الشباب: أسرع إلى كل خير

يتصور البعض أن طبيعة مرحلة الشباب بما يواكبها من عنفوان عاطفي، واستيقاظ للغرائز والشهوات، تسبب عزوفاً عن الدين، وميلاً إلى اللهو واللعب، والانفلات من الضوابط والالتزامات.

لكن الحقيقة تشير إلى عكس ذلك، فمرحلة الشباب، تبرز فيها كافة الميول والرغبات والملكات الطبيعية الكامنة في ذات الإنسان، سواء منها الشهوانية المادية والروحية المعنوية.

فإلى جانب استيقاظ غريزته الجنسية يتبلور وعيه وعقله، وتنمو التوجهات الفطرية والخيّرة في نفسه، وتنتصب أمام ذهنه تساؤلات وعلامات استفهام حول وجوده ووجود الكون والحياة، بعد أن كان في مرحلة الطفولة غير ملتفت ولا مهيأ للتفكير الجاد في هذه الأمور، فيصبح على مفترق طرق، وأمام عدة خيارات، والبيئة التي يعيش فيها، والأجواء التي يحياها، لها دور في ترجيح كفة هذا الميل أو ذاك في نفسه.

لذلك يعتبر الإسلام فترة البلوغ هي سن التكليف الشرعي وتحمّل المسؤولية. (ويعتقد جميع العلماء أن هناك ميولاً أخرى إلى جانب المعرفة الفطرية والضمير الأخلاقي، تتوضح معالمها بشكل طبيعي في الإنسان لدى بلوغه سن الثانية عشر، أي مع بداية مرحلة الحداثة والفتوة، ومن جملة هذه الميول، الميل إلى المعرفة الدينية، وهذا الميل يزداد ويشتد تدريجياً مع تفاعل العوامل الطبيعية للبلوغ حتى يصل ذروته في سن السادسة عشر. يقول (جان. بي. كايزل): لقد أثبتت الاختبارات أن الإيمان بالدين يبدأ تفاعله في أعماق الإنسان من سن الثانية عشر. أما (موريس دبس) - أستاذ في جامعة ستراسبورغ - فيقول: يبدو أن هناك إجماعاً بين علماء النفس على وجود علاقة بين أزمة البلوغ والوثوب المفاجئ للحس الديني لدى الإنسان. وفي هذه الفترة يلاحظ وجود نوع من النهضة الدينية والوعي الديني حتى عند أولئك الذين لم يكونوا ليعيروا اهتماماً من قبل بكل ما يتعلق بالدين والإيمان. وهذا الحس الديني يبقى يتفاعل في أعماق الإنسان حتى يصل في سن السادسة عشر إلى ذروته)[1] .


الشباب طليعة المؤمنين:


ولو استقرأنا تاريخ الرسالات السماوية لرأينا بوضوح أن الشباب كانوا هم السبّاقين للإيمان بها، وللاستجابة للرسل الكرام، وحمل الدعوة والجهاد من أجلها والدفاع عنها.

فنبي الله نوح يعيّره قومه بأنه لم يستجب له إلا الضعفاء والشباب ﴿ وَمَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ [2] ، (لأن معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بذكائهم وبحثهم عن الحقيقة دلائل الصدق في أقوال الأنبياء عليهم السلام وأعمالهم)[3] .

ونبي الله موسى إنما التف حولـه شباب قومه متحدين أجواء الاستبداد والقمع كما يقول تعالى ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ [4]  والذرية هم الأبناء.

ونبينا محمد كان طليعة المؤمنين به من الشباب لذلك ورد عنه أنه قال: «أوصيكم بالشبان خيرا فإنهم أرق أفئدة، وأن الله بعثني بشيراً ونذيراً فحالفني الشبان، وخالفني الشيوخ»، ثم قـرأ ﴿فَطَــالَ عَلَيْهِـمْ الأَمـَدُ فَقَسـَتْ قُلُوبُهُـمْ [5] .

وكان مما أثار شيـوخ قريش علـى رسول الله إقبال أبنائهم الشباب على دعوته، وصرحوا بذلك في شكواهم إلى أبي طالب حيث قالوا: (إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وسفّه أحلامنا وأفسد شبابنا)[6] .

