مداخلات عبر قناة المستقلة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
إن الحوار بين المسلمين، وخاصة في هذه الظروف الخطيرة الحساسة، ينبغي أن يكون خطوة في طريق تجاوز الأمة لمشكلات التخلف التي تعيشها.
هذا التخلف الذي يتركز في جانبين:
الجانب الأول: التخلف العلمي، حيث لا دور يذكر للأمة الإسلامية العريضة، في مجال الإنجازات العلمية البشرية. فنصيب الدول الإسلامية بملايينها الألف، لا يتجاوز 1% من البحث العلمي المنشور، في جميع فروع العلم والمعرفة، كما جاء في إحصائيات اليونسكو عام 1993م.
والجانب الثاني: التخلف في مجال العلاقات، حيث يعاني الوضع الداخلي للأمة من اضطراب في الجانب السياسي، والجانب الديني، فالعلاقات بين الحكومات العربية والإسلامية ليست على ما يرام، كما هو معروف، وكذلك بين كثير من الحكومات وشعوبها، وبين الحركات والقوى السياسية بعضها مع بعض، في العالم العربي والإسلامي.
وفي الجانب الديني هذا التشنج المذهبي الطائفي، الذي رأينا بعض مظاهره، عبر حلقات الحوار السابقة خلال شهر رمضان على قناة المستقلة، وداخل كل طائفة ومذهب هناك أيضاً اختلافات وتنوعات بينها تناقضات وتشنجات، كما رأينا كيف اتصل شخص ينال من الشيخ الخالصي، والمدرسة التي يمثلها ضمن الشيعة، وكذلك رد الشيخ الخالصي عليه. وهكذا في أوساط السنة، توجد مثل هذه التشنجات.
إن هذا التشنج السياسي والديني، يعكس عجزاً وتخلفاً في الوعي الحياتي، وفي القدرة على التعايش مع الاختلاف والتنوع.
فلا بد من الحوار الصريح والمفتوح، لتجاوز هذا التخلف، وهذا المأزق المعاش.
إن ثقافتنا الإسلامية متهمة الآن في العالم، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، بأنها تعصبية، تدعم الإرهاب والتطرف. ويناضل المخلصون في الأمة لإبراز سماحة الإسلام وتعاليمه، في احترام الإنسان، والتعايش بين أبناء البشر.
ولكن واقع التشنج، والصراع الداخلي بين الجهات والقوى والمذاهب، يلغي كل هذه الجهود المخلصة، إذ كيف نقنع الآخرين من غير المسلمين، باستعدادنا للتعايش معهم، واحترام حقوقهم، مع عجزنا عن التعايش فيما بيننا؟! كيف نقنع الآخرين بأننا مستعدون لقبول الرأي الآخر، وللتعايش مع الأديان الأخرى والبشرية جمعاء؟!
إنني أؤيد وبقوة ما طرحه الدكتور خليل بن عبد الله الخليل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا الطرح طرح واع وواقعي.
وأرى أن الحوار يجب أن يكون من أجل التعارف الصحيح، بأن تعرف كل طائفة ما عليه الأخرى.. من خلال مصادرها، ومن خلال الرأي المقبول لديها.
