عاشوراء: تطلعات وآفاق

آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكّر الإنسان بنعم اللَّه تعالى عليه، وتتحدث عن ألوان وأصناف تلك النعم المختلفة، التي اسبغها اللَّه تعالى على الإنسان ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[سورة لقمان الآية20] ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا[سورة إبراهيم الآية 34] كما تؤكد آيات عديدة على استحضار نعم اللَّه تعالى وجعلها نصب العين والفكر، ففي ثمان موارد جاء قوله تعالى ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وفي ثلاثة موارد أخرى جاء قوله تعالى ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إضافة إلى العشرات بل المئات من الآيات الكريمة، التي تستعرض آلاء الخالق جل وعلا وعطاءاته اللامحدودة.

إن هذا التذكير من قبل اللَّه تعالى بنعمه وآلائه، إنما يستهدف أمرين:

الأول: ليهتم الإنسان بأداء واجب الشكر تجاه المنعم، بالخضوع للَّه تعالى والتزام أوامره، واجتناب نواهيه.

الثاني: أن يلتفت الإنسان تجاه النعم المحيطة به، ويفكر في استثمارها والاستفادة منها، فهي إنما خلقت لأجله، وسخّرت لخدمة مصالحه، وتوفير سعادته.

وبمقدار توجه الإنسان لخيرات الكون، وثروات الحياة، وسعيه لاكتشافها واستثمارها، يكون مستوى تقدمه، وتطور حياته.

فنعم اللَّه الكثيرة الواسعة تحيط بكل البشر، ومتاحة لكل الناس، لكن هناك من يلتفت لبعض النعم ويستفيد منها، وهناك من يغفل عنها ولا يهتم بها، لقصور أو تقصير، يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[سورة يوسف الآية105].

والمجتمعات المتقدمة، سرّ تقدمها وتطورها، هو توجهها واستثمارها للإمكانات والثروات المتاحة، بينما تتوفر الإمكانات نفسها لمجتمعات أخرى، وتبقى معطلة مجمدة.

الثروات المعنوية

حركة الإنسان وفاعليته في هذه الحياة، تعتمد بالدرجة الأولى على قواه وقدراته الروحية والمعنوية، فالهمة العالية، والإرادة القوية، والاستقامة النفسية، وسعة الأفق، وتحرر الفكر، ويقظة الوجدان والضمير، والصبر والثبات، وسائر الملكات والصفات الفاضلة كلها تشكل المنبع والوقود الذي يمد الإنسان بالطاقة لإدارة شؤون الحياة، ومواجهة تحدياتها.

والجهات والعوامل التي تنمي هذه الصفات في نفس الإنسان تعتبر مصادر للثروة المعنوية والقوة الروحية، وكلما كان رصيد المجتمع من هذه المصادر والعوامل أكبر، كانت إمكاناته أفضل، وبالتالي سيكون أكثر فاعلية وسعادة ونجاحا.

لذلك، فإن القيم السامية، والمبادئ الحقة، والمناهج السليمة، هي من أعظم النعم التي تثري حياة الإنسان وتسعدها، وكما يمتن اللَّه سبحانه وتعالى، على عباده بآلائه المادية، ويذكرهم بها، كذلك يمتن عليهم بالنعم المعنوية التي أفاضها عليهم عبر هديه الإلهي، ورسالاته السماوية، ويلفتهم إليها ويذكـرهم بها، يقـول تعـالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ[سورة آل عمران الآية164]، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ[سورة البقرة الآية231]، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[سورة آل عمران الآية103].

إن وجود الهدي الإلهي، والمناهج القويمة للحياة، والتعاليم والتوجيهات التي تعالج المشاكل النفسية والاجتماعية، وتربي الإنسان وتنمي قدراته وطاقاته، وتسيّره في الطريق الصحيح، إن ذلك يشكل نعمة كبرى، إنها نعمة الهداية ﴿الْحَمـْدُ لِلَّهِ الَّذِي هـَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَـدِيَ لَوْلاَ أَنْ هـَدَانَا اللَّه[سورة الأعراف الآية43].

