في ذكرى المباهلة.. المساءلة الدينية حق إلهي
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 61].
المباهلة حدث بارز من أحداث السيرة النبوية، ذكره معظم المؤرخين للعهد الإسلامي الأول، وكتّاب السيرة النبوية، كتاريخ ابن الاثير، والبداية والنهاية لابن كثير، ودلائل النبوة لأبي نعيم، والسيرة الحلبية، كما ورد في أحاديث ذكرتها مصادر الحديث المعتمدة كصحيح مسلم، وسنن الترمذي، ومسند أحمد بن حنبل، وتناوله معظم المفسرين في تفسيرهم للآية 61 من آل عمران، كتفسير الطبري، وأسباب النزول للواحدي، والكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للرازي، وتفسير القرطبي.
قصة المباهلة
ويتلخص هذا الحدث الذي وقع في الرابع والعشرين من ذي الحجة على المشهور عند الشيعة، في قدوم وفد من نصارى نجران إلى المدينة المنورة، بعد أن كتب رسول الله كتابًا إلى أسقفهم، يدعوهم فيه إلى الإسلام.
جاء الوفد الذي ضم أسقفهم أبا حارثة بن علقمة، وبضعة عشر رجلًا من أعيانهم، وفي رواية أنهم كانوا ستين شخصًا[1] ، جاؤوا إلى مسجد رسول الله ، فاستقبلهم باحترام وقبل هداياهم، ثم استأذنوه لأداء صلاتهم وضرب الناقوس لها عندما حان وقتها، فأراد الحاضرون من الصحابة منعهم، وقالوا: يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال
: دعوهم، فاستقبلوا المشرق، وأدّوا صلاتهم، وفي ذلك رسالة احترام وتطمين لهم، بأنّ الإسلام لا يستهدف شعائرهم وعباداتهم، ولا يصادر حريتهم الدينية.
فلما فرغوا دنوا من رسول الله ، فعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم من القرآن، وأدار معهم حوارًا عن عقيدتهم في المسيح عيسى بن مريم
، وأوضح لهم أنه عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم، ونبي مرسل من الله تعالى، وليس هو الله، ولا ابن الله، ولا جزءٌ من الله، وأن ولادته من دون أب لا تدلّ على شيء من ذلك، وتلا عليهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 59].
وقد وردت روايات تذكر تفاصيل بعض ذلك الحوار، ذكرتها كتب السيرة النبوية.
واجتهد في إقناعهم، فما كانوا مستعدين للاستجابة والقبول، ولم تكن لهم أدلة مقنعة يدافعون بها عن رأيهم، هنا أمره الله تعالى بدعوتهم إلى المباهلة، يقول تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 61].
معنى المباهلة
والمباهلة من الابتهال، وهو الاجتهاد في الدعاء والتضرع الى الله من الطرفين، بأن يلعن ويهلك الكاذب والظالم منهما، فوافقوا على أن تتم المباهلة في اليوم التالي، خارج المدينة في الصحراء.
والمباهلة يقصد منها استثارة الدافع الوجداني النفسي، واستشعار المسؤولية أمام الله تعالى، في الموقف تجاه الحق، لأنّ عدم قبوله عند ثبوته، يعرّض الإنسان لعقوبة الله تعالى وسخطه، فكأنّ الإنسان يدعو ويبتهل إلى الله، ليصيبه العذاب الذي يستحقه.
فخرجوا في الوقت المحدد، وخرج إليهم رسول الله ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، وعرّفهم بأنهم يمثلون ما ورد في الآية الكريمة، ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ وتطبيقها الحسنان سبطاه، ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ يتمثلون في ابنته فاطمة، ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو علي بن أبي طالب، ابن عمّه وصهره.
كان مشهد قدوم النبي مع الصفوة من أهل بيته مؤثرًا جدًا على نفوس وفد نصارى نجران، فهو يدلّ على الثقة والثبات، حيث جاءهم بخاصة أهل بيته، وأعزّ الناس عليه، وأقربهم الى نفسه، فكيف يعرّضهم للدعاء عليهم باللعن والهلاك من الله، لو لم يكن واثقًا من صدقه وأحقية موقفه، وأنّ اللعن والهلاك سيقع على الطرف الآخر؟ ويُروى أنّ أسقف نجران قال لقومه حينها: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا[2]. فأعلنوا انسحابهم من المباهلة، واستعدادهم لدفع الجزية، أي الخضوع لسلطة الإسلام، مع بقائهم على دينهم، وتمت المعاهدة بينهم وبين رسول الله
على ذلك.
فضيلة لأهل البيت 
وأهم ما تكشف عنه هذه الحادثة التاريخية أمران:
الأول: مكانة أهل البيت العظيمة عند الله وعند رسوله، حيث اختصهم الله بهذا المقام، ولم يختر رسول الله
معهم أحدًا من رجالات عشيرته، كعمّه العباس، ولا من أصحابه، ولا من أزواجه.
وقد احتج بها أئمة أهل البيت لتبيين فضلهم ومكانتهم التي تنكّر لها مناؤوهم.
قال ابن حجر في الصواعق المحرقة: «أَنَّ عَلِيًّا يَوْمَ اَلشُّورَى اِحْتَجَّ عَلَى أَهْلِهَا: فَقَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُكُمُ بالله، هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اَللهِ فِي اَلرَّحِمِ مِنِّي، وَمَنْ جَعَلَهُ نَفْسَهُ وَأَبْنَاءَهُ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ نِسَاءَهُ غَيْرِي؟ قَالُوا: اَللَّهُمَّ لَا»[3] .
