الآخر المخالف: كيف ننظر إليه؟
الإنسان المتدين وهو يعتقد بأحقية دينه، وصواب مذهبه، كيف ينظر إلى الآخرين المختلفين معه في الدين أو المذهب؟
لاشك أن الحق واحد لا يتعدد، فإذا آمن الإنسان بدين أو مذهب على أنه حق وصواب، فلابد وأن يكون ما يخالفه عنده باطلاً وخطأً، وحتى إذا كان هناك نقاش حول التخطئة والتصويب في الفروع الشرعية، حيث ذهب بعض العلماء إلى القول بالتصويب، بمعنى أن حكم الله تعالى في المسألة الاجتهادية هو ما اهتدى إليه المجتهد باجتهاده، وليس هناك حكم معين من قبل، فكلما يصل إليه اجتهاده فهو الصواب، بينما يرى أغلب العلماء، أن لله تعالى أحكاماً معينة في كل مسألة اجتهادية، فمن هداه اجتهاده إلى ذلك الحكم فقد أصاب، وإلاّ فهو مخطئ. لكن قضايا أصول الاعتقاد لا يمكن أن يجري فيها هذا الاختلاف والنقاش، ولا أن يقول أحد فيها بالتصويب، فعند تعدد المعتقدات لا يقول أحد من العلماء بتصويب الجميع، كما هو الحال في المسائل الفرعية الشرعية، بل اتفقت أقوال العلماء بأن التخطئة تقع في أصول الاعتقاد، والأحكام العقلية عدا ما نسب إلى العنبري عبيد الله بن الحسن ين الحصين، قاضي البصرة (توفي168هـ) من أن كل مجتهد في الأصول مصيب أيضاً وليس فيها حق متعين. وهو قول شاذ وينقل ابن حجر تراجع صاحبه العنبري عنه[1] .
ومعنى ذلك أن كل متدين يرى أحقية دينه ومذهبه، وأن المخالفين له على خطأ وباطل في أديانهم ومذاهبهم.
وإذا كانت نظرة المتدين إلى سائر الأديان والمعتقدات المخالفة لدينه ومذهبه، على أنها خاطئة وباطلة أمراً منطقياً مفهوما، شريطة أن يكون تدينه هو قائماً على أساس الدليل والبرهان، فإن نظرته إلى المعتقدين بتلك الأديان والمذاهب، مسألة تحتاج إلى بحث وتمحيص.
ذلك أننا نجد في الساحة الفكرية والاجتماعية توجهات متباينة متناقضة، في تحديد النظر إلى الآخر المخالف دينياً أو مذهبياً، تتراوح بين التشدّد المفرط والتسامح المفرط.
ولعل من أسباب ذلك ما يلي:
أولاً: اختلاف الفهم في الموازنة والترجيح بين ما ورد في التراث الديني، من نصوص وآراء، يدفع بعضها باتجاه التشدّد تجاه المخالفين، بينما يشجّع قسم منها على المرونة والتسامح.
ثانياً: دور الظروف الخارجية من حيث موقعية المخالف ونمط العلاقة معه، فحينما يكون المخالف في موقع قوة واقتدار، ولا يمارس بطشاً وعدواناً، فإن ذلك يسهم في تشكيل صورة أفضل عنه، ويلغي مبررات التشددّ تجاهه، وعلى العكس من ذلك لو كان المخالف في موضع حاجة وضعف، أو كان مصدراً للقلق والأذى، فستكون صورته قاتمة كالحة.
ثالثاً: تدخل المشاعر والأحاسيس النفسية الذاتية، حيث تنطلق عند بعض المتدينين روحية الأنانية والاستعلاء، ومشاعر الحقد والانتقام، تحت مبررات دينية مذهبية.
رابعاً: وقد تصبح النظرة إلى الآخر المخالف مجالاً للمزايدات في الساحة الإعلامية والجماهيرية، فمن أجل أن يكرّس هذا الزعيم موقعيته في جمهوره، أو يحصّن هذا المرشد أتباعه ومريديه، يبالغ في تعتيم صورة الآخر المخالف. يقول الدكتور عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الأستاذ المشارك في الحديث وعلومه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ( لعل من أوسع أبواب الخطأ في فهم طبيعة التعامل الشرعي، وفي فهم الأخلاق المتعيّنة على المسلم تجاه الكافرين، الانطلاق من الانفعالات والمواقف الشخصية، وليس من خلال النصوص والأحكام الشرعية، وبالتالي تأتي المفاهيم والكتابات في هذا الموضوع تبعاً لمواقف الأشخاص، وانفعالاتهم، وطبائعهم، وظروفهم. فهي عندئذٍ تختلف باختلاف القوة والضعف، والشّدة واللين، والحماس وضده!.
