المسئولية الشرعية والوطنية في العمل الوظيفي
لابد لإدارة شؤون المجتمع من جهاز وظيفي، فأي قائد مهما كانت قدراته وكفاءاته لا يستطيع إدارة الأمور بجهده وطاقته الشخصية المباشرة، وأي إدارة لعمل واسع متشعب تحتاج إلى الاستعانة بموظفين.
والجهاز الوظيفي مهم وحساس لأنه يشكل القناة بين الحاكم والناس، فعبره تصل أمور الناس وقضاياهم إلى الحاكم، وبواسطته تنفذّ الأنظمة والقوانين، فإذا كان الجهاز الوظيفي صالحا ويعمل بشكل سليم، انتظمت أمور الناس وفق النظام والقانون، أما إذا أصابه الفساد والخلل، فستضطرب أمور العباد والبلاد، وتتعثر الأنظمة والقوانين، ولن يغني صلاح الحاكم ولا يعوّض عن فساد الجهاز الإداري.
حسن الاختيار:
ومن أجل أن يؤدي الجهاز الإداري والتنفيذي دوره على أحسن وجه، لابد من حسن الاختيار وخاصة لذوي المراتب المتقدمة، والمناصب العليا، وتركز النصوص الدينية على صفتين رئيستين يجب أن تتوفرا في الموظف المسؤول: صفة الأمانة وصفة الكفاءة. والأمانة تعني أن يحافظ على الإمكانات التي تكون تحت يده فلا يُصرف شيء منها إلا في موارده المقررة، وأن لا يسيء استخدام موقعه وصلاحياته تبعا لرغباته وميوله، وتنفيذا لمآربه الشخصية وانتماءاته.
والكفاءة تعني الجدارة والأهلية للمسؤولية الملقاة على عاتقه، يقول تعالى عن لسان نبيه يوسف حينما رشّح نفسه لإدارة الاقتصاد في مصري:﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [1] .
لقد وصف نفسه بصفتين اعتبرهما مبررا لأهليته وصلاحيته للمنصب: أنه حفيظ أي أمين مؤتمن يحفظ ما يكون تحت يده من ثروات وإمكانيات، وعليم أي صاحب معرفة وكفاءة تمكنه من تحمّل المسؤولية وأداء المهمة.
وفي مورد آخر ينقل القرآن الكريم عن ابنة نبي الله شعيب ، حينما اقترحت على أبيها توظيف نبي الله
موسى للقيام بأمور خدمتهم، فركّزت على صفتين رأتهما في شخصيتة تؤهلانه للوظيفة، يقول تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [2] .
ويقول الإمام علي في عهده لمالك الأشتر: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ـ وفي نسخة اختيارا ـ ولا تولهم محاباة وأثرة»[3] .
إن إعطاء الوظائف للمحسوبيات والمحاباة على حساب النـزاهة والكفاءة لهو سبب من أهم أسباب الفساد والخلل في الأجهزة الوظيفية والإدارية في أية مؤسسة من المؤسسات.
الرقابة والإشراف:
حينما يستلم الإنسان وظيفة من الوظائف، ويجد نفسه صاحب أمر ونهي ضمن صلاحيات منصبه، ويرى تحت تصرفه إمكانيات وسلطات، فسيكون أمام امتحان حقيقي، ينجح فيه الصالحون الواعون الذين يخافون ربهم، ويخشون حسابه وعقابه، بينما يتساقط في هذا الامتحان أصحاب النفوس الضعيفة، والذين يعتبرون المنصب والوظيفة فرصة ومجالا لإشباع رغباتهم ونزواتهم، ولتحقيق مطامعهم، وتصفية حساباتهم مع الآخرين من خلال الموقع الذي تسلقوه.
