الرّحمة وبناء شخصية الطفل
يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [سورة الروم، الآية: 54].
في حديث النصوص الدينية عن ثقافة الرّحمة، نجد اهتمامًا وتركيزًا على الرّحمة بالأطفال، فقد وردت نصوص دينية كثيرة تؤكد على الرّحمة بالصغار، ليس من قبل الوالدين فقط، بل تعدّها صفة أساسًا في شخصية الإنسان المسلم للتعامل مع كلّ الأطفال والصغار في المجتمع.
جاء في خطبة لرسول الله
حول واجبات المسلمين في شهر رمضان: «وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَاِرْحَمُوا صِغَارَكُمْ»[1] .
وعنه
: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا»[2] .
وعنه
: «أَحِبُّوا اَلصِّبْيَانَ وَاِرْحَمُوهُمْ»[3] .
وفيما أوصى به أمير المؤمنين علي
عند وفاته: «وَارْحَمْ مِنْ أَهْلِكَ اَلصَّغِيرَ وَ وَقِّرِ مِنْهُمُ اَلْكَبِيرَ»[4] .
وعنه
: «ولْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ، ولَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ»[5] .
حاجة الطفل إلى الرّحمة والرعاية
إنّ هذا التأكيد المكثّف على الرحمة بالأطفال، يأتي من منطلقين:
المنطلق الأول: حاجة الطفل الوجودية إلى رحمة الآخرين به، فأشدّ ما يكون الإنسان حاجة إلى مشاعر الرحمة من الآخرين، حين يكون في مرحلة الطفولة، حيث يبدأ حياته في هذا العالم وهو لا يعرف شيئًا عن طبيعته، ولا خبرة له بأوضاعه، ولا قدرة له على توفير أدنى احتياجاته، وحماية ذاته.
يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [سورة النحل، الآية: 78].
ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [سورة الروم، الآية: 54].
وتستمرّ هذه المرحلة لما يقارب عقدًا ونصف من عمر الإنسان، تنمو خلالها بالتدريج قدراته الجسمية وقواه النفسية ومداركه العقلية، ويتعرف شيئًا فشيئًا على العالم من حوله، ويكتسب الخبرة والتجربة المتنامية بمقدار تفاعله مع الحياة، وتفعيله للإمكانات المودعة في كيانه.
وهو في مرحلة الطفولة، خاصة في بداياتها، لا يمتلك القدرة على إدارة ذاته، ولا توفير متطلبات حياته، ولا يعرف كيف يتصرف تجاه أيّ مشكلة تواجهه، كما لا خبرة له في التعامل مع الآخرين من حوله.
إنه يعتمد بشكل كلّي في حياته على والديه، أو من يقوم مقامهما، بتربيته وتنشئته وإدارة شؤونه. إلى أن تتكامل شخصيته ويعتمد على ذاته ويستقلّ بإدارة حياته.
إنّ القيام بتنشئة الطفل وإعداده للحياة ليست مهمة سهلة، بل تكتنفها صعوبات بالغة تستلزم الكثير من الجهد والعناء، لكنّ مشاعر الرحمة التي أودعها الله تعالى في قلب الوالدين أو من ينوب عنهما، هي التي تحفّزهما للقيام بهذه المهمة الصعبة.
ويشير الإمام الحسين بن علي
فيما روي عنه من دعاء عرفة لهذا اللطف الإلهي قائلًا: «وَعَطَفتَ عَلَيَّ قُلوبَ الحَواضِنِ وَكَفَّلتَني الأُمَّهاتِ الرَّواحِمَ»[6] .
صناعة الشخصية القويمة
أما المنطلق الثاني: للتأكيد الديني على الرحمة بالأطفال، فهو دور الرحمة في بناء شخصية الطفل بناءً سليمًا يؤهله للاستقامة والنجاح ويصنع منه إنسانًا سويًّا في مشاعره وأحاسيسه، وفي تعامله مع الآخرين.
فالطفل الذي يعيش في أجواء الرحمة والشفقة والحنان، يكون أقرب إلى النضج النفسي والاستقامة السلوكية.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ أجواء الجفاف العاطفي وأساليب العنف والقسوة في التعامل مع الطفل، تزرع العقد والنواقص والنزعات السلبية في نفسه.
