شمس الدين مدرسة في الاجتهاد والجهاد
قرار الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى فهو﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ﴾ وهذا القرار خاضع لإرادته وحكمته وحده تبارك وتعالى. أمّا الاعتبارات الحاصلة عند أبناء البشر في ترجيح وتمني بقاء هذا أو موت ذاك فإنّها لا تعني شيئاً أمام إرادة الله تعالى وحكمته، فحتى أكرم الخلق على الله وأحبهم إليه نبينا الأعظم محمد توفّاه الله في الأجل المحدّد له، ولمّا يتجاوز الثالثة والستين من العمر، مع أهمية وجوده الشريف، وحاجة البشرية إليه، وحساسية وضع الإسلام والدعوة آنذاك.
لذا فإنّنا مع ما نستشعره اليوم من عظيم الحزن والأسى لفقد العالم الفقيه الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والذي غيّبه الموت عنّا ونحن في أمسّ الحاجة إلى عطائه العلمي المتجدد، ومواقفه الحكيمة المتألقة، لا يسعنا إلاّ تفويض الأمر لله تعالى، والرضا بقضائه وقدره، و﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
وما يتوجب علينا هو دراسته كتجربة قيادية رائدة للحركة والإصلاح، والحفاظ على نهجه الرسالي الصادق، واستمرارية مدرسته الفكرية الأصيلة.
لقد كان الفقيد الراحل مدرسة متميزة في الاجتهاد والجهاد، ومنهجاً رائداً في العلم والعمل.
في كل شريحة أو طبقة من المجتمع، كالسياسيين أو التجار أو الأطباء أو المهندسين، هناك أفراد متفوقون متميزون في وسط أقرانهم ونظرائهم، هم الذين يرفعون مستوى أداء الطبقة التي ينتمون إليها، ويدفعون بمسيرتها إلى الأمام.
وإذا كان الشيخ شمس الدين واحداً من علماء لبنان، ومن خريجي الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومن فقهاء الشيعة، وأعلام المسلمين، فإنّه كان من القلة المتميزة ضمن هذه الطبقة.
ففي البعد المعرفي من شخصيته، هناك مكونات صنعت خصوصيته وتميّزه الفكري.
منها: ذكاؤه الوقّاد ونبوغه المبكر، والذي لفت نظر أساتذته إليه كالفقيه السيد علي الفاني (رحمه الله)، أستاذه في دراسة كتاب (المكاسب)- فقه الاقتصاد - والذي كان معجباً كثيراً بقدرته الفائقة على استيعاب المطالب، وأشرف على بحث له في الإجارة وطلب منه طبعه ونشره.
ومنها: تفرغه وعشقه للعلم والمعرفة من حداثة سنه، فقد ولد في النجف الأشرف - العراق سنة 1354هـ
1936م، حين كان أبوه الشيخ عبد الكريم شمس الدين مهاجراً لطلب العلم، وحينما عزم أهله على ترك النجف والعودة إلى لبنان لتأزم وضعهم الاقتصادي، اختار الشيخ شمس الدين البقاء لمواصلة الدراسة وهو في الثانية عشر من عمره، موطناً نفسه على تحمّل عناء الغربة، وضغوط المعيشة القاسية (حيث الفقر- حينذاك - والحاجة إلى حدّ الجوع، وطيّ الليالي والأيام بلا طعام. وحين يتيسر الطعام فهو غالباً طعام بسيط، وحيث النوم بلا وطاء أو بلا غطاء، وحيث الثياب الممزقة المرقعة، ولبس ثياب الصيف في الصيف والشتاء في بعض السنين، ولبس ثياب الشتاء في الشتاء والصيف في سنين أخرى، وحيث الحفاء في شكل الاحتذاء، أو الاحتذاء الشبيه بالحفاء) كما تحدث (رحمه الله) [1] .
ومن تلك المكونات: مواصلة الاهتمام والنشاط العلمي، فقد بدأ رحلته مع العلم وهو دون العاشرة من عمره، واستمر منشغلاً بالدراسة والتدريس، والتفكير والبحث، والكتابة والتأليف، حتى الأيام الأخيرة من حياته، وهو يصارع المرض، ويتلقى جرعات العلاج الصعب في باريس، حيث أخبرني قبل عودته إلى بيروت بأيام في مكالمة تلفونية من باريس: أنه أنجز رسالة فقهية حول الجوار في الإسلام.