وقبل أيام نقلت الصحف خبرا يعتبر عيّنة لما تعاني منه بلدان كثيرة من الفساد الإداري وسوء استخدام الوظيفة، وهو أن أحد كبار مسئولي الشرطة في بومباي/ الهند، عمد إلى إقفال مطعم صيني فخم اعتاد الأكل فيه مجانا من دون أن يدفع. وكان سبب الإقفال أن مسؤول الأمن طلب حجز طاولة، إلا أن صاحب المطعم اعتذر لأن كل الطاولات محجوزة، فما كان منه إلا أن أرسل قوة أقفلته لتأخره لمدة ربع ساعة بعد الموعد المحدد للإقفال وهو الواحدة والنصف فجرا[4] .
وقد يكون هذا الإنسان الموظف صالحا في بداية الأمر، لكن إغراءات المنصب، والفرص المتاحة أمامه قد تغريه، ويسوّل له الشيطان طريق الفساد، وإساءة استخدام الوظيفة، ويُلحظ أن بعض الأشخاص تطرأ على شخصيته تغييرات في سلوكه وأخلاقه بعد أن يتبوأ موقعا أو منصبا رفيعا. كما يقول تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [5] .
ويقول الإمام علي : «الولايات مضامير الرجال»[6] .
في مواجهة هذه الاحتمالات الواردة لابد من رقابة وإشراف على سير أعمال الموظفين، وسلوكهم في ممارسة مهامهم، ووجود الرقابة يشكل رادعا عن الانحراف، كما تُكتشف عبرها كثير من الأخطاء والمفاسد والثغرات.
ويروى عن الإمام علي بن موسى الرضا قوله:«أنه كان رسول الله إذا بعث جيشا فأمهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره»[7] .
وفي عهده لمالك الأشتر يوصي الإمام علي برقابة العمال والموظفين فيقول:«وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ـ العمال ـ فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة»[8] . وعرف عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رقابته الشديدة على الولاة ومحاسبته الصارمة على أخطائهم وتعدياتهم.
وفي كتاب الخراج أشار أبو يوسف القاضي إلى ضرورة هذا الأمر فقال: (وأنا أرى أن تبعث قوما من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمال وما عملوا في البلاد... وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم وعسف وخيانة لك في رعيتك... فحرام عليك استعماله)[9] .
وقد تبلورت هذه الرقابة في تاريخ الدولة الإسلامية، وتحولت إلى مؤسسة تحمل عنوان ولاية المظالم أو ديوان المظالم، لتقوم بدور الإشراف والرقابةعلى موظفي الدولة وتقويم سلوكهم وممارساتهم الإدارية.
وفي العصر الحديث اعتمدت الدول الغربية هذا الاسلوب المؤسسي في الرقابة والإشراف منذ قيام الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر بعنوان مجلس الدولة، وأطلقت عليه بعض الدول "القضاء الإداري" أي بعد أكثر من ألف سنة على قيامه في الدولة الإسلامية.
كما تلعب الصحافة ووسائل الإعلام الحرة دورا أساسا في تلك الدول لملاحقة الأخطاء والمفاسد الإدارية.
الموظف وتحدي المسؤولية:
للرقابة الإدارية، والإشراف الدقيق، دور في تقليص مفاسد الجهاز الوظيفي، لكن فرص الانفلات من تلك الرقابة، أو الالتفاف عليها، ليس معدوما أمام من تسوّل له نفسه خيانة الأمانة، والتلاعب بالمسؤولية، لذلك تشكو مختلف دول العالم اليوم من مشاكل الفساد الإداري، وأصبح يشكل ظاهرة عالمية.
تقول دراسة لمؤسسة "أرنست أنديونغ" للمحاسبة في لندن، حول موضوع الاحتيال على الشركات الدولية الكبرى: إنه يرتكب أربعة أعمال احتيال من كل خمسة على الشركات أشخاص يعملون في هذه الشركات، وغالبا ما يكونون موضع ثقة، وخدموا فترة طويلة. وجاءت الدراسة على شركات تعمل في (11) دولة، وشملت (17) قطاعا، وأكدت أن الاحتيال يكشف صدفة، وليس عن طريق أنظمة الضبط والتحكم المعمول بها.
