أمريكا وصدام الحضارات
يبدو أن العقلية السياسية في أمريكا مبرمجة على أساس التصدي والمواجهة لعدو ما على مستوى العالم، لتكون هذه المواجهة شعاراً وإطاراً للتعبئة والحشد داخلياً ودولياً، كما توفر مبرراً وغطاءً لممارسة الهيمنة وفرض الزعامة والنفوذ العسكري والسياسي على العالم.
فبعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء خطر النازية، ظهرت كتابات داخل أمريكا من دوائر التخطيط السياسي، تهيء الرأي العام لمواجهة عدو جديد بعد النازية، وهو الشيوعية، وكان « [e]جورج كينان[/e]» الدبلوماسي والأستاذ الجامعي الأمريكي، هو الذي وضع نظرية احتواء الشيوعية، وتنبأ بأن القضاء على النازية ليس هو نهاية المشاكل العالمية، وأن الشيوعية ستصبح الخطر الجديد، وأنها ستهدد الغرب، ولا بد من احتوائها بتأسيس أحلاف عسكرية تحيط بالاتحاد السوفيتي، ووضع خطط لمنع انتشار الشيوعية في الدول الغربية ودول العالم الثالث.وكانت المواجهة مع المعسكر الشرقي، ومحاربة النفوذ الشيوعي، هي مبرر سباق التسلح الذي خاضته أمريكا مع الاتحاد السوفييتي، وهي محور الزعامة الأمريكية للغرب أو ما أطلق عليه العالم الحر، وكانت إطاراً وعنواناً لفلك الهيمنة والسيطرة الأمريكية على العالم عسكرياً وسياسياً واقتصاديا.
وبعد سقوط الشيوعية، كان لابد من البحث عن عدو جديد لأمريكا والغرب، وهنا جاء طرح« [e]صامويل هنتنغتون[/e]» الأستاذ بجامعة هارفارد، والقريب من دوائر مراكز القرار السياسي في أمريكا، حول « [e]صدام الحضارات[/e]» والذي نشره عام 1993م في دورية « [e]فورين[/e]» وهي مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، ثم وسعه وعمقه ونشره على هيئة كتاب سنة 1997م بعنوان « [e]صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي[/e]».
ويؤكد هذا الطرح على أن القضاء على الشيوعية ليس نهاية المشاكل العالمية، وأن حضارات العالم الثالث وفي مقدمتها الإسلام ستشكل الخطر الجديد على الحضارة الغربية.
هذه النظرية وأمثالها تلعب دور التحضير والتهيئة للمعركة التي تريد أمريكا قيادة الغرب والعالم نحوها ضد الإسلام والأمة الإسلامية. ويعترف «[e]هنتنغتون[/e]» نفسه بأن من طبيعة الغرب افتعال معارك الصراع والصدام مع الحضارات والأمم الأخرى، فيقول: «ابتداءً من سنة 1500م بدأ التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى، وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية، وفي بعض الحالات دمر الغرب تلك الحضارات»
لقد وقع اختيارهم على الإسلام كعدو جديد يعبئون قواهم وطاقاتهم ضده، ويهيمنون على العالم باسم مواجهته، تحت شعار مكافحة الإرهاب، ذلك لأن الإسلام يحمل قيماً حضارية تنافس الطروحات الغربية، ولأن هناك انبعاثاً في أوساط المسلمين، وإقبالاً على الإسلام في داخل أمريكا والبلدان الأوربية..
وتستهدف هذه المواجهة تعويق نهضة الأمة، وتحديد انتشار الإسلام، وإبقاء العالم الثالث تحت الهيمنة، والحفاظ على مركز الزعامة العالمية للأمريكيين.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر إيذاناً بدخول المعركة إلى مرحلتها التنفيذية، وإعلاناً لبدء الحملة السافرة الشاملة على الإسلام والمسلمين، ولا يزال غموض كثير يلف ذلك الحدث العجيب في 11 سبتمبر، ويلقي بظلال من الشك حول الجهة التي قامت به، وسوء استخدام الأمريكيين لتلك الأحداث، وإفراطهم في استغلالها يؤكد تلك الشكوك ويضع الكثير من علامات الاستفهام.
