مقدمة كتاب الفن الرائد للرسول القائد للأستاذ طاهر الجلاوي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين

من أجلى البراهين على صدق نبوة النبي محمد ، عظمة شخصيته، وكمال رسالته، فقد نشأ في مجتمع جاهلي لا نصيب له من الحضارة والمعرفة، ولم يكن له اتصال بأيّ جهة خارج بيئته ليكتسب منها الثقافة والعلم، بل لم يكن يمارس الكتابة والقراءة، كما وصفه الله بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. [سورة العنكبوت، الآية: 48].

فكيف أمكن لشخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعيش في بيئة بعيدة عن الحضارة والعلم، أن يقدم أكمل رسالة وأفضل منهج شامل للحياة، وأن يأتي بقرآن يتحدى به معاصريه والأجيال اللاحقة من البشر، أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة من سوره؟

وكيف يمكن تفسير مستوى العظمة التي تجلّت في شخصيته بمختلف الجوانب والأبعاد؟

إنّ ذلك يدلّ بجلاء ووضوح، على اتصاله بالغيب، وتلقيه الوحي الإلهي، وأنه نبي مبتعث من قبل الله تعالى.

ومن جوانب الكمال في شخصيته ورسالته، اهتمامه بالأناقة والجمال، في تلك البيئة البعيدة جدًا عن مثل هذه الاهتمامات الحضارية.

حيث تكشف السيرة النبوية عن ذائقة جمالية باهرة، وعن مستوى متقدم من الاهتمام بالأناقة والفن في مختلف أبعاد الحياة.

كان النبي يشيد بقيمة الجمال، ويدعو أتباعه إلى تنمية الحسّ الجمالي في نفوسهم، وترجمته في سلوكهم وحياتهم، حيث ورد عنه أنه قال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[1] .

وجاء عن الامام محمد الباقر : «كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ يُغَيِّرُ اَلْأَسْمَاءَ اَلْقَبِيحَةَ فِي اَلرِّجَالِ وَاَلْبُلْدَانِ»[2] .

وفد حبيب بن مروان على النبي وكان اسمه (بغيض) فسمّاه النبي حبيبًا[3] .

وكان كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ اسْمُهُ قَلِيلًا، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ كَثِيرًا، وَأَنَّ مُطِيعَ بْنَ الْأَسْوَدِ كَانَ اسْمُهُ الْعَاصِ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ مُطِيعًا، وَأَنَّ أُمَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ كَانَ اسْمُهَا عَاصِيَةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ جَمِيلَةَ[4] .

وكان يحث أصحابه على تنمية ذائقة الجمال الصوتي، حيث ورد عنه : «حَسِّنُوا اَلْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِنَّ اَلصَّوْتَ اَلْحَسَنَ يَزِيدُ اَلْقُرْآنَ حُسْنًا»[5] .

وعن البراء بن عازب قال: «سَمِعْتُ النبيَّ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أحَدًا أحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ»[6] .

ومما تنقله السيرة النبوية، أنه كان يهتم بالأناقة وجمال المنظر والمظهر، كما كان يهتم بالجمال الروحي والمعنوي والأخلاقي، فكان يقوم بتنسيق شعره، ورد عن الامام علي : «كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ يُرَجِّلُ شَعْرَهُ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُرَجِّلُ شَعْرَهُ بِالْمَاءِ»[7] .

وكان ينظر في المرآة ويرجّل جمّته (مجتمع شعر الناصية) ويتمشط. وربما نظر في الماء وسوّى جمّته فيه. ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلًا عن تجمله لأهله، وقال : «إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَى إِخْوَانِهِ أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُمْ وَيَتَجَمَّلَ»[8] .

ورد عنه : «الشَّعْرُ الْحَسَنُ مِنْ كِسْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكْرِمُوهُ»[9] .

وذكرت مصادر السيرة أنه ربما سرّح لحيته في اليوم مرتين، وكان له مشط عاج تتمشط به وكان أطيب الناس ريحًا، جاء عن الإمام الصادق : «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ مُمَسَّكَةٌ، إِذَا هُوَ تَوَضَّأَ أَخَذَهَا بِيَدِهِ، وَهِيَ رَطْبَةٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ عَرَفُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ بِرَائِحَتِهِ»[10] .

وكان يهتم بأناقة ثيابه وملابسه، عن جندب بن مكيث: «: كَانَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ الْوَفْدُ، لَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ»[11]  وعن ابن عباس: «لقد رأيتُ على رسول الله أحْسَنَ ما يكونُ مِن الثيابِ اليَمَنِية»[12] .

وعن جابر بن عبدالله: أنَّ رسولَ اللهِ رأى رجلًا وسِخةً ثيابُه، فقال : «أما وجد هذا شيئًا يُنقِّي به ثيابَه؟»[13] .

وكان يعجبه أن يشرب في الإناء الشامي، حسبما ورد في رواية عن الإمام جعفر الصادق ، وهي قوارير من زجاج يؤتي بها من الشام، وكان يقول: «هُوَ أَنْظَفُ آنِيَتِكُمْ»[14] .

إنّ البيئة التي بعث فيها رسول الله ، كانت تعيش ظروف الحياة الصعبة القاسية، التي تنعدم فيها الاهتمامات الجمالية والحضارية. وقد اهتم بتعزيز ذائقة الجمال نفسيًا وسلوكيًا في توجيهه للأمة، وعبر ممارساته وسلوكه الشخصي لتقتدي الأمة به.

وبين يدي القارئ الكريم كتاب جميل، يسلط الضوء على بعض زوايا الاهتمام النبوي بالفن، والحسّ الجمالي، والذوق الرفيع.

وكنت قد تعرفت على المؤلف الكريم الصديق العزيز الأستاذ طاهر الجلاوي قبل حوالي أربعة عقود من الزمن، بصفته فنانًا مبدعًا، كان يسخّر قدراته الفنية في خدمة المبادئ والقيم، وقد سررت باجتهاده لتقديم رؤية عن إنتاج الفنّ الهادف، ضمن صفحات هذا الكتاب، أرجو لصديقنا العزيز المزيد من التوفيق في خدمة الدين والمجتمع، وأن ينفع الله بكتاباته كما نفع بجهوده وعطاءاته العملية.

والحمد لله ربّ العالمين.

حسن موسى الصفار

4 شعبان 1446هـ

3 فبراير 2025م

 

 

فراديس للنشر والتوزيع، المنامة - البحرين، ط1، 2025م.

[1]  الشيخ الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح1626.
[2]  الشيخ المجلسي: بحار الانوار، ج101، ص127.
[3]  ابن الأثير الجزري: أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج1، ص681.
[4]  أبو نعيم الأصبهاني: معرفة الصحابة، ج5، ص2393، ح5860.
[5]  الشيخ الصدوق: عيون أخبار الرضا، ج2، ص69.
[6]  صحيح البخاري، ح7546.
[7]  السيد البروجردي: جامع أحاديث الشيعة، ج16، ص617.
[8]  الشيخ الطبرسي: مكارم الأخلاق، ص33.
[9]  الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج1، ص129، ح327.
[10]  الكافي، ج6، ص515، ح3.
[11]  ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج4، ص346.
[12]  الطبراني: المعجم الكبير، ج12، ص154، ح4037.
[13]  حلية الاولياء، ج3، ص82.
[14]  الشيخ الكليني: الكافي، ج6، ص386، ح8.