كما جاء في تقرير نشر في أمريكا بتاريخ 24/12/1995م أنه تبلغ خسائر سرقة الوقت من قبل العاملين والموظفين في أمريكا (170) مليار دولار سنويا، وبمعدل تسع ساعات أسبوعيا من كل عامل وموظف، ويتساوى الرجال والنساء في معدل السرقة من وقت العمل.
لذلك فإن من أفضل وسائل مواجهة هذه المشكلة إيقاض الشعور بالمسؤولية في ذات الموظف، بحيث يدرك أن الوظيفة أمانة شرعية ووطنية في عنقه، وأن أي خيانة أو تفريط فهو محاسب عليه أمام الله تعالى، ويشكل أضرارا بمصلحة وطنه ومجتمعه.
فمن الناحية الشرعية يعتبر الموظف ملتزما بعقد يؤدي بموجبه عملا معينا ليستحق عليه أجرة محددة، وهو مؤتمن على مصالح وإمكانات يتحمّل مسؤولية الحفاظ عليها واستخدامها في مواردها المقررة بحسب نظام العمل.
إن التقصير في القيام بمهام الوظيفة والعمل بسبب الكسل وحب الراحة، والانشغال بالأمور الشخصية في وقت العمل هو حرام شرعا لما فيه من تفويت لمصالح الناس، حيث يعاني الكثير من المواطنين من مماطلة بعض الموظفين وتأخير إنجاز معاملاتهم، وإيذائهم بتكرار مراجعاتهم للدوائر، مع إمكان إنهاء المعاملة فورا وبوقت أقصر وأسرع.
وإلى جانب حرمة تفويت مصالح الناس وإيذائهم، فإن هناك إشكالا شرعيا في ما يستلمه من راتب وأجر مقابل هذا الوقت المضاع، إن كل يوم من أيام العمل وكل ساعة من ساعاته، يتغيّب فيها العامل أو يهدرها دون عذر مشروع، فإن المبلغ الذي يقابل ذلك الوقت من راتبه لا يحل له شرعا.
وقد قدم للإمام السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله الاستفتاء التالي:
هل يجوز للعامل أو الموظف في الدائر الحكومية أن يتغيّب بصورة عذر كاذبة أو بدون ذلك في أيام بعض المناسبات الدينية؟
فأجاب: إذا كان خلاف النظام، ويأخذ مع ذلك راتب وظيفته فلا يجوز[10] .
كما سئل المرجع الديني السيد علي السيستاني عن حكم تأخر الموظف أو المدرس عن الدوام بفارق 15 دقيقة أو 30 دقيقة فأجاب حفظه الله:
لا يجوز له ذلك ولا يستحق الراتب المقرر له بمقدار ما تخلّف عن أداء وظيفته[11] .
كما أجاب على سؤال حول مخالفة النظام الإداري بما يلي:
لا يجوز للموظف المذكور كغيره من الموظفين التخلف عن الأنظمة التي التزم بتطبيقها بموجب عقد توظيفه ما لم تشتمل على محرّم[12] .
وتشدد التعاليم الإسلامية على النـزاهة والأمانة تجاه الإمكانيات المرتبطة ببيت المال وثروة الشعب والوطن، فلا يجوز للموظف أن يستخدم شيئا منها لمصالحه الشخصية خارج النظام والقانون.
وقد سئل المرجع الديني السيد محمد الشيرازي حفظه الله: عن استخدام الموظف الحكومي أو الأهلي للتليفون التابع لعمله لأغراضه الخاصة؟
فأجاب ناهيا: لا يفعل ذلك[13] .
هكذا يربي الإسلام أبناءه على احترام المصالح العامة، والوفاء بالتعهدات، والأمانة في أعمالهم ووظائفهم.
فالوظيفة في منطق الإسلام ليست موردا للكسب والربح فقط وإنما هي قبل ذلك أمانة ومسؤولية. كما يقول الإمام
علي في كتابه لواليه على أذربيجان أشعث بن قيس: «وأن عملك ليس لك بطعمه ولكنه في عنقك أمانة»[14] .
