تلاوة القرآن هداية والتزام
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [سورة فاطر، الآية: 29].
من بركات شهر رمضان العظيمة في حياة المسلمين، زيادة الاهتمام والإقبال على تلاوة القرآن الكريم، حيث يحرص معظم المسلمين على ختم القرآن بقراءة كامل أجزائه، ولو مرة واحدة في الشهر الكريم، وبعضهم يتوفق إلى ختمه أكثر من مرة، بشكل فردي أو في محافل جماعية ضمن المساجد والمجالس والمنازل.
هذه السنة الحسنة التي توارثتها أجيال الأمة جاءت انطلاقًا من أنّ شهر رمضان هو شهر نزول القرآن، كما يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 185].
ولورود نصوص دينيه تحفّز إلى تكثيف تلاوة القرآن فيه، فقد جاء في خطبة رسول الله : «مَنْ تَلاَ فِيهِ آيَةً مِنَ اَلْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ اَلْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ اَلشُّهُورِ»[1] .
وجاء في حديث آخر عنه : «أَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ تِلاَوَةِ اَلْقُرْآنِ»[2] .
وورد عن الإمام محمد الباقر : «لِكُلِّ شَيْءٍ رَبِيعٌ وَرَبِيعُ الْقُرْآنِ شَهْرُ رَمَضَانَ»[3] .
الهدف من تلاوة القرآن
وتلاوة القرآن ينبغي أن تكون ضمن برنامج الإنسان اليومي طوال السنة، فإنّ الله تعالى يقول: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾[سورة المزمل، الآية: 20].
ويقول تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [سورة المزمل، الآية: 4].
وجاء عن النبي محمد : «عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»[4] .
وعنه : «نَوِّرُوا بُيُوتَكُمْ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ»[5] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «الْقُرْآنُ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً»[6] .
إنّ الهدف من تلاوة القرآن الكريم هو الاستفادة من هديه؛ لأنّ الله تعالى أنزله ليكون ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾ [سورة البقرة، الآية: 185].
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء، الآية: 9].
إنّ على الإنسان وهو يقرأ القرآن أن يعيَ ويستحضرَ في ذهنه ونفسه أنّ الله تعالى يخاطبه ويوجّه الكلام إليه، فلا بُدّ أن يهتمَ ويُصغيَ وينتبهَ لحديث ربه إليه، إنك إذا جلست بمحضر شخص عظيم ذي قدرة أو علم أو فضل، فإنك تحبس أنفاسك وتتوجه إليه بكلّك، وتصغي له تمام الاصغاء، وتبدي له غاية الإجلال والتواضع، فكيف وأنت بين يدي جبّار السماوات والأرض وهو يوجّه إليك حديثه وخطابه؟
لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 204].
إنك حين تتلو القرآن، لا تقرأ كتابًا لأحد المؤلفين، بل تتلوا كلام ربّ العالمين.
ورد عن النبي : «إذا أحَبَّ أحدُكُم أنْ يُحَدِّثَ رَبَّهُ فَلْيَقرَأْ اَلْقُرْآنِ»[7] .
وعنه : «ألا مَن اشتاقَ إلَى اللّهِ فَليَستَمِعْ كلامَ اللّهِ»[8] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَقَدْ تَجَلَّى اَللَّهُ لِخَلْقِهِ فِي كَلاَمِهِ وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ»[9] .
ولكي يحقق الإنسان في نفسه أهلية الاستفادة من هدي القرآن، عليه أن ينفتح على كلام الله، ويُقبل عليه بكلّ اهتمام وتركيز، لينفذ نور القرآن إلى عقله وقلبه، وتصل أشعته إلى زوايا أحاسيسه ومشاعره، وحينئذٍ يحصل تأثير القرآن ويظهر مفعول هدايته.
تلاوة تصنع التغيير
وقد يفرض القرآن نفسه على الإنسان في لحظة يقظة وانتباه، فيترك أثرًا سريعًا مباشرًا يصنع انقلابًا في حياته.
لقد دخل جُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ - وهو مشرك- على رسول الله لإطلاق سراح الأسرى بعد معركة بدر، ورسول الله
يصلي، فسمع النبي
وهو يقرأ في المغرب والطور، قال: فلمّا بلغ قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [سورة الطور، الآيات: 35-37]، فقال: كاد قلبي أن يطير)[10]، وفي رواية: (وذلكَ أوَّلَ ما وقَرَ الإيمَانُ في قَلْبِي)[11] .
وروي أنّ الفضيل بن عِيَاض[12] عشق جارية فواعدته ليلًا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئًا يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن[13] ، فكانت سبب توبته، وإقباله على العبادة حتى لقّب (عابد الحرمين).