لقد مرّت على لبنان سنوات صعبة قاسية أثناء الحرب الأهلية، ومن جرّاء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، والذي امتد في بعض فتراته إلى بيروت، وما رافق ذلك من عدوان وقصف وتخريب مستمر، وعاش الإمام شمس الدين في قلب هذه المحن والعواصف والآلام، وتعرضت حياته للخطر أكثر من مرة، وأحاطت به المشاكل والضغوط، ونالته الاتهامات المغرضة، لكنه لم يترك التواصل العلمي، ولا انقطع عن البحث والتحقيق، في غالب تلك الظروف، ويشير في نهاية بعض أبحاثه العلمية إلى الظروف التي أنجز فيها البحث، كما في خاتمة بحثه القيّم (الاحتكار في الشريعة الإسلامية- بحث فقهي مقارن) حيث كتب يقول: (وقد وقع الفراغ من مسودة هذا البحث في صيغتها هذه.. في بلدة القصيبة من قرى جبل عامل.. يوم 7رمضان 1409هـ 13نيسان1989م والحرب اللبنانية في أوج تفجّرها الرهيب المدّمر…).
وأشار في نهاية بحثه عن أحكام الستر للمرأة قائلاً: (وقد حصل الفراغ من تدوين هذا البحث في الثامن من ربيع الأول 1414هـ -25 آب 1993م ولا نزال في منزل التهجير.. ونحن في بلاء عظيم من غدر الزمان، وخيانة بعض من أطغاه السلطان من أهل السياسة، وبعض من غمرته الدنيا من دجاجلة الدين…).
ويظهر من بعض بحوثه أنه أنجزها خلال رحلاته وزياراته إلى دمشق أو إيران أو مناطق أخرى.
فهو لا يترك اهتماماته العلمية مهما كانت الظروف التي تحيط به، ومع كثرة المهام التي يقوم بها، والأدوار التي يمارسها، من خلال موقعيته القيادية كرئيس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكزعيم ديني سياسي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
ولعل من أهم مكونات شخصيته العلمية: روحية البحث والتحقيق التي توفر عليها، فهو لا يتناول القضايا والمسائل بشكل مرتجل، ولا يطرحها ضمن أسلوب الشعارات واللغة الخطابية، بل يناقش الموضوع الذي يتناوله إلقاءً أو كتابةً بعمق وروية، عائداً به إلى جذوره وخلفيته، مستعرضاً لآثاره ونتائجه، مع استقراء مختلف احتمالات البحث بالدليل والبرهان، ومع توثيق الآراء والشواهد من المصادر المعتمدة لها.
وحينما يجد نفسه في بعض البحوث أمام مسألة علمية لم تتبلور لديه الرؤية حول بعض جوانبها، فإنّه لا يرضى لنفسه التسرع، بل يعلن أنها بحاجة إلى مزيد بحث وتأمل، كما يُلحظ ذلك في عدة مسائل من بحوثه حول الاجتهاد والتقليد وحول الجهاد.
من يقرأ بحوثه الفكرية والفقهية، ويتابع آراءه وطروحاته في الميادين المختلفة، يجد ملامح هامة لمدرسته في الاجتهاد والاستنباط، لعل من أبرزها ما يلي:
1- التوجه للهموم المعاصرة والتحديات التي تواجه الإسلام والأمة. حيث أنّ السائد في أوساط الفقهاء، أن ينشغل من يبلغ رتبة الاجتهاد، ببحث المسائل الأصولية والفقهية، وفق الجدولة المتداولة في الحوزة العلمية، فيبحثون في الأصول مباحث الألفاظ والأصول العملية، وفق منهجية كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني (رحمه الله) (1255هـ 1329هـ)، ويبحثون مسائل الفقه على ضوء كتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي (رحمه الله) (602هـ-676هـ) أو كتاب (العروة الوثقى) للسيد محمد كاظم اليزدي (رحمه الله) (1247هـ-1337هـ) كما هو الغالب.
فموارد البحث وإعمال الملكة الاجتهادية موارد مألوفة يتكرر طرحها، ويقل الجديد فيها. ومع كامل التقدير والاحترام للجهود التي يبذلها الفقهاء الأبرار في هذه البحوث، إلاّ أنّه لابد من الالتفات إلى خطورة التحديات التي تواجه الإسلام والأمة، خاصة في هذا العصر، وعلى مختلف الأصعدة: سياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً.
هذه التحديات تتطلب الاستجابة لها، وإعطاء الرؤية الإسلامية والموقف الشرعي تجاهها.