فعلي بن أبي طالب أول الناس إسلاما كان عمره ثلاثة عشر سنة، وعمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري ومصعب بن عمير وبلال بن رباح وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم، اعتنقوا الإسلام في مرحلة شبابهم، وحملوا رايته وأشادوا كيانه.

ومرة سأل الإمام جعفر الصادق تلميذه محمد بن النعمان المعروف بمؤمن الطاق، وكان مهتماً بنشر تعاليم الإسلام ومعـارف أهـل البيت عليهم السلام سأله الإمام: «كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟» فقال: والله إنهم لقليل. فقال له الإمام جعفر:« عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير»[7] .

وفي العصر الحاضر فإن الشباب هم جمهور الصحوة الإسلامية المباركة، فالإقبال على الاتجاه الديني، والتحرك الإسلامي يأتي أكثر من أوساط شباب المسلمين في هذا العصر.



في لبنان - انتصر شباب الإسلام:


تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام أفراح النصر المؤزر الذي تحقق في جنوب لبنان، باندحار القوات الإسرائيلية الغاشمة، بعد احتلال دام اثنتين وعشرين سنة، هذا النصر العظيم إنما تحقق على أيدي شباب الإسلام أبناء المقاومة الإسلامية الباسلة، كان في لبنان وجود فلسطيني كبير وقوة فلسطينية هائلة، تمتلك السلاح والعتاد والإمكانيات والدعم الشعبي اللبناني والعربي، لكن إسرائيل تمكنت من مواجهة الفلسطينيين واخراج قيادتهم من لبنان بشكل مذل مهين، وكان في لبنان حركة وطنية واسعة تضم مختلف الأحزاب اليسارية والقومية، لكنها لم تصمد أمام القهر الإسرائيلي، وهبت رياح الإسلام والإيمان، وانطلقت المقاومة الإسلامية، بقوة العقيدة والدين، وبروح الشهادة والتضحية، فاستجاب لها شباب الإسلام، وتحدوا كل أجواء الإغراء والإغواء والفساد والإفساد.

وكلنا يعرف طبيعة الأجواء الحرة المفتوحة في لبنان، حيث تتوفر كل وسائل الميوعة وأساليب الابتذال، فإذا كان بعض شبابنا تؤثر فيهم أفلام وصور ومشاهد يرونها من خلال قنوات البث التلفزيوني والفضائيات، فإن الشباب المؤمنين في لبنان يعايشون هذه الحالات واقعاً يتحرك أمامهم، كما أن إسرائيل وعبر إعلامها الموجه إلى لبنان، وأجهزة مخابراتها (الموساد) كانت تعمل بكل وسيلة لإفساد شباب لبنان وتمييعهم واستمالتهم، لكن الشباب المؤمنين تجاوزوا كل تلك التحديات، وتمسكوا بدينهم، وناضلوا من أجل عزة أمتهم وكرامتها، حتى حقق الله النصر على أيديهم، وشاهدنا وشاهد العالم لأول مرة جيش إسرائيل الذي يتشدق بأنه لا يقهر، وقد اضطر للإنسحاب بالخيبة والذلة، وفر جنوده تحت جنح الظلام بهزيمة نكراء، والحمد لله رب العالمين.

أنه في الوقت الذي نبارك فيه لإخواننا اللبنانيين انتصارهم الكبير، فإننا يجب أن ندرك بأن الحالة الإيمانية الواعية هي سر انتصارهم، وأن الشباب هم طليعة هذه الحالة الإيمانية.



دوافع التدين عند الشباب :


هناك أكثر من دافع وراء ظاهرة إقبال الشباب على التدين.

1/ في مرحلة الشباب يتشكل وعي الإنسان، ويتفتح تفكيره على الحياة، فترتسم أمامه تساؤلات ملحة، تطرحها عليه فطرته، ويثيرها عقله، وتنبثق من خلال تأمله وملاحظته الفاحصة لما حولـه من قضايا وأوضاع، ولأن الدين يقدم إجابات واضحة، تنسجم مع الفطرة، وتتفق مع بديهيات العقل، فإن الشاب يجد في الدين ضالته، وكنفه الذي يأوي إليه، فيمنحه الاطمئنان النفسي، والاستقرار الفكري.