رأينا في الحلقات السابقة، عبر قناة المستقلة، في شهر رمضان، كيف أن هذا الطرف الشيعي، أو هذا الطرف السني، يذكر بعض الروايات من تراث الطائفة الأخرى، حتى يدين بها هذه الطائفة، مع أنها روايات ومرويات شاذة وغير مقبولة، عند أكثر علمائها، ولكن من أجل إثبات التشنج، وإثبات حالة الصراع، يؤتى بمثل هذه المرويات، وبمثل هذا الكلام، الذي يجب أن تتجاوزه الأمة، وان نتجاوزه كمتحاورين، وكما أوافق الدكتور خليل على أن الحوار هو للبحث عن القواسم المشتركة، ما بين المسلمين سنة وشيعة من القواسم المشتركة هو الأكثر. إن الاختلاف لا يطال إلا نسبة بسيطة في بعض الفروع والجوانب، أما الأشياء الأساسية فكلهم مسلمون متفقون عليها، فيجب أن نثبت هذه القواسم المشتركة، التي نتفق عليها، وليس من أهداف الحوار التبشير المذهبي، ماذا يفيدني أن أكسب عدة أشخاص من أبناء السنة، حتى يصبحوا شيعة؟ أو أن يكسب السني عدة أشخاص من أبناء الشيعة حتى يكونوا سنة؟ ونحن نشاهد كيف أن أبناؤنا ـ سنة وشيعة ـ يعيشون حالة من الانبهار بالفكر الغربي، وبالحضارة الغربية، المسألة ليست أن يصبح أبناؤنا سنة أو شيعة، المشكلة نحن مهددون أن نصبح ويصبح أبناؤنا عبيداً تحت هيمنة الغرب، وتحت هيمنة الآخرين. وأؤكد هنا على نقطتين:
النقطة الأولى: رفض اتهام الناس في أديانهم يقول تعالى: ﴿ولاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾[2] ، لا يصح لنا أن نتهم الآخرين في أديانهم فللإسلام مذاهب وقراءات متعددة ومتنوعة ليست طارئة، فالمدرسة الشيعية والمدرسة السنية ليست وليدة هذا اليوم ولا وليدة هذا العصر، و إنما هما مدرستان كانتا منذ العهد الإسلامي الأول. فلماذا تشكك هذه المدرسة أو يشكك أتباع هذه المدرسة في دين أتباع المدرسة الأخرى؟؟
فيجب أن نقر في البداية أن هناك تعددية في المذاهب، وتنوعاً في القراءات، ولكنها جميعاً ضمن إطار الإسلام الواحد.
النقطة الثانية: لا ينبغي أن تمس هذه الاختلافات المذهبية حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، حينما يعيش مواطنون سنة في بلاد شيعية كما هو الحال في إيران، لا ينبغي أن تمس حقوقهم كمواطنين لأنهم سنة، وحينما يعيش جماعة من الشيعة في بلاد سنية ـ يعني أكثريتها من السنة أو المذهب الرسمي سني ـ لا ينبغي أن تمس حقوقهم لأنهم شيعة، ينبغي أن تحفظ حقوق المواطنة، وأن يعيش المواطنون متساوين في واجباتهم وحقوقهم، وكذلك لا ينبغي أن تمس حقوق الإنسان، الحالة الدينية حالة قلبية لا يمكن أن يكره عليها الإنسان، الله تعالى يقول ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[3] ، ينبغي أن نؤكد على هذه الأمور.
وإنني أرجو أن يستمر الحوار بعقلية هادئة ومنفتحة، وأن يتمثل الأخطار الكبيرة التي تواجهها الأمة الإسلامية.
تمنيت وكثيرون من الغيورين على وحدة الأمة أن تكون هذه الجولة الجديدة من الحوار أفضل موضوعية، وأصح منهجية، من الجولة السابقة في شهر رمضان المبارك، حتى تخدم مصلحة الأمة وتكون أقرب إلى رضا الرب سبحانه، الذي ينادينا وحيه صبح مساء: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[5] ، ويقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾[6] ، ويقول تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[7]
خاصة ونحن الآن على أعتاب موسم الحج العظيم، والذي هو تأكيد ومظهر لوحدة هذه الأمة على اختلاف أعراقها وقومياتها ومذاهبها.
ولكن المؤسف هو وقوع هذه الجولة في سلبيات الجولة السابقة، حيث أخذت منحى إثارة الاضغان والحساسيات، ونشر الغسيل المسيء لما ورد في تراث السنة والشيعة، من روايات ومواقف متطرفة حادة، بفعل العوامل السياسية، والاتجاهات التعصبية عند الطرفين.
إنني أرجو من القائمين على الحوار السعي الجاد لضبط مسار الحوار، وأقترح اعتماد أفكار الدكتور خليل بن عبد الله الخليل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود، أو نحواً منها لتكون إطاراً منهجياً للحوار، وأن لا يفسح المجال لطرح الإثارات الطائفية البغيضة، من طرف سني، أو شيعي، كتكفير أحد من أهل القبلة، سنة أو شيعة، وكالتشكيك في سلامة النص القرآني، أو الطعن في إسلام الصحابة الأجلاء، أو النيل من عرض رسول الله ، هذا الكلام القبيح المقزز، الذي يجب أن يبرأ منه كل مسلم. فلماذا يثار ضمن برنامج فضائي يشاهده الملايين في العالم؟!