ويمكننا أن نرصد أهم تجلّيات عطاء مشاعر الرحمة تجاه الطفل في الأبعاد التالية:
أولًا: رعايته الجسمية، بتوفير الغذاء المناسب له في كلّ مرحلة من مراحل طفولته، والاعتناء بنظافته وصحته وحمايته من الأمراض والأخطار، وتهيئة أجواء الراحة له.
ثانيًا: رعاية مشاعره وأحاسيسه، فحاجته إلى الدفء والحنان والعطف لا تقلّ عن حاجته للغذاء والرعاية الجسمية، إنه كتلة من الأحاسيس المرهفة يشعر بالحاجة الدائمة إلى الحماية والأمان، فلا بُدّ وأن يغدق عليه العطف والحنان، ويحسّ دائمًا بالاهتمام والرعاية.
وذلك من أهم مظاهر الرحمة بالطفل، وقد عدّ رسول الله
الجفاف العاطفي مع الأبناء مظهرًا لانعدام الرحمة في قلب الإنسان.
ورد أنّ النَّبِيَّ
قبَّل سبطه الْحسنَ بنَ عَليٍّ
، وَعِنْدَهُ الأَقْرعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحدًا، فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ الله
فقَالَ: «مَن لا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ»[7] .
وفي رواية أخرى: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ
، فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ
: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»[8] .
وجاء عنه
: «مَن تَرَضَّى لَهُ صَغيرًا مِن نَسلِهِ حَتّى يَرضى، تَرَضَّاهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ حَتّى يَرضى»[9] .
وعنه
: «مَنْ قَبَّلَ وَلَدَهُ كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ فَرَّحَهُ، فَرَّحَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[10] .
وعن الإمام جعفر الصادق
: «إِنَّ اللهَ لَيَرْحَمُ الْعَبْدَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِوَلَدِهِ»[11] .
استيعاب الانفعالات والأخطاء
ثالثًا: استيعاب وتحمّل انفعالاته المختلفة، وتصرفاته غير المبررة، لأنّ ذلك من طبيعة مرحلة الطفولة، فلا يمكن التعامل معه ولا النظر إليه، مثل التعامل والنظر إلى الكبار الراشدين.
لذلك يعتبر الإسلام الطفل خارج نطاق التكليف حتى يبلغ، ليلفت نظر الوالدين والمجتمع إلى استيعاب تصرفاته ومخالفاته خلال مرحلة الطفولة، والتعامل معها بنهج التربية والتأديب المناسب.
كَانَ يُؤْتَى بِالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ لِلنَّبِيِّ
لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ، أَوْ يُسَمِّيَهُ، فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي حِجْرِهِ تَكْرِمَةً لِأَهْلِهِ، فَرُبَّمَا بَالَ الصَّبِيُّ عَلَيْهِ، فَيَصِيحُ بَعْضُ مَنْ رَآهُ حِينَ بَالَ، فَيَقُولُ
«لَا تُزْرِمُوا بِالصَّبِيِّ» فَيَدَعُهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَوْلَهُ، ثُمَّ يَفْرُغُ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ أَوْ تَسْمِيَتِهِ، وَيَبْلُغُ سُرُورُ أَهْلِهِ فِيهِ، وَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِبَوْلِ صَبِيِّهِمْ، فَإِذَا اِنْصَرَفُوا غَسَلَ ثَوْبَهُ بَعْدُ[12] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق
«صَلَّى رَسُولُ اَللهِ
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، فَخَفَّفَ الصَّلاَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ قَالَ لَهُ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ
: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا خَفَّفْتَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا سَمِعْتُمْ صُرَاخَ الصَّبِيِّ؟»[13] .
إنّ بعض الناس تضيق صدورهم من تصرفات أطفالهم وأطفال الآخرين، ويواجهونها بقسوة وعنف، وذلك سوء في التربية وضعف في مشاعر الرحمة.
وتجب الإشارة هنا إلى أنّ بعض الأطفال قد يعانون من مشكلة فرط الحركة وتشتت الانتباه، وهو أحد اضطرابات النمو العصبية، يحدث في مرحلة الطفولة ويستمر حتى مرحلة البلوغ ومرحلة الرشد، بأشكال وأعراض مختلفة.
فلا بُدّ وأن يتحمّل الوالدان التصرفات المزعجة من الطفل، لأنها في بعض الحالات أعراض لحالة بيولوجية تفرض نفسها على الطفل.
