الهُوية الدينية بين العنوان والالتزام
يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة فصلت، الآية: 33].
يربّي القرآن الكريم الإنسان المسلم على التمسّك والاعتزاز بهويته الدينية؛ لأنها تمثل الدين الإلهي والعقيدة الصحيحة.
فقد يواجه المسلم أجواءً ضاغطة تريد صرفه عن دينه، أو محاولات إغراء لإضعاف انتمائه الديني، فيحتاج إلى ما يُلهمه الثبات والثقة بإيمانه.
وهذا ما توحي به آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تمسّك الأنبياء والمخلصين من أتباعهم واعتزازهم بهويتهم الدينية.
يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 64].
ويقول تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 52].
ويقول تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 126].
إنّ هذه الآيات وأمثالها تستعرض مواقف لإعلان الهوية الدينية على رؤوس الأشهاد ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، لتكون نموذجًا ملهمًا في الاعتزاز بالهوية الدينية، خاصة أمام التحدّيات.
الوعي عنصر القوة والثبات
إنّ انطلاق الانتماء الديني من الوعي والمعرفة، هو ما يقوّي تمسّك الإنسان بهويته وعقيدته، بينما يكون الانتماء الموروث عائليًّا واجتماعيًّا، دون وعي ومعرفة، عرضة للضعف والاهتزاز أمام الضغوط والاغراءات.
لذلك نجد الثّبات في موقف السحرة الذين آمنوا بنبي الله موسى
، وتحدّوا تهديدات فرعون، بسبب وضوح الرؤية الإيمانية لهم:
يقول تعالى: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [سورة طه، الآية: 72].
فما جاءهم واتضح لهم ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ على صدق رسالة النبي موسى
، هو ما جعل موقفهم صلبًا ثابتًا أمام تهديدات فرعون، وضغوطه الهائلة.
ونجد مثل ذلك في قول خُبَيْبٌ الأنْصَارِيُّ عندما أراد كفار قريش قتله:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا علَى أيِّ شِقٍّ كانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي[1]
وقول عمّار بن ياسر في حرب صفّين: (وَاَللهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يَبْلُغُوا بِنَا اَلسَّعَفَاتِ مِنْ هَجَرَ لَعَلِمْنَا أَنَّا عَلَى اَلْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى اَلْبَاطِلِ)[2] .
فحتى لو استطاع جيش معاوية أن يهزمنا، وأن يلاحقنا إلى نخل الأحساء، مع بعدها الجغرافي عن مكان المعركة في صفّين، فإنّ ذلك لن يزعزع ثقتنا بأحقية المعركة التي نخوضها.
وفي المقابل نجد هناك من يظهر الاعتزاز بالهوية الدينية لأغراض مصلحية، حين يكون للدين نفوذ في الوسط الاجتماعي، فيتاجر بالهوية الدينية ليكسب نفوذًا وشعبية، كما في أوقات الانتخابات والتجاذبات الدينية والطائفية.
التأسيس على الوعي والمعرفة
وإذا كان الدين يربّينا على الاعتزاز بالهُوية الدينية، فإنه في ذات الوقت يؤكد على ألّا تبقى هذه الهوية مجرّد عنوان وشعار يرفعه الإنسان في مقابل المختلفين عنه دينيًّا أو مذهبيًّا. بل لا بُدّ من توفر الشرائط التالية:
أولًا: يؤكد الدين على أن تتأسس الهُوية الدينية على أساس الوعي والمعرفة.
إنّ آيات القرآن الكريم، مليئة بالتأكيد على العلم والمعرفة والتفكر والتدبر والنظر والتبصّر والتفقه، في الدين، وعبر كتاب الطبيعة المفتوح. ليتأسس إيمان الإنسان المسلم على الوعي والمعرفة.
وهناك نصوص دينية كثيرة تؤكد على التفقه في الدين، والفقه هو الفهم.
يقول تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة، الآية: 122].
لا بُدّ من توفير مقومات ومنابع الوعي والمعرفة في المجتمع الإسلامي، ومن أبرزها وجود فئة مؤهلة علميًّا لنشر الوعي والمعرفة الدينية.
ورد عن رسول الله
: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ دُعَامَةً، وَدُعَامَةُ هَذَا الدِّينُ الْفِقْهُ»[3] .
فالفهم للدين هو ما يدعم وجود الدين، وتمسّك الفرد والمجتمع بنهجه.
وعنه
: «ما عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ أفضَلَ مِن فِقهٍ فِي الدّينِ»[4] .
وجاء عن أمير المؤمنين علي
: «أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ»[5] .
الالتزام بقيم الدين
ثانيًا: أن يقترن الاعتزاز بالهُوية بالالتزام بالقيم والمبادئ التي دعا إليها الدين، وأن تنعكس على العمل والسلوك في حياة الفرد والمجتمع.
