهرية والتقصير الحقيقي، وهل يُحاسَب الإنسان على الأفكار التي تمرّ بخاطره دون قصد أو إرادة؟

وقد أجاب الشيخ الصفار بأن الخواطر القهرية ليست محل محاسبة إلهية، مؤكدًا أن الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وأن التكليف ينصبّ على الاستجابة للفكرة، لا على مرورها القهري في الذهن.

كما طُرحت تساؤلات تربوية حول كيفية التعامل مع الشباب الذين يرفضون التوجيه أو يختلقون المبررات لمواقفهم الخاطئة.

وأوضح سماحته أن التربية تحتاج إلى صبر ومصارحة، ومحاولات مستمرة، لإثارة وعي الإنسان بذاته دون ضغط أو تعنيف.

وفي مداخلة أخرى، عرضت إشكالية الاعتقاد بأن الطريق الخاطئ هو الصحيح بسبب البيئة أو النشأة، فسماحته فرّق بين من يقصّر في البحث عن الحق، وبين من حالت الظروف دون بلوغه الحق، معتبرًا أن الله أرحم من أن يعذّب من سلك طريقًا وهو يظنه صوابًا دون تعمّد أو جحود.
وسأل أحد الحضور عن الفروقات بين "التقصير" و"القصور" في فهم الدين والسلوك الديني.

وأجاب الشيخ موضحًا أن القصور يُعذر الإنسان فيه، أما التقصير فهو مسؤول عنه، لأن فيه تفريطًا مع الإمكان.

وقد انعكست هذه المداخلات على جوّ الندوة، حيث شعر الكثير من الحاضرين أن الموضوع مسّهم من الداخل، وفتح لهم نوافذ لمراجعة الذات وفهم مشكلاتهم الشخصية بشكل أعمق.

مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446مسجد الباقر سيهات 1446