وإذا لم يتجه الفقهاء لمعالجة المشاكل والقضايا المعاصرة، فإنّ ذلك يفسح المجال للتيارات الوافدة، أو التوجهات المخالفة للإسلام، أن تملأ الفراغ وأن تبسط هيمنتها على أذهان المسلمين وحياتهم.
كما يعني ذلك ضعف الثقة بالإسلام وجدارته بالقيادة والتطبيق في هذا العصر، وقد حصلت مثل هذه الآثار والمضاعفات بالفعل.
وهنا يتألق العطاء العلمي للشيخ شمس الدين، حيث وظّف قدرته الاجتهادية، في استنباط رؤية الإسلام واستكشاف أحكامه الشرعية، في مستجدات المشاكل، والقضايا التي أفرزتها تطورات الحياة، وطبيعة الأوضاع والأحداث التي تعيشها الأمة.
فعلى مستوى التحديات الفكرية: له أكثر من بحث ودراسة في مطارحة الفكر المادي، والنظريات الاجتماعية المنبثقة عنه، منها كتابه (مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني) وكتابه (العلمانية) وكتابه (بين الجاهلية والإسلام).
وعلى الصعيد السياسي: يعتبر من أوائل فقهاء الشيعة المعاصرين في العالم العربي الذين اهتموا بمسألة نظام الحكم في الإسلام، حيث ألّف كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) سنة 1954م أي قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره.
وبعد انتشار الصحوة الإسلامية المباركة، ونمو الحركات الإسلامية المنبثقة عنها في مختلف بلاد المسلمين، وما رافق ذلك من احتدام الصراع بينها وبين العديد من الأنظمة والحكومات، حيث إنجرت بعض الحركات الإسلامية إلى ممارسة العنف، وأمعنت بعض الحكومات في استخدام القمع، وكادت بلاد المسلمين أن تتحول إلى ساحات للاقتتال الداخلي والفتن المدمرة، هنا توجه الإمام شمس الدين لمعالجة هذه القضايا الحسّاسة برؤية علمية، وتأصيل فقهي، ولغة حكيمة، عن طريق الخطابات الجماهيرية والمقابلات عبر وسائل الإعلام، والتخاطب مع النخب في المؤتمرات، والحوار مع القيادات السياسية من حكام وزعماء تنظيمات، كما ألّف كتاباً قيّماً لعله من أهم أبحاثه ودراساته بعنوان (في الاجتماع السياسي الإسلامي). إضافةً إلى مجموعة كبيرة من البحوث المهتمة بالشأن السياسي المعاصر للأمة نشر بعضها في مجلدات كتابه (دراسات ومواقف في الدين والسياسة والمجتمع). ولمركزية قضية المواجهة مع الاحتلال والعدوان الإسرائيلي فقد وجه لها الإمام القسط الأكبر من اهتمامه الفكري والعملي، فطرح العديد من المشاريع للمقاومة والمواجهة وتصدى لخطط التطبيع مع الكيان الغاصب، مستنهضاً الأمة، ومحذراً من المؤامرات ومحاولات الخداع والمكر.
وفي المسألة الاجتماعية: استقطب فكره العديد من التحديات التي تواجه المجتمعات الاسلامية اليوم، ومن أبرزها موضوع المرأة، فهناك أعراف وتقاليد تهمّش دور المرأة في المجتمع، وتقلّص فاعليتها، وفي المقابل ترّوج الحضارة المادية الغربية لأنماطها السلوكية المبتذلة التي تجعل من المرأة مادة إثارة للشهوات والرغبات الجنسية، وبين هذين الاتجاهين كادت أن تضيع في أوساط المسلمين رؤية الاسلام، وأحكامه الشرعية، حول حقوق المرأة، وواجباتها ودورها الاجتماعي.
ولعل الإمام شمس الدين أول فقيه يتصدى لمعالجة المسائل الحساسة والحرجة في موضوع المرأة بهذا الاستيعاب والشمول، فأنجز أربعة أبحاث تحت عنوان (مسائل حرجة في فقه المرأة) تناول الكتاب الأول منها موضوع (الستر والنظر) والثاني (أهلية المرأة لتولي السلطة) والثالث (حقوق الزوجية) والرابع (حق العمل للمرأة).
وللإمام شمس الدين بحوث حول المجتمع والطبقات الاجتماعية في كتابه (دراسات في نهج البلاغة). كما صدر له بحث (حول تنظيم الأسرة) وآخر حول (رسالة الحقوق للإمام زين العابدين).