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، تشترط تحقق الإيمان بوجود التزام بالقيم والمبادئ، وليس بمجرّد إعلان الهُوية كعنوان وشعار.
يقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [سورة المائدة، الآية: 23].
ويقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [سورة المائدة، الآية: 57].
ويقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأنفال، الآية: 1].
وروى الإمام جعفر الصادق
عن جدّه رسول الله
أنه قال: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ»[6] .
وفي رواية أخرى عنه
«قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»[7] .
تعزيز الهُوية بتقديم النموذج الأفضل
ثالثًا: أن يكون الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي نموذجًا جاذبًا للآخرين في إدارة الحياة وأخلاق التعامل.
يريد الدين أن تكون حياة المتدينين حياة نموذجية، لتعزيز الهُوية الدينية في نفوسهم، وليكونوا مثار إعجاب الآخرين وجذبهم إلى رحاب الدين، وذلك إذا كانوا يعيشون بأعلى درجة من جودة الحياة، يتمتعون فيها بالطمأنينة، والاستقرار النفسي.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد، الآية: 28].
ويقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [سورة النحل، الآية: 97].
ويجب أن تكون حياتهم أرقى من حياة الآخرين.
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 139].
وأورد الشيخ الطوسي في الأمالي نصًّا عن أمير المؤمنين علي
، يقول فيه: «وَاِعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ حَازُوا عَاجِلَ الْخَيْرِ وَ آجِلَهُ، شَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ، أَبَاحَهُمُ اللهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَفَاهُمْ بِهِ وَ أَغْنَاهُمْ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، شَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ فَأَكَلُوا مَعَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا يَأْكُلُونَ، وَشَرِبُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا يَشْرَبُونَ، وَلَبِسُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَلْبَسُونَ، وَسَكَنُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَسْكُنُونَ، وَ َزَوَّجُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَتَزَوَّجُونَ، وَرَكِبُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَرْكَبُونَ، أَصَابُوا لَذَّةَ الدُّنْيَا مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُمْ غَدًا جِيرَانُ اَللهِ تَعَالَى، يَتَمَنَّوْنَ عَلَيْهِ فَيُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ، لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ، وَ لاَ يُنْقَصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اللَّذَّةِ، فَإِلَى هَذَا يَا عِبَادَ اللهِ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ وَ يَعْمَلُ لَهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ»[8] .
وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة فصلت، الآية: 33].
وجاء عن الإمام جعفر الصادق
: «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ وَالِاجْتِهَادَ وَالصَّلَاةَ وَالْخَيْرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ»[9] .
وعنه
: «كُونُوا دُعَاةَ اَلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ»[10] .
وكما قيل: لا تحدّثني عن الدين كثيرًا، ولكن دعني أرى الدين في سلوكك وأخلاقك وتعاملك.
معالم تعزيز الهُوية الدينية
نعيش الآن عصر انبعاث الهُويات الدينية في مختلف شعوب العالم، وقد أصبح لهويتنا الإسلامية حضورها الكبير في ساحة الأمة وعلى المستوى العالمي، وحقّ لنا أن نفخر ونعتزّ بديننا الذي يمثل آخر وأكمل الرسالات الإلهية لبني البشر، والأكثر أخلاقية وانسجامًا مع فطرة الإنسان، وتوافقًا مع العقل ومعطيات العلم.
وعلينا أن ننمّي مشاعر الاعتزاز بهويتنا الدينية في نفوس أبنائنا وبناتنا، ليكونوا أكثر ثباتًا وثقة بدينهم في مواجهة التيارات التي تسعى لبثّ روح الانهزامية والتشكيك.
إنّ الاعتزاز بالهُوية الدينية لا يعني التعصب والانغلاق، ولا التطرف والتشدد، فذلك ما أضرّ مجتمعاتنا وشوّه سمعة ديننا.
لذلك لا بُدّ من الاهتمام بتطوير الوعي الديني، ليكون في مستوى الاستجابة للتحديات الفكرية والاجتماعية المعاصرة وممارسة الاجتهاد في فهم الدين، واستنباط أحكامه واجب على الأمة في كلّ عصر، ولا تنحصر في عصر الأسلاف.
إنّ الهوية الدينية ليست مجرّد عنوان وشعار، بل هي التزام بقيم ومبادئ توجه وتنظّم سلوك الإنسان وحياة المجتمع، وترتقي به أخلاقيًّا وحضاريًّا، ليكون إنسانًا ومجتمعًا رياديًّا نموذجيًّا يجتذب الآخرين إلى طريق الإيمان والخير والسعادة.
يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 110].