وحين لا تتوفر للشاب فرصة التعرف على الدين، والإطلاع على مبادئه وتعاليمه، فإنه قد يعيش فراغاً فكرياً ونفسياً يسبب له الكثير من القلق والاضطراب، وقد يصبح عرضة للتوجهات الخاطئة والمنحرفة، من هنا جاء التأكيد الديني على الاهتمام بالناشئين والشباب من قبل عوائلهم، والواعين من أبناء المجتمع، لحماية جيل الشباب من الفراغ والضياع.

يقول الإمام علي : «وإنما قلب الحَدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته»[8] .

وعن الإمام جعفر الصادق أنه قال:«بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة»[9]  من الفرق المنحرفة.

2/ يكون الشاب مرهف المشاعر والأحاسيس، صافي الفكر والسريرة، لذا يتحسس بدقة نقاط الضعف والثغرات في الواقع الاجتماعي المعاش، ولأنه يفكر في بناء مستقبله وحياته ضمن هذا الواقع الاجتماعي، فإن المشاكل والأزمات الحاضرة تزعجه وتشعره بالقلق على مستقبله، وقد يرى أن تطلعاته وطموحاته تتعثر في مجال التعليم أو العمل أو بناء الأسرة وترتيب شؤون الحياة، بسبب بعض المشاكل القائمة، مما يجعله باحثاً عن الطروحات والمناهج التي يعقد عليها آمال الخلاص ويرى فيها سبيل المستقبل الأفضل.

والدين ينمي في الإنسان روح التطلع إلى الأفضل، ويشحذ همته لمقاومة مساوئ الواقع المعاش، وعدم الخضوع لمفاسده ومشاكله، ويشجعه على العمل من أجل الإصلاح والتغيير، وهذا ما تنشده نفوس الشباب وتتجاوب معه.

فشباب مكة والمدينة إنما استجابوا لله ورسوله، واندفعوا نحو الإسلام، لأنهم رأوا فيه رسالة تغيير، وثورة إنقاذ، من الجهل والشرك والفساد الاجتماعي.. وشباب الإسلام في هذا العصر إنما تفاعلوا مع الصحوة الإسلامية، لما شعروا به من مرارة واقع أمتهم، حيث التخلف الحضاري، والهيمنة المعادية، وأوضاع الاستبداد والفساد الشامل، فلجأوا للإسلام كسفينة نجاة، ومشروع إنقاذ وإصلاح.

3/ بمرور الزمن قد تتراكم الأخطاء وتحدث الانحرافات حتى في المجتمعات الصالحة، لذلك تحتاج المجتمعات إلى نفضات وانتفاضات تجديدية، تطور من خلالها برامج حياتها، وتتجاوز الأخطاء والسلبيات، لكن جيل الكبار قد تصعب عليهم هذه المهمة، فهم قد ألفوا الواقع المعاش، وتعودوا على طرقه وأساليبه، وهم يخشون من مضاعفات أي تغيير، ولا يمتلكون روحية المغامرة والطموح غالباً.

أما الشباب فارتباطهم بالواقع المعاش ناشئ ومحدود، وانشدادهم النفسي إليه ضعيف حين لا يرضي طموحاتهم، وفورة الشباب تدفعهم للمغامرة واقتحام المجهول بحثاً عن الأفضل.. والدين في حقيقة مفاهيمه وتعاليمه دعوة دائمة إلى الإصلاح والتجديد، وحث وتحريض على تغيير المنكر واقرار المعروف في أي مجال من مجالات الحياة.. وتلك سمة تستقطب الشباب وتستهويهم من الدين.



المسؤولية تجاه الشباب :


هذه الدوافع التي توفرها مرحلة الشباب نحو التدين، لا تعني حدوث حالة التدين بشكل تلقائي لدى الشباب، وإنما وجود الاستعداد والتهيؤ الذاتي، والذي يحتاج إلى استثمار وتفعيل خارجي.

وهنا تأتي مسؤولية العائلة والمجتمع في توفير أجواء الهداية والتوجيه السليم، ويبدو لي أن من الأمور الأساسية للأخذ بيد الشباب الأعزاء نحو التدين والصلاح أمران:

1/ التوعية والتثقيف المناسب: فأبناؤنا اليوم يعيشون عالماً متقدماً في وسائله وأوضاعه عن العالم الذي عاشه آباؤهم، فهم منفتحون على ما يجري في العالم كله عبر وسائل الاتصالات والإعلام المتطورة، ويشعرون بالثقة بالذات، والرغبة في التحرر، فلا بد وأن تعرض عليهم مفاهيم الدين وتعاليمه، بشكل مناسب، ولغة معاصرة، وأسلوب واضح جذاب، قادر على استقطابهم ومعالجة ما يواجهونه من تساؤلات وتحديات.