هكذا كانت اهتماماته العلمية من وحي إدراكه للمسؤولية تجاه الاسلام والأمة، ووعيه بالظروف والمتغيرات التي يعيشها عالم اليوم.
2- الفقيه المنفتح على تطورات الحضارة ومتغيرات الحياة، يدرك أكثر من غيره الحاجة إلى التطوير والتجديد في الفكر والفقه الإسلامي، لكن ذلك يجب أن يكون وفق الضوابط الشرعية وآليات المنهج العلمي، المتفق عليه في الاجتهاد والاستنباط، وإلاّ تحول الأمر إلى خليط من الأهواء والاستحسانات البشرية تُنسب إلى الدين والشرع.
ومن ملامح مدرسة شمس الدين الاجتهادية، تأكيده على ضرورة الالتزام بتأصيل أي فكرة أو موقف يُنسب إلى الدين بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ومن خلال منهج الاستدلال والبرهنة الفقهية العلمية، وهو يدعو الإسلاميين إلى أن لا ينطلقوا في آرائهم ومواقفهم التي ينسبونها للإسلام من وحي الانفعال والعاطفة، أو من أجل تحقيق المكاسب والمصالح الفئوية، بل عليهم أن يتقيدوا بالحدود والضوابط الشرعية.
فالتجديد في نظره ليس حركة خارج الدليل بل داخله.
وليس عملية توفيقية بين المسلّمات ومتطلبات الواقع المعاش، تؤدي إلى بتر تلك المسلّمات عن جذورها، لإيهام تكيّفها مع الواقع، بل يجب أن يكون التجديد إعادة تأصيل وتجذير لتلك المسلّمات بأفق أوسع، ونظرة أكثر عمقاً وشمولية، تلحظ خصوصيات الظرف في ما يناسب ذلك، وتلتزم الإطلاق في غير ذلك، من خلال ضوابط وموازين، وأصول محددة، يعاد على أساسها قراءة الدليل وتحليله، وصياغته، وترتيب آثاره، وفرز العناوين وترتيبها، واستخراج ما هو ثانوي، والتفريق بين المستجدات في كونها مصاديق للعنوان الأولي، أو للعنوان الثانوي، وإخضاع المستجدات لنتائج البحث النظري[2] .
الآن وقد رحل عنّا الشيخ شمس الدين وهو في أوج عطائه العلمي، ونضج تجربته القيادية، فخسرنا بفقده الكثير، حيث كان لا يزال في جدول اهتماماته العلمية العديد من الأبحاث والقضايا الحسّاسة الشائكة، التي ينوي دراستها وإنجازها، فإنّ المطلوب تكريس منهجيته العلمية في ساحة الأمة.
إنّ مشاعر الحزن والأسى لفقده، أو الثناء عليه وتمجيد شخصيته، وإن كان صحيحاً ومطلوباً، لكن ما ينبغي التوجه إليه هو:
أولاً: قراءة ودراسة أفكاره ومواقفه، فهي ثروة هامة وتجربة غنية ناضجة.
ثانياً: التوجه لتأكيد واستمرارية منهجيته العلمية، التي تعنى بهموم العصر، وقضايا الحياة، وتلتزم التأصيل الديني بضوابطه الشرعية الفقهية، وتتسم بالشجاعة والجرأة في التعبير عن الرأي، بحكمة وموضوعية، بعيداً عن الإثارات والمهاترات.
ثالثاً: تخليد آثاره العلمية الفكرية، بنشرها على أوسع نطاق، كمطبوعات وعلى شبكة الإنترنت، وترجمتها إلى اللغات العالمية الحيّة، وكتابة البحوث والدراسات حولها.
رابعاً: الالتفات إلى النماذج العلمائية الواعية المخلصة، ففي ساحة الأمة علماء وفقهاء ينتهجون الخط الرسالي الذي سار عليه الشيخ الفقيد، ويحملون هموم الإسلام والأمة، وهم على قلة عددهم، واشتداد الضغوط عليهم، بحاجة إلى دعم والتفات من قبل الواعين من أبناء الأمة وجماهيرها.
ولا يصح أبداً أن ننتظر فقد العالِم المصلح حتى نكتشف عظمته ونشعر بالحرمان والخسارة لفقده، بل علينا أن ننتفع بوجوده ونستفيد من عطائه ما دام يعيش معنا على قيد الحياة.