العلماء والاختلافات في الأمم السابقة
لأهمية موضوع وحدة الامة, فان القرآن الكريم , يتناوله في العشرات من الآيات والسور ويعالجه من زوايا متعددة وجوانب مختلفة.
فبعض الآيات الكريمة تؤكد على اهمية الوحدة وضرورتها في حياة الامة, كقوله تعالى : ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾.
وآيات اخر في القرآن الكريم تبين اضرار واخطار الفرقة والخلاف وتحذر منها يقول تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾.
بينما تشير مجموعة من الآيات القرآنية الى الجهات الداخلية والخارجية, التي تعمل على تمزيق المجتمع وتغذي حالة النزاع والتمزق في الامة منها قوله تعالى: ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء﴾ وقوله تعالى:﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنه﴾ والمقصود في الآية الكريمة المنافقون.
ومن المسارات التي سلكها القرآن الكريم في تناول موضوع الوحدة التوجيه الى قراءة احوال الامم السابقة في هذا المجال, وأخذ العبر والدروس من التحولات السلبية التي حصلت لها, وعصفت بوحدتها وتماسكها وجعلتها عرضة للتفرق والتمزق.
فمن أي وسط بدأ الخلاف في الامم السابقة؟ ومن اي شريحة اجتماعية انطلق وانتشر؟ الملفت للنظر ما يؤكد عليه القرآن الكريم في هذا السياق, من أن سبب الاختلاف في تلك الأمم ليس الجهل بالحقائق ومنطلق الخلاف ليس من الأوساط الجاهلة بالدين والبعيدة عنه, وانما جاء الاختلاف من واقع العلم والمعرفة وانبثق من الأوساط العالمة بالدين والتي تحتضن الدعوة والكتب السماوية المقدسة وهذا ما يظهر من آيات قرآنية كثيرة.
وقد استوقفت هذه الملاحظة العديد من العلماء المفسرين للقرآن عند تناولهم بعض هذه الآيات الكريمة.
جاء في تفسير الآية﴿فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ (17 الجاثية).
يشير الى ان ما ظهر بينهم من الاختلاف في الدين واختلاط الباطل بالحق , لم يكن عن شبهة أو جهل, وانما اوجدها علماؤهم بغيا وكان البغي دائرا بينهم﴾.
ويقول عند تفسيره للآية﴿ وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم﴾ (213 البقرة) : «انه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين, وانما اوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا».
ويؤكد نفس الحقيقة الدكتور وهبة الزحيلي فيقول:
«ثم ذكر الله تعالى ان بعض اهل الكتاب, جعلوا كتابهم مصدر الاختلاف عدوانا وتجاوزا للحق, فقال: لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحق, بعدما جاءتهم البينات الواضحة, والأدلة على سلامة الكتاب, وعصمته من اثارة الخلاف, وانه لاسعاد الناس, لا لاشقائهم والتفريق بينهم, ولم يكن ذلك الاختلاف من اولي العلم القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل, والمطالبين بتقرير ما فيه الا حسدا وبغيا ـ جورا منهم ـ وتعديا لحدود الشريعة التي اقامها حواجز للناس».
وحول تفسير الآية ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد جاءتهم البينات﴾ (105 ال عمران) يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
«ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين , الذي جاءهم الدين والبينات الموجب لقيامهم به, واجتماعهم , فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعا, ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال وانما صدر عن علم وقصد سيىء وبغي من بعضهم على بعض».
ولعل القرآن الكريم من خلال اثارته وطرحه المكرر, للدور السلبي الذي لعبه علماء الدين في الامم السابقة الذين اتخذوا الدين مطية للوصول الى مواقع الزعامة والنفوذ, وسلاحا في معاركهم الداخلية المصلحية مع بعضهم البعض, فمزقوا وحدة أممهم وحولوها الى احزاب متناحرة وشيع متصارعة باسم الدين.
لعل القرآن يريد بذلك تنبيه الامة وتحذيرها, لتنظر الى علمائها بعقول واعية, وتتعامل معهم بعيون مفتوحة, لا بثقة عمياء وتقديس مطلق.
ان علماء الدين هم الجهة الاكثر تأهيلا وقدرة على شق طريق الوحدة امام الامة وذلك للأسباب التالية:
أولا: لما يفترض فيهم من أنهم الأكثر تمسكا بتعاليم الاسلام, والأحرص على تطبيق مبادئه ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ والوحدة كمبدأ ونظام ينبثق من عمق الدين عقيدة وتشريعا, لابد وأن يحتضنها العلماء, ويهتموا بتنفيذ أوامر الله حولها.
ثانيا: العلماء مدعوون ومطالبون من قبل الله تعالى, قبل أي جهة أخرى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واي معروف أكبر من الوحدة واي منكر اخطر من التجزئة والتفرقة.
ثالثا: للعلماء رصيد كبير من الثقة في نفوس الناس مما يجعل دعوتهم اكثر قبولا ويمكنهم من التغلب على حالات اليأس والتشكيك والالتباس وان يتعاطى الجمهور مع دعوتهم بثقة وجدية.