لكن توفر هذه النعم المعنوية شيء، والالتفات إليها واستثمارها والاستفادة منها شيء آخر، تماماً كما هو الحال في النعم المادية.

فكم من مجتمع يعيش الشقاء والتخلف، ويعاني من الانحرافات والأمراض الفتاكة ـ النفسية والاجتماعية ـ وتسوده حالة الجهل والتمزق، وبين ظهرانيه رسالة اللَّه، وكتبه الإلهية المقدسة، وتعاليمه الدينية العظيمة، لكنها مهجورة مهملة، لا يستفاد منها كمنهج حياة، أو كمصدر إضاءة وإشعاع؟

وفي تمثيل بليغ يشبّه اللَّه تعالى مجتمع اليهود، الذين أنزل اللَّه عليهم التوراة، فانتموا إليها بالعنوان والشكل، وعطلوا مضامينها وبرامجها في حياتهم، بأنهم كالحمار الذي يحمل أهم الكتب العلمية على ظهره، لكنه بالطبع لا يستفيد منها شيئاً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[سورة الجمعة الآية5].

والأمة الإسلامية تمتلك آخر وأفضل الرسالات السماوية، وأكمل الشرائع، إنه الإسلام بأنظمته الشاملة لجوانب الحياة، وتعاليمه وبرامجه الخلاّقة، التي تهدي الإنسان للتي هي أقوم، وتشق له طريق السعادة والصلاح. وحينما كان المسلمون يعرفون قدر هذه النعمة، ويتمسكون بها، ويصنعون حياتهم على ضوئها، أصبحوا خير أمة أخرجت للناس.

ومؤسف جداً ما تعيشه الأمة الإسلامية الآن من تخلف وانحطاط، ناتج عن خواء وضعف في القدرات المعنوية، والإمكانات الروحية، مع إنها تمتلك أضخم ثروة ورصيد معنوي روحي.

إن كل برنامج من برامج الإسلام يمكنه أن يشكل منبعاً روحياً ثرًّا يلهم العزيمة والقوة، ويمنح الفاعلية والنشاط، شريطة التوجه إليه، والالتزام به، وتفعيله في واقع الحياة، أما الممارسة الشكلية، والتعاطي السطحي القشري مع برامج الدين، فإنه يضعف مفعول تلك البرامج، ويجمّد دورها المطلوب.

موسم المحرم

في بداية كل سنة هجرية تستقبل المسلمين ذكرى شهادة الإمام الحسين بن علي سبط رسول اللَّه وريحانته، وقد اعتادت المجتمعات الشيعية الإسلامية، الاحتفاء بهذه الذكرى، استجابة لتوجيهات أئمة أهل البيت ، حيث أمروا شيعتهم وأتباعهم بإحياء هذه الذكرى، والاهتمام بها، وأصبحت العشرة الأولى من شهر المحرم في كل عام موسماً حسينياً، يمتلئ بالبرامج، المكثفة، والنشاط الاجتماعي، الذي يشارك فيه كل أبناء المجتمع رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، مما يعطي هذا الموسم طابعاً استثنائياً، وحالة مميزة في واقع المجتمعات الشيعية، في مختلف أنحاء العالم.

إن الاحتفاء بذكرى عاشوراء ينطلق من دافع ديني ذاتي عند الجمهور الشيعي، ولاءً لأهل البيت ، وتأكيداً للهوية الخاصة في الانتماء إليهم، وتبذل في برامج هذا الاحتفاء جهود كبيرة، وإمكانات ضخمة، ضمن نشاط جماهيري أهلي، تشارك فيه كل الفئات والطبقات.

