المكابرة والعزة بالإثم
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 206].
يقع الإنسان في الخطأ بسبب الجهل والغفلة، أو بسبب الانقياد للرغبات والأهواء.
وقد يكون الخطأ في دائرة الذات، أي ما يصيبه بالضرر، ويفوّت عليه بعض المصالح والمكاسب المادية والمعنوية، وقد يكون إضرارًا بالآخرين، واعتداءً على حقوقهم ومصالحهم.
حتى لا يستمرّ الخطأ وتتضاعف الأضرار
ومن مصلحة الإنسان وجود من ينبهه إلى خطئه، ويساعده على تجاوزه، حتى لا يستمرّ في الخطأ وتتضاعف عليه الأضرار والخسائر.
إننا ندرك ذلك جيّدًا في المجالات المادية، كالمجال الصحي، حيث يحذّرنا الطبيب من تناول بعض الأشياء، أو أضرار بعض الممارسات، على صحتنا، فنستجيب له ونقدّم له الشكر والأجر، لأنه أرشدنا إلى ما يحمينا ويحفظ صحة أجسامنا.
وكذلك في المجال الاقتصادي، حيث نستفيد من المستشارين وندفع لهم الأثمان، في مقابل ما يقدّمون لنا من شور ونصيحة، لتجنب الخسائر المالية وتحقيق المزيد من الأرباح.
لكننا قد نغفل عن أهمية دور من ينبهنا لأخطائنا في المجال الروحي والأخلاقي، في مجال علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، وفي مجال تهذيب نفوسنا وتزكيتها من الشوائب، وإصلاح الخطأ في سلوكنا وتعاملنا مع الآخرين.
إنّ وجود من يذكّر الإنسان بالقيم والمبادئ الأخلاقية، ويحذّره من مزالق الخطأ في ممارساته وسلوكه، أمر ضروري لضمان استقامة الإنسان ولوقايته وتعافيه من الأمراض الأخلاقية.
وهذه مهمة الأنبياء والأئمة الهداة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومهمة العلماء والدّعاة إلى الخير، السائرين على منهج الأنبياء والأئمة، بل هي مهمة كلّ إنسان صالح يُحبّ الخير والصلاح للآخرين.
المسؤولية تجاه الذات والغير
ذلك أنّ الدّين كما يطالب الإنسان بإصلاح نفسه، فإنه يدفعه للسعي لإصلاح الآخرين، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فكما يُحبّ الخير لنفسه، عليه أن يحبه لغيره، وإلّا فإنه يكون أنانيًا غير صادق في إيمانه وتديّنه.
فكما لا تسمح للإنسان إنسانيته أن يتفرج على من يواجه خطر الغرق أو الاحتراق أو الموت جوعًا أو عطشًا، بل يندفع بمقدار استطاعته لمحاولة إنقاذه، كذلك لا يسمح له وجدانه الديني والأخلاقي، أن يكون لا مباليًا تجاه من يراه ينزلق نحو هاوية السقوط الأخلاقي، والوقوع في الانحرافات السلوكية الخطيرة، بل يتحمّل مسؤوليته في محاولة الهداية والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 104].
وجاء عن رسول الله : «إِنَّ أَعْظَمَ اَلنَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَمْشَاهُمْ فِي أَرْضِهِ بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِهِ»[1] .
وإنّ من أفضل ما يقدّمه الإنسان لأخيه الإنسان، إرشاده ومساعدته لتجاوز الأخطاء الضارة.
ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ : «نِعْمَ اَلْهَدِيَّةُ اَلْمَوْعِظَةُ»[2] .
وعنه : «مَا أَخْلَصَ اَلْمَوَدَّةَ مَنْ لَمْ يَنْصَحْ»[3] .
من جهة أخرى، فإنّ على الإنسان أن يستقبل النصيحة، ويتفاعل مع الموعظة التي توجه إليه. فذلك لمنفعته وخيره.
ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ : «مَنْ أَمَرَكَ بِإِصْلاَحِ نَفْسِكَ فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ تُطِيعُهُ»[4] .
وعنه : «مِنْ أَكْبَرِ اَلتَّوْفِيقِ اَلْأَخْذُ بِالنَّصِيحَةِ»[5] .
إيحاءات شيطانية تمنع الهداية
إنّ مشكلة كثير من الناس أنّهم ينزعجون ممن يعظهم وينصحهم، أو يعرضون عن الموعظة والنصيحة.