الموظف وأخلاق التعامل:
يرى بعض الموظفين نفسه في موضع قوة وقدرة، وأن مصالح وقضايا للناس مرتبطة بقراره وتوقيعه وعمله، مما قد يخلق لديه شعورا بالتعالي على الناس، واستغلال حاجتهم له ضمن واجبه الوظيفي، ويحصل في أحيان كثيرة أن يطبق الموظف القانون بتعسّف وصلافة تجرح مشاعر الناس، وتسيء إلى كرامتهم وحقوقهم.
وينتج ذلك إما من وجود عقد نفسية عند الموظف، أو لعصبية انتماء قبلي أو مذهبي، أو لتصفية حسابات أخرى بينه وبين بعض المراجعين، أو ما أشبه ذلك.
إنه في هذه الحالة يسيء إلى الجهة التي ائتمنته على الوظيفة، ويخون مصالحها، كما يحمّل نفسه الوزر والإثم من قبل الله تعالى.
وقد ركز الإمام علي على جانب التعامل مع الناس من قبل موظفي الدولة ومسئولي الأجهزة الحكومية في عهده لمالك الأشتر حينما ولاه مصر، حيث كتب له قائلا:«وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»[15] . وفي كلامه إشارة هامة إلى احترام الجانب الإنساني للمواطنين وإن اختلف الانتماء الديني.
إن الناس بطبيعتهم يستثقلون القوانين والأنظمة بشكل عام، وإن كانت ضرورية لتنظيم الأمور، فإذا ما أضاف الموظف بسوء أخلاقه عليهم ثقلا آخر، فإن ذلك يحدث في نفوسهم السخط والنقمة، وينفّرهم من النظام والقانون.
الإتقان والإخلاص في العمل:
وكمواطنين يهمنا أن تتقدم بلداننا، وأن تنتظم شؤون حياتنا وتتطور إلى الأفضل، فإن كل واحد منا يتحمّل جزءا من المسؤولية في إنجاز هذا الهدف الهام. إن التخلف والمشاكل تحصل بسبب اجتماع وتراكم حالات الإهمال والتسيب والتقصير، فغياب موظف هنا، ومماطلة آخر هناك، وتقصير مسؤول في هذا الموقع، ومحاباة آخر في ذلك الموقع.. من مجموع هذه الممارسات والنواقص يحصل الخلل، وتتأثر مصالح الوطن والمواطنين.
إن أخطاءً قد تحصل في مؤسسات صحية عامة أو خاصة، بسبب الإهمال والتقصير، فتذهب ضحيتها أرواح مواطنين أعزاء، أو إصابتهم بإعاقات وأمراض خطيرة.
وإن تخلفا وتدنيا في مستويات بعض الطلاب مما يؤثر على مستقبلهم الدراسي قد ينتج عن تساهل وتقصير من بعض المدرسين، أو الإداريين في المؤسسات التعليمية.
وإن تعثرا في حركة التصنيع والإنتاج، أو سوءً وتخلفاً في صفات منتجات متداولة تضر بالناس، قد يكون بسبب خلل وإهمال في تطبيق القوانين والأنظمة من قبل الموظفين المعنيين.
وهكذا فإن حياة المواطنين وصحتهم ومستقبل أبنائهم وحركة إنتاجهم ومختلف شؤونهم.. وسيادة القانون والنظام في البلاد، كل ذلك يرتبط بمدى إتقان الموظفين لأعمالهم الموكولة إليهم، وإخلاصهم في أدائها.
إن أوطاننا وثرواتنا ومستقبلنا أمانة في أيدينا جميعا فلنتق الله في أنفسنا ومجتمعنا وبلادنا، وإن التدين الصحيح يجب أن يظهر أثره في أداء الأمانة والقيام بالواجبات والمهام في خدمة المصلحة العامة.