وأخرج القندوزي في ينابيع المودة أنّ الحسن بن علي قال في خطبة له: «قال الله تعالى لجدّي حين جحده كفرة أهل نجران وحاجوه: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ فأخرج جدي
معه من الأنفس أبي، ومن البنين أنا وأخي الحسين، ومن النساء فاطمة أمي، فنحن أهله، ولحمه، ودمه، ونفسه، ونحن منه وهو منا»[4] .
كما أنّ كثيرًا من أعلام الإسلام أشاروا إلى ما تعنيه هذه الحادثة من عظيم فضل أهل البيت ومكانتهم.
قال الزمخشري في تفسيره بعد نقل الحادثة: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء)[5] .
وقال الآلوسي في تفسيره: (وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته وإلّا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله
مما لا يمتري فيها مؤمن)[6] .
التعامل مع الآخر الديني
الأمر الثاني الذي تكشف عنه هذه الحادثة، هو رؤية الإسلام في التعامل مع الآخر الديني، هذه الرؤية التي تنطلق من أنّ المحاسبة والمساءلة الدينية هي حقٌّ حصري لله تعالى.
لذلك فإنّ النبي بعد أن رأى إصرارهم على رأيهم، اتفق وإياهم على إرجاع الأمر وإيكاله إلى الله تعالى، فهو الجهة المعنية باتخاذ الإجراء العقابي تجاه الكاذبين والمعاندين في الشأن الديني، ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
فقد شاءت حكمته تعالى أن يزوّد الإنسان بفطرة تهديه إلى خالقه، وبعقل يرشده إلى الدين القويم، لكنّ ذلك يتوقف على استجابته لفطرته، واستخدامه الصحيح لعقله، وتحلّيه بالإرادة ليختار طريق الحقّ، متجاوزًا تأثيرات بيئته، وأهواء نفسه، والأمر يعود إليه بينه وبين ربه، فإذا قصّر في البحث عن الحقّ، أو صرفته أهواؤه عنه، أو ضعف عن مقاومة تأثيرات بيئته، فإنّ الله تعالى هو الذي سيسائله ويحاسبه يوم القيامة. ويعاقبه إن شاء في الدنيا والآخرة.
أما حينما يكون الإنسان قاصرًا عن اكتشاف الحقّ، والوصول إليه، مع حسن نيته وقصده، فإنّ الله خير العاذرين. يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء، الآية: 15].
ويقول تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [سورة النساء، الآية: 165].
فالله تعالى عادل حكيم رحيم بعباده، ومقتضى عدله وحكمته، ألّا يعاقب إلّا من ثبتت عليه الحجة من خلقه، فجحد وعاند، وهناك قاعدة اعتمدها العلماء في أصول الفقه هي «قبح العقاب بلا بيان».
وظيفة البلاغ والتبيين
إنّ وظيفة الأنبياء والأئمة والعلماء، هي تبيين الدين الصحيح للناس، بأقوى دليل وأبلغ بيان، وتنتهي مسؤوليتهم عند هذا الحد، حيث لم يأذن الله تعالى بفرض الدين والإيمان على خلقه بالقهر والقوة، لأنه يريد من الناس إيمانًا اختياريًا يصدر عن اقتناع داخلي، واستجابة فطرية، وإدراك عقلي، وإرادة ذاتية.
يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية: 99].
إنّ النبي لا يمتلك حقّ الفرض والهيمنة على الناس، كما تصرح بذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [سورة النحل، الآية 35]، ويقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية، الآيتان 21 -22]، ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ [سورة الشورى، الآية: 6]، ويقول تعالى: ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [سورة النساء، الآية: 80].
وإذا كان النبي المرسل من قبل الله تعالى لا يحقّ له ذلك، فكيف يصح لغيره أن يمارس هذا الدور تجاه أحدٍ من الناس؟
مساءلة الناس وحسابهم على الله
إنّ مساءلة الناس ومحاسبتهم على أديانهم ومذاهبهم، حقٌّ إلهي خاص، موكول إلى يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾ [سورة الغاشية، الآيتان: 25 -26].
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة الحج، الآية: 17].
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [سورة السجدة، الآية: 25].
إنّ الله سبحانه وتعالى يريد للناس في هذه الحياة أن يتعايشوا بسلام، وأن يتعاونوا على إدارة شؤون حياتهم، وأن يجتهدوا في إعمار الأرض واستثمار خيرات الكون، وإذا اختلفوا في أديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الفكرية، فليبيّن صاحب كلّ دعوة رأيه، ويعرض أدلته، ويتحاور ويتجادل مع الآخرين بالتي هي أحسن، فإن استطاع اقناعهم، وإلّا فليتركهم وشأنهم، فحسابهم على ربهم.
يقول تعالى: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [سورة الأنعام، الآية: 52].
إننا بحاجة إلى التأكيد على هذه الرؤية القرآنية، واستحضارها في التعامل مع يخالفنا في الدين أو المذهب أو الاتجاه الفكري، لنحصّن أجواءنا وسلوكنا من حالات التطرف والتشدد، ولنحمي مجتمعاتنا من التعصب والتوترات والتشنجات الدينية والمذهبية، وبذلك نقتدي بنهج رسول الله ، ونتبع هديه وسنته.