وتوفّر أجواء عاشوراء، وبرامج الاحتفاء بها، فرصاً هائلة، يمكن استثمارها والاستفادة منها في تنمية هذه المجتمعات، وتعميق الحالة الدينية، ومعالجة الكثير من المشاكل الاجتماعية، ذلك أن النفوس تكون مهيأة، وتفاعل الناس كبير، وما يسمعونه من سيرة الإمام الحسين يجعلهم أكثر استعداداً للتجاوب والبذل والعطاء، لكن البعض من الناس يمارسون هذه البرامج كطقوس تقليدية، وشعائر متوارثة معتادة، دون أن يهتموا باستثمارها وتوظيفها لخدمة المصلحة العامة للمجتمع والوطن.

فهي ثروة عظيمة هائلة بإمكانها أن تقدم الكثير من الخير والعطاء للمجتمع، فأين تجد مثل هذه الجموع والحشود التي تأتي بشكل عفوي تلقائي دون تعبئة إعلامية، ولا حوافز ولا مغريات مادية، وعلى مدار عشرة أيام صباحاً ومساءً؟ وأين تلقى مثل هذا التفاعل والتجاوب العاطفي الجيّاش؟ ومتى ترى مثل هذا البذل السخي في المال من قبل الفقراء قبل الأغنياء؟

كل ذلك يتوفر في موسم المحرم عند المجتمعات الإسلامية الشيعية للاحتفاء بذكرى الإمام الحسين .

فكيف يستفاد من هذه الثروة؟ وكيف نغتنم ما توفره من فرص إيجابية كبيرة؟

1 ـ تعميق التدين

هذا الجمهور الذي يحتشد باسم الإمام الحسين، ويصرف الوقت والجهد في إحياء ذكراه، ويصغي إلى الخطباء والموجهين في مجالس العزاء، إنما يعلن عن انتمائه للدين، وانشداده القلبي والعاطفي إلى أئمة الدين وقياداته، وتجاوبه مع الشعائر والقضايا الدينية، وهذا يحملنا المسؤولية، ويوفر الفرصة الثمينة، لتوعية هذا الجمهور بأمور دينه، ولتعميق حالة التدين في النفوس، وصياغة السلوك والأخلاق والمواقف على هدي الدين.

إن برامج عاشوراء تتيح أفضل فرص التوعية والتوجيه، والناس بحاجة ماسة إلى معرفة مفاهيم الدين الحقيقية، وتجليتها عن غبار الزيف، وتراكمات الفهم القشري والسطحي، ومع استغراق إنسان هذا العصر في الاهتمامات المادية الجارفة، وتعرضه الدائم لوسائل الإعلام التي تحرض فيه الشهوات والأهواء، لتجعل منه إنسانا مادياً شهوانياً، يبحث عن اللذة، ويعبد المصلحة، ما أحوج هذا الإنسان لأجواء روحية تعبويه، تذكّره بالقيم، وتشده إلى المبادئ، وتوجهه إلى القدوات الصالحة من الأنبياء والأئمة والأولياء.

2 ـ التـنمية الاجتماعية

عبر برامج عاشوراء يلتقي الناس بعضهم بعضاً، مما يؤكد وحدتهم الاجتماعية، ويرسخ عندهم الشعور الجمعي، وفي المجتمع حاجات، ومناطق ضعف، وثغرات وسلبيات، لابد من استثمار هذه البرامج لتوجيه الناس لمواجهتها ومعالجتها.

فعلى المستوى التعليمي ينبغي تحفيز الطلاب والطالبات على الجهد والاجتهاد، لإحراز التفوق، ونيل أفضل المستويات والمعدلات، ولا يصح أبداً التغاضي عن انخفاض المستوى التعليمي، لما يترتب على ذلك من تأخر وتخلف.

وعلى المستوى العملي والوظيفي على أبناء المجتمع أن يشمروا عن سواعدهم، وأن يسهموا في بناء وطنهم، عبر إخلاصهم في العمل، والبحث عن الفرص الجديدة، والمشاريع المبتكرة، وتوفير الكفاءة والخبرة في مجالات التكنولوجيا الحديثة، وأن لا يرهنوا مستقبلهم بتحصيل الوظائف الجاهزة، ويعتبرونها الخيار الوحيد لبناء حياتهم.

