مقدمة كتاب مساهمات لي للأستاذ عبدالعلي آل سيف

بسم الله الرحمن الرحيم
عاشت ساحة المعرفة الدينية في القطيف زمنًا من الضمور والخمول، حيث التحق فقهاؤها ومعظم علمائها بالرفيق الأعلى، وسادت حالة من الإعراض والعزوف عن الهجرة لطلب العلوم الدينية في أوساط أبناء الجيل الجديد.
لكن مطلع سبعينيات القرن العشرين الميلادي، شهد بداية انبعاث على هذا الصعيد، تمثّل في التحاق عدد محدود من أبناء القطيف بالحوزة العلمية في النجف الأشرف، واستمر توافد أعداد أكبر في العقود التالية.
وكان الأستاذ الشيخ عبدالعلي آل سيف أحد ثلاثة كانوا الرواد الأوائل في تدشين عهد الانبعاث الجديد، حيث هاجر للنجف سنة 1383هـ وهو في الخامسة عشر من عمره، بعد إنهائه المرحلتين الدراسيتين الابتدائية والمتوسطة.
وحين رأى أن برنامج الدروس الحوزوية لا يستنفذ كل طاقته كطالب جادّ، عزم على الجمع بينها وبين إكمال دراسته الأكاديمية، فالتحق بمدرسة أهلية لإنهاء المرحلة الثانوية، ثم انضم إلى كلية الفقه في النجف، ونال شهادة البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وكان يتطلع لإكمال مرحلة الدكتوراه وحصل على فرص ابتعاث من بعض الجامعات لولا عائق العمل الوظيفي الذي انتسب إليه فيما بعد، ولم يتح له فرصة تحقيق ذلك التطلع.
وقد تميّز عن كثير من أقرانه من طلبة العلوم الدينية آنذاك بالتوجه للبحث والكتابة، بدءاً من أيام دراسته في المرحلة الثانوية إلى جانب التزامه بالدروس الحوزوية، وذلك مؤشر على جديته واهتمامه الثقافي والمعرفي.
كما يوحي موضوع أول كتاب ألفه وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، وفي بدايات دراسته الحوزوية، بما كان يتميز به من وعي وإدراك مبكر لهموم الساحة الاجتماعية وقضايا الفكر الديني المعاصر، حيث كان موضوع الكتاب عن (المجتمع وجهاز الحكم عند الإمام علي) وهو موضوع لم يكن محل اهتمام الوسط الحوزوي التقليدي، وقد طبع الكتاب سنة 1968م في النجف الأشرف، ولعله أول تأليف يصدر لواحد من جيله من طلبة العلوم الدينية، حيث لم يكن البحث والكتابة جزءًا من برنامج الدراسة الحوزوية، ولم يكن يحظى بتشجيع من قبل مدرسيّ الحوزة العلمية، خوفًا من انشغال الطالب عن دراسته، ولوجود تصوّر يُفيد أن البحث والكتابة من شأن العلماء الكبار.
لكن الأستاذ آل سيف تجاوز هذا التفكير التقليدي، بسبب اقباله على التثقيف الذاتي، وتأثرًا بأستاذه الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي (رحمه الله) الذي شجّعه على الالتحاق بكلية الفقه، وأحاطه بالعناية والتوجيه في مسار بحوثه وكتاباته.
مكث الأستاذ آل سيف ما يقارب العشر سنوات في النجف الأشرف، قطع فيها شوطًا من الدراسة العلمية، وأثرى معرفته الدينية، من خلال حلقات الدرس الحوزوي، والدراسة الأكاديمية في كلية الفقه، وعبر اهتمامه بالمطالعة والبحث، فأنتج عدداً من الكتب العلمية والثقافية والأدبية القيّمة، فبعد كتابه الأول (المجتمع وجهاز الحكم عند الإمام علي) أنجز كتابًا عن (طرفة بن العبد)، وكتابًا بعنوان (القطيف وأضواء على شعرها المعاصر)، وكتابًا عن (فقه الخمس).
وإلى جانب أبحاثه ومؤلفاته كانت له مشاركات ثقافية وأدبية ضمن نخبة من زملائه الطلبة المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي.