فقد يرون ذلك تدخلًا في شؤونهم الخاصة، وهذا إيحاء شيطاني، لحرمان الإنسان من فرص الهداية والاستقامة.
ورد عن رسول الله : «إنَّ أبغضَ الكلامِ إلى اللَّهِ أن يقولَ الرَّجلُ للرَّجلِ: اتَّقِ اللَّهَ، فيقولُ عليكَ نفسَكَ»[6] .
وبعض الناس تدركه الأنفة الزائفة، فيرى أنّ توجيه الموعظة والنصيحة له، تخدش من مقامه ورفعته.
وهذا إيحاء شيطاني آخر، فإنّ الإنسان مهما كان مقامه رفيعًا، لا يستأنف من أمر الطبيب والمعالج له، فقد يكون حاكمًا، أو عالمًا كبيرًا، أو ثريًا عظيمًا، لكنه يدرك أنّ من مصلحته الاستجابة للطبيب، بغضّ النظر عن موقعه الاجتماعي.
إنّ رسول الله بمنزلته التي لا تُدانى، طلب الموعظة من جبرئيل، كما تشير بعض الروايات، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق
: «نَزَلَ جَبْرَئِيلُ
عَلَى اَلنَّبِيِّ
فَقَالَ لَهُ
: «يَا جَبْرَئِيلُ عِظْنِي»، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاِعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاَقِيهِ»[7] .
ونقرأ في سيرة أمير المؤمنين عليٍّ ، أنه كان يحثّ من حوله، على ممارسة النقد تجاهه، وقول ما يرونه حقًا أمامه، فإنه لا يرى في ذلك ما يسيء إلى مقامه في قيادة الأمة، جاء في خطبة له
: «ولَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، ولَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّه مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَه، أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْه كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْه، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ»[8] .
ومن كلام له في الصالحين من أصحابه: «فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ»[9] .
ويذكر أنّ الشيخ مرتضى الأنصاري (121-281هـ)، الذي يُعرف بالشيخ الأعظم، لمكانته الرفيعة في الحوزة العلمية حتى اليوم، حيث لا تزال كتبه الأصولية والفقهية مدار البحث العلمي، كان يقول لأحد تلاميذه، وهو الخطيب الواعظ الشيخ جعفر الشوُشتري (1230-1303هـ): يا شيخ جعفر، عِظْنا فقد قست قلوبنا.
وورد عن زيد بن علي بن الحسين : «إنه ليس من عباد الله أحدٌ فوق أن يُوصَى بتقوى الله، ولا من عباده أحد دون أن يُوصَي بتقوى الله»[10] .
في مقابل ذلك جاء في سيرة عبدالملك بن مروان أنه قال: (والله لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلّا ضربت عنقه)[11] .
الحذر من المكابرة والعزّة بالإثم
وقد يتصوّر الإنسان أنّ استجابته للموعظة وتراجعه عن خطئه، يمثل حالة ضعف في شخصيته وموقفه، فتأخذه المكابرة، أي المغالبة والمعاندة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم: العزّة بالإثم.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 206].
فهناك من إذا ذكَّرهُ أحدٌ بالقيم والمبادئ، وأمره بتقوى الله، والارتداع عن الخطأ والانحراف، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ احتوت عليه وسيطرت العزّة المصاحبة للإثم، ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾.
إنّ من يتصف بهذه الحالة، سيكون مصيره إلى النار، فهي حسبه، أي تكفيه جزاءً على سوء عمله ومسلكه، ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، والمهاد ما يمهّد، أي يُهيأ لمن ينام، إنه مهّده لنفسه بسوء عمله وسلوكه، وجهنم هي بئس المأوى والقرار.
إنّ علينا، أيّها الأحبّة، أن نتحمّل المسؤولية الدينية والأخلاقية تجاه من نراه ينزلق إلى الخطأ في محيط علاقاتنا الاجتماعية، فنسعى إلى نصيحته ومساعدته وإنقاذه بالأسلوب المناسب، وبالحكمة والموعظة الحسنة.
وعلى كلِّ واحدٍ منّا أن ينمّي في نفسه قابلية الاستجابة للنصيحة، والتفاعل مع الموعظة، وألّا يسمح للإيحاءات الشيطانية أن تغلق أمامه نوافذ الهداية، أو تمنع عن قلبه أشعة نور الخير والصلاح.