المصداقية بين الفكر والسلوك
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف، الآيتان: 2-3].
المصداقية لغةً: مصدر صناعي، من مصداق، وصدق، وتصديق.
وتعني المصداقية في الثقافة الحديثة: تطابق قول الإنسان وفعله، مما يعطي قوة الإيحاء بالصدق والجدارة بالثقة.
ولا يقبل بعض علماء اللغة العربية استعمال هذه الصيغة لهذا المعنى، لكنّه حظي بموافقة مجمع اللغة العربية في القاهرة[1] .
إنّ من يتحدّث عن قيمة من القيم، أو يتبنّى فكرة من الأفكار، ويدعو لها، يتوقع الناس منه أن لا يناقضها في سلوكه وعمله، وإذا رأوه مخالفًا في سلوكه لما يقوله ويتبنّاه، فلن يكون عندهم جديرًا بالتصديق والثقة والاحترام.
فمن يشيد مثلًا بقيمة العدل وينظّر لها، ويحثّ الناس على الالتزام بها، إذا كان يمارس الظلم على الآخرين، فإنه سيكون موضع نقدٍ وازدراء، ولن يكون لكلامه ودعوته قبول وتأثير في النفوس.
وكذلك من يتحدّث عن العطاء ويدعو إلى البذل والسخاء، وهو يتصف بالشّحّ والبخل.
والأسوأ من فقدان الثقة والاحترام لمثل هؤلاء في نظر الناس، هو مقت الله تعالى لهم، أي بغضه وسخطه الشديد، كما تؤكد الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف، الآيتان: 2-3].
المعرفة مسؤولية مضاعفة
إنّ مسؤولية الالتزام بالقيم والمبادئ تزداد كلّما ارتفع مستوى وعي الإنسان وإدراكه، وهذه حقيقة وجدانية يأخذها الناس بعين الاعتبار، في تقويمهم للأخطاء، ونقدهم للتصرفات السلبية، فهم يفرّقون في ذلك بين العالم والجاهل، وبين الشخص الكبير الناضج والناشئ المراهق، وبين ذي الخبرة والتجربة والإنسان العادي.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحَاسِبُ اَلنَّاسَ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ اَلْعُقُولِ»[2] .
وعنه : «يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ»[3] .
ونجد في النصوص الدينية تركيزًا وتشديدًا على مسؤولية أكبر للعالِم، في الالتزام بالمبادئ والقيم.
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [سورة فاطر، الآية: 28].
فالعلماء بمقدار معرفتهم بعظمة الله تعالى وصفاته وأفعاله، يفترض أنهم يعيشون الخشية منه، والخضوع له، والآية الكريمة جاءت في سياق الحديث عن تجلّيات آيات الله وعظمته ونعمه في الكون والحياة. مما يكشفه ويدركه علماء الطبيعة.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [سورة فاطر، الآيتان: 27-28]
وكذلك فإنّ العلم بشرائع الله وأحكامه وهدي رسالاته، يجب أن يدفع الإنسان للالتزام بتلك الشرائع والأحكام. جاء عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ أَخْوَفُهُمْ لِلَّهِ»[4] .
الالتزام القيمي وتحدّي الأهواء
إذا كان يفترض أن تكون المعرفة حافزًا ودافعًا للالتزام القيمي الأخلاقي، فإنّ ذلك يتحقق بمقدار سيطرة الإنسان على أهوائه وشهواته، التي كثيرًا ما تنزلق به عن طريق الاستقامة، حين تضعف إرادته عن مقاومة الإغراءات، وتأثير الأجواء المصلحية التي يعيشها، فيتنكر لعلمه ومعرفته، ويتصرف خلافًا لمتبنياته الفكرية. وهو ما تحذّر منه الآيات القرآنية والأحاديث والروايات.
إنّ القرآن الكريم يذّكر الأجيال المؤمنة، بنموذج كان في مستوى متقدّم من المعرفة الدينية، لكنّ معرفته لم تعصمه من الانحطاط والسقوط.
يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الأعراف، الآيتان: 175-176].
قال المفسّرون والرواة حول هذه الشخصية إنه من بني إسرائيل، واسمه بلعم بن باعوراء، وقال بعضهم إنه شخصية من العرب المعاصرين للدعوة الإسلامية[5] .
وفي مورد آخر يمثّل القرآن الكريم حامل العلم الديني، الذي لا يعمل بعلمه، بقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الجمعة، الآية: 5].
وروي عن الإمام جعفر الصادق : عن رسول الله
أنه قال: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»[6] .
وجاء عن أمير المؤمنين علي : «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَه جَهْلُه وعِلْمُه مَعَه لَا يَنْفَعُه»[7] .