والواجب أن يكون التعرف على هذا الجانب المهم من الإسلام، من خلال النصوص الشرعية، لا المواقف الشخصية، ولا ما يُمليه واقع العصر.
والواجب أن يكون ذلك من خلال الرجوع إلى النصوص كلها وفهمها وفق منهج سديد.
ومن المؤكد أنّ ما يُعّبر به بعض المسلمين عن إخلاصهم للإسلام تجاه تعاملهم مع الكافرين من تصرفات انفعالية، يعبّرون عن الكراهية والعداء بطريقة لا يُقرّها الإسلام، يظنون أنهم ينصرون بها الإسلام، إنما هي تصرفات لا تغني عن العمل الجادّ لنصرة الدين، ولا تنوب عن خُلق الإسلام وأدبه، ولا تنمُّ عنه، ولا تغني، إنها لا تخدم الإسلام في شيء، إنما هي تشنجاتٌ وردود أفعال مخطئة..[2] .
من هنا تبرز أهمية البحث والدراسة الموضوعية لرؤية الدين في النظر إلى المخالفين. والمقصود بذلك النظر إليهم كأشخاص وأناس، وليس كمعتقدات، لأن المفترض في المسلم إيمانه بصحة معتقداته عن دليل وبرهان، مما يعني لديه عدم صحة ما يخالفها.
التفكير السائد عند أكثر المتدينين أنّ الجنة حكرٌ على أهل دينهم ومذهبهم، أمّا المخالفون لهم فمصيرهم الحتمي نار جهنم، ذلك أن الجنة لا يدخلها إلا أهل الحق، ولا تنجو من النار إلاّ فرقة واحدة، هي الفرقة الناجية، ويرى أهل كل دين أو مذهب أنهم هم أهل الحق والفرقة الناجية، وبقية العالم كلهم في النار.
وهذا ما نقله القرآن الكريم عن اليهود والنصارى يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [3] .
وهناك حديث متداول في أوساط المسلمين هو حديث الفرقة الناجية، حيث يروى عن رسول الله أنه قال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة»[4] .
ورغم تحفظ كثير من العلماء من مختلف المذاهب على سند هذا الحديث، وعلى ضبط متنه، إلاّ أنه متداول، ويشكل مرجعية لدى المتدينين في نظرتهم إلى مخالفيهم في المذهب والاتجاه من المسلمين.
وقد طعن في سند الحديث ابن حزم وابن الوزير والشوكاني وتوسّع الشيخ يوسف القرضاوي في مناقشته ورده سنداً ومتناً[5] .
وقال الشيخ جعفر السبحاني: (إنّ مشكلة اختلاف نصوص الحديث لا تقل إعضالاً عن مشكلة سنده، فقد تطرق إليه الاختلاف من جهات شتى، لا يمكن معه الاعتماد على واحد منها)[6] .
ما يجب التنبّه له أنّ المخالفين لما نعتقده حقاً لا يمكن سوقهم جميعاً بعصى واحدة، فهناك من يتضح له الحق ولكنه يجحد ويكابر، وهناك من لم تتوفر له فرصة التعرّف على الحق والاطلاع عليه، ولو أتيحت له تلك الفرصة، وأزيحت من أمامه الشبهات والحواجز، لما تردد في قبول الحق.
وإذا كان الجاحد المعاند مستحقاً لعذاب الله وغضبه، فإن المستعدّ نفسياً وفكرياً لقبول الحق لو بلغه واتضح لديه، له حساب آخر.
إنّ أشخاصاً كثيرين يعيشون ضمن بيئة مخالفة للدين الحق، ولا تصلهم رسالة الإسلام، فهم قاصرون عن الوصول إلى الحقيقة، وقد لا يكونون مقصّرين، ولديهم قلوب صافية طيبة لا ترفض الحق، وما نسمعه عن دخول أناس جدد إلى الإسلام من أمريكيين وأوروبيين وغيرهم يؤكد هذه الحقيقة.