وحين عاد إلى وطنه، ومع انشغاله بعمله الوظيفي والتجاري إلا انه كان يتحيّن الفرص لمتابعة بحوثه، والاستمرار في عطائه الثقافي والأدبي.
وفي هذا الكتاب (مساهمات لي) يقدم الأستاذ آل سيف ما احتفظ به من مشاركاته المختلفة، مما كتبه في النجف الأشرف، أو ألقاه في بعض المناسبات الدينية والاجتماعية، في وطنه وفي بلدان أخرى، مضيفًا إليها بعض الحوارات واللقاءات الإعلامية الثقافية التي أجريت معه.
وتكشف هذه المساهمات عن غيرة دينية راسخة، وروح وطنية مخلصة، ووعي اجتماعي صادق، وذلك ما يتجسد في سيرته العملية، وسلوكه الاجتماعي، مما يشهد له به كل عارفيه، والمطّلعين على نشاطه وفاعليته.
تجد في هذه المساهمات حضورًا لاهتمامه بالتبليغ الديني، ونشر معارف أهل البيت في البلدان الأخرى والمناطق البعيدة، كإندونيسيا وأثيوبيا وتايلاند، هذه البلدان التي زارها ضمن مهام عمله التجاري، لكنه سعى للتعرف على أوضاع أتباع مدرسة أهل البيت
فيها، واهتم بنقل صورة عن حاجاتهم الدينية والثقافية لمراجع الدين، وساعد في إشادة بعض المؤسسات الدينية لهم، وترجمة ونشر الكتب الدينية المفيدة بلغات تلك البلدان.
كما تتضمن هذه المساهمات شيئًا من رؤيته لقضايا مجتمعه المحلي، وبعض المعالجات والحلول المقترحة، فهو في الطليعة من الوجهاء والأعيان المبادرين لحمل هموم المجتمع، ومتابعة ما تحتاجه المنطقة من خدمات ومشاريع في مختلف المجالات، عبر التواصل مع الجهات الحكومية، وبتحفيز الناس للتعاون والتكافل في إطار المؤسسات الأهلية القائمة.
وتعكس صفحات هذا الكتاب عمق حب المؤلف لوطنه ومجتمعه، من خلال التوثيق لتاريخ المنطقة والمجتمع، وتسجيل صور من سير علمائها وأدبائها ورجالاتها البارزين.
وفي تحقيقه لبعض الرسائل الفقهية والنصوص التاريخية التي اشتمل عليها الكتاب، يتجلى حنينه للبحث العلمي الذي شغلته عنه المهام الأخرى.
ولا بد لي أن اشير إلى ما تتمتع به شخصية الأستاذ الشيخ عبدالعلي آل سيف، من خلق اجتماعي رفيع، فهو دائم التواصل مع الناس في أفراحهم وأتراحهم، منفتح على جميع الطبقات والتوجهات، وله اهتمام خاص بعيادة المرضى، وزيارة العلماء والشخصيات الاجتماعية بشكل منتظم، وحين اضطرته بعض المشاكل الصحية لتقليص حركته الاجتماعية، صار يوفد أبنائه لأداء بعض واجبات التواصل الاجتماعي التي كان يلتزم بها، كما لا يتأخر عن إجراء المكالمات التليفونية مع أصدقائه ومعارفه في المناسبات المختلفة.
وله مجلس أسبوعي عصر كل يوم أحد، عادة ما يكون عامراً بحضور بعض العلماء والأدباء والوجهاء وسائر أفراد المجتمع، الذين يقصدونه من مختلف المناطق، فيستقبل الجميع بحفاوة بالغة، وضيافة كريمة، ويحرص على استثمار هذا اللقاء الأسبوعي، بتداول الرأي في القضايا الثقافية والاجتماعية.
حفظ الله أبا أحمد، ومتعه بالصحة والعافية، وجزاه عن دينه ومجتمعه ووطنه خير الجزاء، وشكرًا له على إصدار هذا التوثيق لمساهماته الثقافية والأدبية، وفي انتظار المزيد من عطائه وإنتاجه.
والحمد لله ربّ العالمين.
حسن موسى الصفار
22 محرم 1443هـ
29 أغسطس 2021م