وماذا تفعل أمريكا الآن؟
1. إنها تقود حملة عالمية للتعبئة ضد الإسلام والمسلمين تحت شعار مكافحة الإرهاب، ومن مظاهر تلك الحملة التصريحات المسيئة التي صدرت من قبل العديد من المسؤولين الأمريكيين والغربيين، وكذلك الكتابات الصحفية التحريضية على الإسلام والمسلمين، حتى دعى رئيس تحرير إحدى المجلات الواسعة الانتشار في أمريكا إلى ضرب مكة المكرمة بالقنبلة النووية، وأصبح كل عربي ومسلم في موقع الشبهة والاتهام.
فقد نشرت مجلة ([e]ناشيونال ريفيو[/e]) (National review) المعبرة عن صوت الاتجاه السياسي المحافظ في أمريكا، مقالة لمحررها « [e]ريتش لوري[/e]» اقترح فيها ضرب مكة بقنبلة نووية، لتكون بمثابة إرسال إشارة للمسلمين.
وأضاف في مقالته: « إن مكة متطرفة بالطبع، بالطبع، ومن ثم قد يموت بعض الناس ولكن ذلك سوف يرسل إشارة» وأشار « [e]لوري[/e]» إلى عامل الردع النفسي الذي سيساور المسلمين الراديكاليين إذا علموا أن الأميريكيين شديدو الغضب لدرجة قد تدفعهم إلى تحويل مدينتهم المقدسة إلى تلال من الحطام.
2. وتسعى لفرض وجودها العسكري والأمني على العديد من البلدان العربية والإسلامية. كما هو الحال في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال.. ومحاولات ضرب العراق وتهديد إيران.
3. إطلاق العنان للإجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، فمع كل مايقوم به شارون من مجازر جماعية وحرب إبادة وتدمير، في الأراضي الفلسطينية، إلا أن الإدارة الأمريكية تواصل دعمها السياسي له، وتمنع حتى صدور قرار برقابة دولية من قبل مجلس الأمن، قد تحدّ من حرية الإجرام الإسرائيلي، وتبرر كل الفظائع والمجازر التي ترتكبها إسرائيل بأنها دفاع عن النفس، ومقاومة للإرهاب.
والهدف الأمريكي من كل ذلك، هو الحفاظ على وجود إسرائيل وتفوقها العسكري على دول المنطقة، وكسر روح الصمود والتحدي الفلسطيني والإسلامي، ولكي ترفع الشعوب الإسلامية راية العجز والاستسلام أمام الصهاينة والأمريكيين.
4. تضييق الخناق على المؤسسات الإسلامية بإدراجها في قوائم الجهات الإرهابية، لشل حركتها وتجميد أموالها
إن من أهم إنجازات الصحوة الإسلامية المعاصرة، قيام مؤسسات ناجحة في مجال العمل الخيري والثقافي والاقتصادي، بدأت في تطوير تجربتها وتوسيع نطاق عملها على المستوى العالمي، مما يوّفر لها الخبرة والكفاءة، وتنمية قدراتها في الاستثمار والتنمية، ويعطي المصداقية لطروحاتها وأفكارها.
ويبدو أن ذلك يزعج الأمريكيين، فهم لا يريدون للإسلام أن يطرح بهذه الطريقة، ولا أن يعمل دعاته بهذا الأسلوب، من هنا تقع هذه المؤسسات ضمن دائرة الاستهداف الأمريكي في هذه المرحلة.
5. الضغط على الدول الإسلامية لإلغاء وإضعاف مناهج التعليم الديني بحجة أنها تغذي التطرف.
بالطبع لا يمكن إنكار حاجة مناهج التعليم بشكل عام والتعليم الديني بشكل خاص إلى التطوير والإصلاح، فتطورات الحياة المعاصرة، تطرح تحديات بالغة تجاه الفكر والثقافة والنظام الأخلاقي للمجتمع.
وطالما دعا المصلحون الواعون، والعلماء والمثقفون المتنورون لمراجعة هذه المناهج، على قاعدة التمسك بالأصالة الدينية، وحفظ ثوابت القيم والمبادئ، مع تطوير الآليات والبرامج، وأساليب العرض، وجدولة الأولويات.