إن أهم إشكالات بعض الحوارات والمداخلات الدائرة، هو انطلاقها من حالة التعالي وادعاء هذا الطرف أو ذاك أنه الأصل، وأن الآخر طارئ دخيل، وأنه هو الجهة التي تقرر إسلام هذا وكفر ذاك، فالسنة والشيعة مسلمون والحمد لله، لا تحتاج جهة منهم لأخذ شهادة حسن سيرة وسلوك، أو صك براءة وغفران، من الجهة الأخرى. ينبغي أن نتجاوز هذا المنطق الوصائي المتعالي.
ثم لماذا تأخذ الحوارات منحى المحاكمة وكأن كل طرف يحاكم الآخر ويبحث عن أدلة لإدانته؟! إنه حتى في المحاكمات تدرأ الحدود بالشبهات، فلماذا الإصرار على التنقيب والبحث في ركام التراث القديم، لاستخراج شبهة يدين بها الشيعةُ السنة، أو السنةً الشيعة؟ وأذكر هنا مثالاً واحداً حول ما ذكر البارحة: من أن السيد الخوئي يرى كفر غير الشيعة، إنه افتراء واضح فالكلام الذي نقل عنه مبتور: إنه ناقش هذه المسألة في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الطهارة، الجزء الثاني صفحة 83 إلى صفحة 87 وذكر القول بكفر المخالفين للشيعة، ثم رد عليه بالأدلة والبراهين، وانتهى إلى النتيجة التالية: قال ما نصه: «إن المناط في الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النكاح إنما هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسوله، وهي التي عليها أكثر الناس، وعليه فلا يعتبر في الإسلام غير الشهادتين، فلا مناص معه عن الحكم بإسلام أهل الخلاف» ثم يرد على من يقول بكفر غير الشيعة لأنهم ينكرون ولاية أهل البيت بقوله ما نصه: «الضروري من الولاية إنما هي الولاية بمعنى الحب والولاء، وهم ـ أي السنة ـ غير منكرين لها بهذا المعنى، بل قد يظهرون حبهم لأهل البيت، وأما الولاية بمعنى الخلافة، فهي ليست بضرورية بوجه، وإنما هي مسألة نظرية، وقد فسروها بمعنى الحب والولاء، ولو تقليداً لآبائهم وعلمائهم.. نعم الولاية بمعنى الخلافة من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين».
فلماذا يبتر كلامه ويتشبث به لإثارة مسألة التكفير بين المسلمين؟!
ينبغي أن نكف عن هذا الأسلوب.. وأن يبحث كل طرف عن الأمور والجوانب التي يراها سليمة عند الطرف الآخر، لتشجيعها وتنميتها، على حساب الجوانب السيئة، التي يجب التعاون لتجاوزها والتخلص منها.
أيها الإخوة الأعزاء أوصيكم ونفسي بتقوى الله في وحدة هذه الأمة، وفي الحفاظ على ما تبقى من كرامتها. وهي الآن تواجه أخطر تحد في تاريخها مع افتعال صراع الحضارات.
وإذا لم يكن ضبط مسار الحوار ممكناً، فأتمنى إيقافه قربة إلى الله تعالى وخدمة لمصلحة الأمة.
هذه الحوارات والسجالات تضع المسلمين دائماً أمام التحدي الكبير في هذا العصر، وهو قدرتهم على تجاوز الجوانب السلبية في تراثهم.
فللأمة تراث ضخم، تتضمنه كتب الحديث والفقه والتاريخ والأدب، وفيه الكثير من كنوز الخير، ومنابع القوة، ويمكن للمسلمين إذا ما أخذوا بهذا العطاء الإيجابي من تراثهم، أن يحققوا الإنجازات الطيبة لأنفسهم وللبشرية جمعاء.
كما أن في هذا التراث بما يعكس من أداء بشري، فيما عدا النص الشرعي الثابت، من فهم النص وتفسيره، ومن أحداث التاريخ ووقائعه، أقول في هذا التراث جوانب سلبية عديدة.
وخاصة في ما يرتبط بالموقف من الآخر المختلف دينياً أو مذهبياً أو سياسياً.
فقد تراكمت عند المسلمين سنة وشيعة، أراء عقدية وفقهية وتاريخية، تجاه بعضهم البعض، ناتجة إما من نصوص غير معلومة الصحة والثبوت، أو من فهم غير سليم ودقيق للنص، أو من وحي النزاعات والصراعات عبر أدوار التاريخ، والتي تلقي بظلالها على أفكار وثقافة المتنازعين.