ويشير حديث مروي عن رسول الله
إلى أنّ بعض حالات المشاكسة عند الأطفال، هي مؤشر وإرهاص لنبوغ في مستقبل حياته.
روي عن رسول الله
: «عَرامَةُ[14] الصَّبيِ في صِغَرِهِ زِيادَةٌ في عَقلِهِ في كِبَرِهِ»[15] .
إنّ الرحمة منهج لتربية الإنسان الصالح والشخصية السويّة.
جاء في رسالة الحقوق المروية عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين
: «وَأَمّا حَقّ الصّغِيرِ فَرَحْمَتُهُ وَتَثْقِيفُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ وَالسّتْرُ عَلَيْهِ وَالرّفْقُ بِهِ وَالْمَعُونَةُ لَهُ وَالسّتْرُ عَلَى جَرَائِرِ حَدَاثَتِهِ، فَإِنّهُ سَبَبٌ لِلتّوْبَةِ وَالْمُدَارَاةُ لَهُ وَتَرْكُ مُمَاحَكَتِهِ فَإِنّ ذَلِكَ أَدْنَى لِرُشْدِهِ»[16] .
الحكمة في التعامل مع أخطاء الطفل
من أهم مؤشرات الرحمة في التعامل مع الطفل، استيعاب أخطائه وتحمّل المزعج من تصرفاته، والتزام نهج الحكمة في إرشاده وتأديبه.
ورد عن أمير المؤمنين علي
: «إذا عاتَبتَ الحَدَثَ فَاترُك لَهُ مَوضِعًا مِن ذَنبِهِ لِئَلّا يَحمِلَهُ الإِخراجُ عَلَى المُكابَرَةِ»[17] .
ولا يصح انتهاج التأديب بأسلوب الغضب والانتقام.
ورد عن أمير المؤمنين علي
: «لَا أَدَبَ مَعَ غَضَبٍ»[18] .
وروى يونس بن رباط عن الإمام جعفر الصادق
قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ
: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يُعِينُهُ عَلَى بِرِّهِ؟ قَالَ: يَقْبَلُ مَيْسُورَهُ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مَعْسُورِهِ، وَلَا يُرْهِقُهُ، وَلَا يَخْرَقُ بِهِ»[19] .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى
اِبْناً لِي، فَقَالَ
: «لاَ تَضْرِبْهُ وَاُهْجُرْهُ وَلَا تُطِلْ»[20] .
دية ضرب الطفل
يجرّم الإسلام ضرب الأولاد الذي يترك أثرًا في أجسامهم ويوجب على الأب الدّية، فإذا سبب لطم وجه الولد أو البنت احمرارًا فالدية دينار ونصف من الذهب (681.24 دولار تقريبًا)، وإذا سبب ازرقاقًا فالدية ثلاثة دنانير (1362.48 دولار تقريبًا)، وإذا سبب اسودادًا فالدية ستة دنانير (2725 دولار تقريبًا)، أما إذا كان الضرب على سائر البدن، وسبب احمرارًا أو ازرقاقًا أو اسودادًا، فديته نصف ما ذكر، والدينار ثلاثة غرامات ونصف الغرام تقريبًا من الذهب[21] .
اليوم العالمي للطفل
وقد احتفل العالم يوم أمس الخميس 20 نوفمبر باليوم العالمي للطفل الذي اعتمدته الأمم المتحدة ليكون مناسبة عالمية لتسليط الضوء على حقوق الأطفال، والدعوة إلى حمايتهم وتحسين أوضاعهم في جميع أنحاء العالم، وقد تم التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل في 20 نوفمبر 1989م وهي تعترف بالطفل كشخصية له حقوق وكرامة.
لكنّ المؤسف أن تبقى هذه الاتفاقية حبرًا على ورق في مجالات عديدة، حيث تزهق حياة آلاف الأطفال في الحروب، كما حصل في غزة ولبنان والسودان، ويموت آلاف الأطفال في العالم بسبب الجوع وسوء التغذية، ويعاني الملايين منهم من العنف حتى داخل الأسرة، ويُحرم الملايين من الأطفال من فرص التعليم.
يهمّنا ونحن نشارك العالم الاحتفاء باليوم العالمي للطفل، أن نذكّر بما أكّد عليه الدين من التعامل برحمة مع الأطفال في إطار الأسرة وخلال مسيرة التعليم وفي الفضاء الاجتماعي العام.