فمثل هؤلاء الناس غير المعاندين يتسع لهم عفو الله ورحمته وإن كانوا كفاراً، لأن الله تعالى لا يعذب أنساناً قبل إكمال الحجة عليه، يقول تعالى:﴿ َمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾ [7] ويقول تعالى: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾[8] .
وينقل الشيخ المطهري عن "ديكارت" الفيلسوف الفرنسي قوله: إني لا أدعي أنّ المسيحية قطعاً أفضل دين في الأرض، ولكني أقول إنّ المسيحية هي الأفضل بالقياس إلى الأديان التي أعرفها، وقد تناولتها بالبحث والتحقيق، وليس لي أي عداء مع الحقيقة، فقد يكون هناك في أماكن أخرى من الدنيا دين يرجح على المسيحية، إنّه لا علم لي فلعل ديناً ومذهباً يوجد في إيران مثلاً هو أفضل وأحسن من المسيحية.
ويعقب الشيخ المطهري قائلاً: لو كان ديكارت صادقاً في حديثه ومستسلماً للحقيقة بالمقدار الذي يدعيه لنفسه، وقد بحث واستقصى بكل جهوده ولم يصل إلى أكثر مما وصل إليه فهو يعتبر حينئذ مسلماً بالفطرة[9] .
ومما يؤيد ذلك ما ورد عن محمد بن مسلم قال:« كنت عند أبي عبد الله جالساً عن يساره، وزرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال : كافر يا أبا محمد. قال: فشكّ في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: كافر. قال: ثم التفت إلى زرارة فقال : إنما يكفر إذا جحد»[10] .
تتحدث بعض النصوص الواردة عن أهل البيت عن الناس المستضعفين فكرياً، والذين تقصر مداركهم عن إدراك الحقائق، أو أن الظروف الاجتماعية التي يعيشونها تسلب منهم إمكانيات المعرفة ووسائل البحث للوصول إلى الحق، فهؤلاء يتسع لهم عفو الله سبحانه وتعالى، وهم مصداق للمستضعفين الوارد في قولـه تعالى: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [11] .
ويشير الإمام علي إلى صدق عنوان الاستضعاف على من تتعذر عليه وسائل المعرفة بقولـه : «ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»[12] .
وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال حينما سئل عن المستضعفين؟: «إنهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين، وهم المرجون لأمر الله»[13] .
وفي حديث آخر يشير الإمام جعفر الصادق إلى أن تصنيف الناس لا يتحدد بصفة الإيمان أو الكفر، بل إن هناك مجالاً أرحب وأوسع في النظر إلى الناس، فعن الحارث عن أبي عبد الله الصادق قال: «سألته: بين الإيمان والكفر منزلة؟ فقال: نعم، ومنازل لو يجحد شيئاً منها أكبه الله في النار: بينهما ﴿آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ وبينهما ﴿ الْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾وبينهما ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾وبينهما قوله: ﴿ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ »[14] .
وللعلامة الطباطبائي في تفسير الآية الكريمة ﴿ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ... ﴾كلام مهم عميق نقتطف منه ما يلي: وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين، لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب، مع عدم الإستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام، والالتحاق بالمسلمين، لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية، ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلاً، بل لو ظهر عنده حق إتبعه، لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل.
ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له ولا عليه لعدم كسبه أمراً، بل أمره إلى ربه، كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين ﴿ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾وقولـه تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ورحمته سبقت غضبه[15] .
بعض الناس يريدون أن يحجّموا رحمة الله تعالى حسب نفسيتهم المحدودة، ونظرتهم الضيقة، فيحكمون على كل من يخالفهم في الدين أو المذهب بالحرمان من الجنة، والدخول في النار، لكن ما نعرفه من سعة رحمة الله تعالى، وواسع عفوه، يجعلنا أكثر تفاؤلاً تجاه مستقبل هؤلاء الناس، الذين خلقهم الله تعالى ليرحمهم ﴿ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾[16] .
والأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته الكرام تعطي المسلم لو تأملها أُفقاً أرحب، ونظرة أوسع، تجاه الناس.
ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته»[17] .
ومع ورود أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت حول فرض ولايتهم، وأنها شرط لقبول الأعمال ولدخول الجنة، إلا أنهم من جهة أخرى يؤكدون أن المسألة ترتبط بقضية الجحود والعناد، أي أن من اتضحت له حقيقة ولايتهم، وأتيحت له فرصة التعرف على حقهم، ثم أعرض وكابر، فهو مستحق للعذاب والحرمان، أما في غير هذه الصورة فهو مشمول برحمة الله تعالى، كما تتسع له جنته ورضوانه.
يروي الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن علي : «إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منه شيعتنا ومحبّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت»[18] .
وعن زرارة قلت لأبي عبد الله الصادق :« أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته»[19] .
وجاء في حديث أن كامل بن إبراهيم المدني جاء ليسأل الإمام الحسن العسكري أنه هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟ فأجابه ابنه الإمام محمد المهدي مستنكراً قوله: «إذن والله يقلّ داخلها»[20] .
وروي عن الإمام علي : «ما هلك من الأمة إلا الناصبين والمكابرين والجاحدين والمعاندين، فأما من تمسك بالتوحيد، والإقرار بمحمد والإسلام، ولم يخرج من الملة، ولم يظاهر علينا الظلمة، ولم ينصب لنا العداوة، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله»[21] .
لا يمكن المزايدة على الأنبياء والائمة في الاخلاص للدين والحرص عليه، فإذا اردنا الانطلاق من الدين والمبدأ في النظر الى المخالفين لنا في الدين أو المذهب، فعلينا ان نقرأ منهج المعصومين ، وطريقتهم في التعاطي مع الآخرين، ونستلهم منها الموقف الشرعي السليم. ومن خلال الآيات القرآنية والاحاديث والآثار الواردة يمكننا ان نستنتج المفاهيم التالية:
اولاً: كانوا يلتمسون العذر غالباً لأقوامهم بأنهم جاهلون لا يعلمون الحقائق، وفي حالات محدودة جاء التصريح بأن المخالفين ينطلقون من العناد والمكابرة والجحود.
وفي ذلك درس بليغ لنا بأن لا نتسرع في إسائة الظن بالآخرين، وان نتفهم ظروفهم التي تجعلهم غير مطلعين على الحقيقة.
لقد آذى المشركون رسول الله أشد الاذى، ولكنه كان يدعو لهم بالهداية، ويعتذر عنهم بجهلهم. قال القاضي عياض في الشفاء: وروي أنه لما كسرت رباعيته وشجّ وجهه يوم احد، شقّ ذلك على اصحابه شديداً، وقالوا: لو دعوت عليهم؟ فقال : «اني لم أُبعث لعاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة. اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون». ثم قال القاضي: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الاحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، اذ لم يقتصر على السكوت عنهم، حتى عفى عنهم، ثم اشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم، فقال: اللهم اغفر أو اهد، ثم اظهر سبب الشفقة بقوله: (لقومي) ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: (فانهم لا يعلمون)[22] .
واخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله قال: كأني انظر الى النبي يحكي نبياً من الانبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[23] .
ثانياً: النظر الى المخالفين باشفاق ومحبة وحرص على مصلحتهم، وليس من خلال حالة كره او حقد او انتقام، ولو تأملنا الصورة التالية التي ينقلها القرآن الكريم عن مخاطبة النبي شعيب لقومه، وكيف كانت كلماته مفعمة بالحنان والشفقة عليهم، واظهار الحرص والرغبة في انقاذهم من الاخطار والمهالك، يقول تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾… ﴿وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. فِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ [24] .
ثالثاً: الاجتهاد في تبليغ الرسالة، وتوضيح الحقيقة للآخرين المخالفين.
ان كثيراً من المتدينين ممن يرسمون في اذهانهم صورة قاتمة عن الآخرين، ويحكمون عليهم بالنار والعذاب، انما يخلقون بينهم وبين الآخرين حاجزاً نفسياً، يمنعهم من الانفتاح عليهم، والسعي لهدايتهم، وتبيين ما يعتقدونه حقاً لهم. وقد يبررون لانفسهم التقاعس والتقصير في العمل بهذه النظرة السوداء التشاؤمية تجاه الآخرين.