والآن هل يريد السنة أن يحاسبوا الشيعة على كل ما في تراثهم من مواقف سلبية تجاه السنة؟ وهل يريد الشيعة أن يحاسبوا السنة على جميع ما في تراثهم من طروحات وممارسات تجاه الشيعة؟
إذن والله يطول الحساب بين الطرفين، وستحتاج القضية إلى سنوات طويلة. إنني أقترح أن يجعل الحوار ضمن إطار المستقبل، وما ينبغي أن يكون، وليس حول الماضي وما كتبه ذلك العالم، أو أفتى به ذلك الفقيه، أو تحدثت عنه تلك الروايات.
فكيف يجب أن تكون نظرة السنة إلى الشيعة، ونظرة الشيعة إلى السنة الآن؟ وليس ما أنتجته الفترة السابقة، من أحاديث تضمنتها كتب السنة والشيعة، وفتاوى لعلمائهم الماضين.
وما هو المشترك الذي يجمع الطرفين، الآن من خلال رؤية واجتهاد معاصر، وليس على أساس التبعية والتقليد للسلف؟
وهل هناك مصلحة دينية ودنيوية واحدة يتلاقى الطرفان من أجل خدمتها أم لا؟
أحبتي وإخوتي في الله من السنة والشيعة: إن السنة والشيعة اليوم ليسوا مخيرين بين حكم أبي بكر وعمر، أو حكم علي والحسين، ولكنهم أمام حكم أمريكا وهيمنتها، وهذه أساطيلها تزحف إلى المنطقة، وتريد فرض أوامرها وقراراتها، في أنظمة الحكم في بلادنا، وفي مناهج التعليم، وفي نشاط الجمعيات الخيرية، وفي قضايا المرأة، وما أشبه...
لقد قال أحد علماء الإسلام المصلحين قبل أكثر من نصف قرن: ما زلنا نتنازع هل أبو بكر خليفة أو علي خليفة، حتى أصبح المفوض السامي البريطاني هو الخليفة!. وما زلنا نتناقش في الوضوء عن غسل القدم أو مسح القدم، حتى لم يبق لنا في الشرق موطئ قدم!
من ناحية أخرى فإن الجوانب السلبية الموجودة في تراثنا جميعاً، تشكل خطراً على مستقبل أبنائنا وناشئتنا دينياً، حيث لم تعد عقولهم المنفتحة على تطورات العلم والعصر تقبل الآراء المتزمتة، والأفكار المتشددة، والمرويات السيئة.
إن تشويه صورة الإسلام، وصورة نبي الإسلام، وصورة أهل البيت والصحابة، إنما تستغل بعض ما في تراث المسلمين، فالبابية والبهائية استغلت بعض ما في تراث الشيعة، والكتابات التشكيكية الحديثة التي أصدرها أشخاص ينتمون عائلياً إلى أهل السنة، إنما يستغلون بعض ما في تراث السنة. فكتاب معروف الرصافي التشكيكي في النبوة والنبي، بعنوان «الشخصية المحمدية» وكتاب فاطمة المرنيسي المسيء عن زوجات الرسول بعنوان «الحريم السياسي ـ النبي والنساء» وكتاب «شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة» لخليل عبد الكريم الذي يشوه صورة الصحابة في ثلاثة أجزاء. هذه الكتب كل مصادرها من كتب أهل السنة، كما أن كتب البهائية والبابية مصادرها من كتب الشيعة.
وهذا يعني أن على السنة والشيعة أن ينقحوا ويغربلوا تراثهم الإسلامي، وأن يجددوا عرضه بصورة مناسبة، ويقدموا له التفسير الموائم للعصر.
لا أن ينشغلوا ببعضهم. ويبقوا أسارى لما ورد في تراثهم من جوانب سلبية.
وهذا ما نرجو أن تسهم في إنجازه هذه الحوارات، وليس اجترار السلبيات لتكريسها، والتخندق من خلالها، وإشهارها أسلحة في الصراع المذهبي.
وأخيراً أهدي هذه الرواية من كتاب بحار الأنوار للشيخ المجلسي، كنموذج للإيجابية في تراثنا، والتي ينبغي أن لا تحجبنا عنها بعض الروايات ذات المنحى السلبي المتشدد.
عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن علي قال: «إنَّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدِّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصّالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرَّة من بغضنا أهل البيت»[9] .