2/ الإقبال عليهم والاهتمام بهم من قبل الجهات الدينية، إنهم بحاجة إلى من يفتح لهم قلبه ويبدي لهم الاحترام والتقدير، ويتحمل إشكالاتهم وبعض الأخطاء التي تبدو من سلوكياتهم، إن مجاميع كثيرة من الشباب كانوا في البداية غافلين عن الدين، تتقاذفهم مختلف التوجهات والمسلكيات الخاطئة، لكن توجه بعض علماء الدين الواعين لهم، وإقبالهم عليهم واهتمامهم بهم، أوجد منعطفاً كبيراً في حياتهم، وحولهم إلى شباب صالحين مصلحين، يتفانون في خدمة دينهم ومجتمعهم. إن التصدي من قبل علماء الدين لرعاية الجيل الشاب يعتبر من أهم المسؤوليات في هذا العصر، حيث يواجه الشباب طوفاناً جارفاً من الثقافة المادية والإغراءات الفاسدة، وإنقاذ أي شاب وهدايته هو أفضل مصداق لقولـه :«لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت»[10] . واهتمام عالم الدين بالشباب مؤشر على إخلاصه، فالوسط الشبابي لا يعطي بروزاً وظهوراً، ولا تتوفر لديه الامتيازات والإمكانيات كما هو الحال في أوساط الكبار ورجال الأعمال، كما لا يحظى منهم بمظاهر الاحترام والتقدير التي يبديها الكبار عادة لعالم الدين، والتعاطي مع الشباب امتحان لرحابة الصدر وسعة الأفق، كل ذلك يجعل الثواب الإلهي أجزل وأوفر في الاهتمام بهذا الجيل الناشئ.

وبالإضافة إلى الثواب الإلهي فإن من يقبل على الشباب ويهتم بهم، سيرى ثمار جهده يانعة وفيرة، من خلال إقبال الشباب وتجاوبهم وتفاعلهم، مصداقاً لقـول الإمام جعفـر الصـادق : «إنهم أسرع إلى كل خير». فنفوسهم شفافة، وقلوبهم رقيقة كما قال عنهم رسول الله :«إنهم أرق أفئدة»، لم تتراكم عليها الذنوب بعد، ولم تعقدها المصالح والسلبيات. وما قد نراه من مسلكيات خاطئة عند بعض الشباب إنما هو نتيجة للفراغ وضعف التوجيه والتوعية.

ونحن في هذه الأيام على أعتاب العطلة المدرسية الصيفية، والتي يكون فيها للشباب من فتيان وفتيات متسع كبير من الوقت، يجب أن تتوفر لهم فيه برامج مفيدة، ينمّون من خلالها كفاءاتهم وطاقاتهم، ويتعرفون على معالم دينهم، وما ينفعهم لدنياهم وآخرتهم، وإذا ما تركوا للفراغ فإنهم سيكونون عرضة لمختلف التوجهات المنحرفة والفاسدة، فالفراغ خطير، ودافع للكثير من المسلكيات الضارة على الفرد والمجتمع.

والمأمول أن يتوجه العلماء الواعون، والناس المهتمون بمصلحة المجتمع، وخدمة الدين، لإحتواء هؤلاء الشباب في عطلتهم المدرسية، ووضع البرامج المفيدة لتوعيتهم وتربيتهم وتوجيههم.

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 22 صفر 1421 هـ
[1]  فلسفي: محمد تقي/ الشاب بين العقل والعاطفة ج1 ص329 الطبعة الأولى 1994 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.
[2]  سورة هود الآية27.
[3]  الشيرازي: ناصر مكارم/ تفسير الأمثل ج6 ص478.
[4]  سورة يونس الآية83.
[5]  فريد: مرتضى/ روايات من مدرسة أهل البيت ج1 ص349.
[6]  المجلسي: محمد باقر / بحار الأنوار ج18 ص180 .
[7]  المصدر السابق ج23 ص236.
[8]  الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة- كتاب 31.
[9]  الكليني: محمد بن يعقوب/ فروع الكافي ج6 ص47 .
[10]  المجلسي: محمد باقر / بحار الأنوار ج21 ص361 .