واجتماعياً هناك مناطق ضعف في المجتمع من فقراء وأيتام ومرضى، وهناك حاجات ومتطلبات للخدمة الاجتماعية، فينبغي التذكير بالمسؤولية الاجتماعية، وتشجيع المؤسسات العاملة كالجمعيات الخيرية الرسمية، وما يتفرع عنها من لجان كافل اليتيم،وصناديق الزواج الخيري ومهرجان الزواج الجماعي وغيرها. لتنهض بدورها ومهامها في هذا المجال.

إن بإمكان أجواء المحرم أن توفر زخماً معنوياً كبيراً لصالح تنمية المجتمع وخدمة أغراضه النبيلة.

3 ـ دراسة عاشوراء

قد نقرأ عاشوراء قصة تاريخية حدثت وقائعها في زمان ومكان معين، ومن قبل أشخاص معينين.

وقد نقرؤها صراعاً بين فئتين على أهداف وقضايا مختلفة.

وقد نقرؤها مأساة تستثير عواطفنا ومشاعرنا.

لكن المطلوب أن نقرأها ملحمة دينية وإنسانية ملهمة، نقتبس منها الدروس والعبر، ونأخذ منها القيم والمثل.

ففي وقائع عاشوراء يتجلى الالتزام الصادق بالدين، والتضحية من أجل مبادئه، وترتسم أروع صور الوفاء، ومواقف البطولة.

في كربلاء، كان هناك الشاب الذي كرّس شبابه لخدمة الرسالة والأمة، والمرأة التي كافحت بحجابها وعفافها، ومنطقها وصمودها، إلى جانب نصرة الحق، والشيخ الطاعن في السن الذي لم يقعد به ضعفه وشيبته عن المشاركة في معركة الفداء، والأخ الوفي المواسي لأخيه في أحلك الظروف، والجماعة المؤمنة التي لم تتوانَ عن أداء الصلاة عند وقتها تحت مشتبك الأسنة والرماح، والمصابون المثكلون الذين لم تنل الرزايا والخطوب الفادحة من ثباتهم واستقامتهم..

إنها صور رائعة، ودروس عظيمة، يجب أن نقرأها، لنستلهم منها القيم والعبر، بما ينفعنا لإصلاح حاضرنا وبناء مستقبلنا على ضوء المبادئ والقيم.

4 ـ بناء الوحدة الوطنية والإسلامية

التحديات التي تواجهنا على المستوى الوطني والإسلامي، يجب أن تدفعنا جميعاً إلى التوحد والتلاحم، وتنوعنا المذهبي سنة وشيعة، لا يبرر التباعد والخلاف، مادمنا نتفق على الأصول، ويجمع بيننا الوطن الواحد والمصلحة المشتركة.

وبرامج عاشوراء يمكن الاستفادة منها في تعزيز الوحدة الوطنية والإسلامية، بأن تكون لغة الخطاب إسلامية تتجاوز الإثارات والمهاترات الطائفية، وأن تشكل برامج عاشوراء فرصة مناسبة لاطلاع بقية المسلمين على آراء وممارسات إخوانهم الشيعة، حيث راجت في بعض الأوساط إشاعات وانطباعات مشوهة خاطئة عن حقيقة معتقدات الشيعة، وكيفية إحيائهم لموسم المحرم.

والحمد للَّه، فالحسينيات مفتوحة في كل مكان في العالم، والبرامج علنية، فليس هناك مبرر للتشبث بالشائعات والدعايات المغرضة، مادامت فرصة التعرف المباشر متاحة.

وذكرى الإمام الحسين يجب أن تكون مناسبة لتعزيز وحدة الأمة، فالحسين قضية إسلامية عامة، وليس مشروعاً مذهبياً خاصًّا، وهو إنما ثار واستشهد من أجل إصلاح الأمة ومصلحتها، كما يقول : «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فاللَّه أولى بالحق. ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي اللَّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين».

وسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا.

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 25 ذو الحجة 1420هـ