إنّ من يدعو الناس للالتزام بالدين والأخلاق الفاضلة، وهو يفقد الاستقامة والالتزام، سيكون نموذجًا سيئًا في نظر الناس، وسيكون موقفه أسوأ من الآخرين أمام الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 44].
ورد عن رسول الله : «مَنِ اِزْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا»[8] .
وجاء عن أمير المؤمنين علي : «إِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَحَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ وَأَطَاعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَهُ وَاِتِّبَاعِهِ اَلْهَوَى»[9] .
رجال الفكر وتحدّي المصداقية
وإلى جانب علماء الدين، هناك في المجتمع شريحة المفكرين والمثقفين، التي تواجه أيضًا تحدّي المصداقية، فما تحمله من فكر وثقافة، يفترض أن يدفعها للالتزام القيمي الأخلاقي، وتحمّل المسؤولية تجاه قضايا ومصالح مجتمعها، بيد أنّ البعض منهم تخونه الإرادة، وتسيطر عليه الشهوات والأهواء، والإغراءات المصلحية، فيصبح نموذجًا للخيانة والفساد.
ويُذكر في هذا السياق أحد أبرز الفلاسفة الإنجليز في القرن السادس عشر (1561- 1626م) وهو (فرنسيس بيكون).
فيلسوف ورجل دولة، كان من المؤيّدين الأوائل الأساسيين والأكثر نفوذًا للمذهب التجريبي، ومن المؤيّدين لاستعمال الطرق العلمية لحلّ المشكلات، له كتب وأبحاث فلسفية مهمّة، وانتخب عضوًا في البرلمان البريطاني، ومنح وسام الفروسية، وتقلّد مناصب عديدة رفيعة في الحكومة، لكنه أدين بتهم قبض رشاوى وأودع في السجن[10] .
وقد وصفه الشاعر الإنجليزي بوب بقوله: "إنه أعظم وأحكم وأخسّ إنسان" كما وصفه الدكتور عبدالرحمن بدوي "بالخسّة والنذالة"، كذلك قال عنه العالم الأمريكي المعروف ول ديورانت: "نحن الآن أمام أكبر عقل وأنشطه وأكثره مدعاة للفخر ... إنه حظي بكلّ شيءٍ إلّا الشرف. ففي سعيه وراء المناصب كثيرًا ما ضحى بالمبادئ"[11] .
مكاسب التحلّي بالمصداقية
وتحدّي المصداقية لا ينحصر في دائرة النخب الاجتماعية كالعلماء والمفكرين والمثقفين، بل يواجه كلّ فرد من أفراد المجتمع حسب مستوى وعيه وإدراكه.
إنّ الأب الذي يريد تربية أبنائه وعائلته تربية صالحة، ويدعوهم للاجتهاد والالتزام الأخلاقي، عليه أن يكون نموذجًا لهم. وكذلك المعلم في توجيهه لطلابه، والمدير في إدارته لموظفيه.
إنّ الموظفين والعاملين في أيّ إدارة أو مؤسسة، إذا رأوا مديرهم أمينًا ملتزمًا بنظام العمل، حريصًا على أداء واجباته، حسن التعامل مع المراجعين، فإنه سيكون بسلوكه خير قدوة لهم.
وتؤكد الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت أنّ الانتماء إليهم والقول بولايتهم، يحمّل الإنسان مسؤولية أكبر في الالتزام بالقيم والمبادئ.
عن الأزدي قال: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ [جعفر الصادق ]: «أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا عَنَّا السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّا لَنْ نُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا بِعَمَلٍ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا وَلَايَتَنَا إِلَّا بِعَمَلٍ أَوْ وَرَعٍ، وَأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ»[12] .
وقد علّق الشيخ المجلسي في مرآة العقول على الرواية بقوله: «مَنْ وَصَفَ عَدْلًا» أي بيّن للناس أمرًا حقًّا موافقًا لقانون العدل، أو أمرًا وسطًا غير مائل إلى إفراط أو تفريط، ولم يعمل به أو وصف دينًا حقًّا ولم يعمل بمقتضاه، كما إذا ادّعى القول بإمامة الأئمة ولم يتابعهم قولًا وفعلًا[13] .
إنّ على كلّ إنسان أن يحرص على التحلّي بالمصداقية في شخصيته وسلوكه، لأنها قيمة أخلاقية نبيلة، تمنح الإنسان الرضا والطمأنينة داخل نفسه، وتكسبه الثقة في محيطه الاجتماعي، ويتجنّب بها مقت الله وسخطه، ويحظى برضاه ورضوانه.
وحين يكون الإنسان في موقع التوجيه للآخرين، في المجال الديني أو الفكري أو الإداري أو التربوي، فإنّ عليه أن يكون أحرص على المصداقية، ليكون منسجمًا مع نفسه، وبعيدًا عن الازدواجية والخداع، وليكون أقدر على التأثير والنجاح في دوره ومهمّته.