وكان للمولى عبدالله بن الحسين التستري ابن يحبّه كثيرًا، فاتّفق أنّه مرض مرضًا شديدًا فحضر المسجد لأداء صلاة الجمعة، مع تفرقة حواسّه، فلمّا بلغ في سورة المنافقين إلى قوله تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ﴾، جعل يكرّر ذلك، فلمّا فرغ سألوه عن ذلك فقال: إنّي لمّا بلغت هذا الموضع، تذكّرت ولدي، فجاهدت مع النفس بتكرار هذه الآية، إلى أن فرضته ميّتًا، وجعلت جنازته نصب عيني، فانصرفت عن الآية[14] .
وجاء في تفسير مقتنيات الدرر: أنّ شابًّا حضر صلاة الفجر جماعة، فقرأ الشيخ سورة الحاقّة، فلمّا بلغ إلى قوله: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ صاح الشابّ وسقط وغشي عليه، فلمّا أتّم الشيخ صلاته قال: من هذا؟ قالوا: شابٌّ صالح خائف من اللَّه[15] .
وقدم صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول الله في وفد بني تميم، فقرأ عليه رسول الله
: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ فقال: حسبي ما أبالي أن أسمع من القرآن غير هذا[16] .
ولَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ﴾ قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ :
«نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ حَائِطٌ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا. قَالَ: فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَنَادَاهَا يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ. قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عزّ وجلّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ. وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا وَإِنَّ رسول الله قال: «كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ»[17] .
التلاوة الحقيقية والشكلية
وحين نجد ضعف تأثير تلاوة القرآن على أنفسنا وسلوكنا، فعلينا أن نعيد النظر في طريقة تعاملنا وتعاطينا مع تلاوة القرآن الكريم.
إنّ الله تعالى يوبّخ الذين يعيشون ازدواجية الشخصية، فيتحدثون عن القيم والمثل والمبادئ والأخلاق، لكنّهم لا يلتزمون بها في سلوكهم وعملهم، مع أنّهم يتلون كتاب الله، ويفترض أن يتفاعلوا ويستجيبوا لإرشاده وهدايتهم، فيكون سلوكهم مستقيمًا، يقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 44].
ويُندّد القرآن الكريم بحال اليهود والنصارى الذين كانت تحكمهم العقلية العنصرية وتجاهل الطرف الآخر، مع أنهم يقرؤون ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، مما ينافي سلوكهم الجاهلي ويناقض نهجهم العنصري، يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 113].
إنّ العزة بالإثم والتكبر على الحقّ هو ما يدفع الإنسان للإعراض عن كلام الله تعالى، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة لقمان، الآية: 7].
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة الجاثية، الآية: 8].
إنّ التلاوة الحقيقية للقرآن الكريم هي التي تدفع للتغيير في فكر الإنسان وسلوكه، أما من يتلو القرآن بلسانه، دون أن يسمح بنفوذ هدايته ونوره إلى قلبه، ودون أن تؤثر في مسار حياته وعمله، فهي قراءة شكلية.
ورد عن رسول : «اقرَأِ القرآنَ ما نَهاكَ، فإنْ لمْ يَنهَكَ فلَستَ تَقرَؤهُ»[18] .
وعنه : «رُبَّ تَالِ اَلْقُرْآنِ وَاَلْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ»[19] .
التفاعل مع آيات القرآن
ما أحوجنا، أيّها الأحبّة، إلى الانفتاح أكثر على آيات القرآن الكريم، حين نتلوها أو نستمع تلاوتها، ونستقبلها كخطاب وحديث جديد، مباشر إلينا من قبل الله تعالى، فحين نقرأ قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [سورة الانفطار، الآيات: 1-8].
هل نعيش مع هذه الآيات مشهد القيامة، وهل نتفاعل مع عتاب الله تعالى وهو يخاطب كلَّ واحدٍ منّا؟
وحين نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [سورة ق، الآيات: 16-22].
هل نتصوّر تلك اللحظة (سكرات الموت) التي ستمرّ علينا؟ وهل نستعدّ لها؟
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتلو القرآن حقّ تلاوته، ويستفيد من هديه، ويلتزم تعاليمه.
كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عليٌّ إِذَا خَتَمَ اَلْقُرْآنَ قَالَ: «اَللَّهُمَّ اِشْرَحْ بِالْقُرْآنِ صَدْرِي وَاِسْتَعْمِلْ بِالْقُرْآنِ بَدَنِي وَنَوِّرْ بِالْقُرْآنِ بَصَرِي وَأَطْلِقْ بِالْقُرْآنِ لِسَانِي وَأَعِنِّي عَلَيْهِ مَا أَبْقَيْتَنِي فَإِنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»[20] .