الحج والتربية الاجتماعية
أريج مكة، ونسيم المشاعر المقدسة، تهبّ على قلوب المسلمين هذه الأيام، فتنجذب القلوب، وتنشدّ النفوس، إلى هذا النسك الإلهي العظيم، حجّ بيت الله الحرام، ومن يتوفق للحجّ يعيش هذه اللذة المعنوية العظيمة بروحه وجسمه، أمّا من حرمته الظروف فيبقى متعلقاً بقلبه ومشاعره نحو تلك الأجواء المباركة.
ولفريضة الحج أبعادٌ كثيرة تنعكس على مختلف جوانب حياة الإنسان الحاج، والأمة الإسلامية بشكل عام، كما يقول تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [1] .
ولعل من أبرز أبعاد هذه الرحلة العبادية الإيمانية هو البعد الاجتماعي، حيث يتوجه الحجيج لأداء مناسك حجهم على شكل مجموعات وحملات، وذلك هو الأسلوب المتبع من قديم الزمان، ومن شتى المناطق والبلدان.
لأن طبيعة الحج وخاصة لمن يحج لأول مرة، تستلزم صحبة الآخرين، ليساعدوه في معرفة المناسك، وتفصيلات أحكامها، وأماكن وأزمنة أدائها، إضافة إلى أن توفير متطلبات الإقامة والتنقل والمعيشة خلال أيام الحج، وما يكتنفها من زحام في الأماكن المقدسة، تشقّ وتصعب على الحاج بمفرده، وتكون كلفتها عالية، بينما تتهيأ له ضمن الحملة بسهولة ويسر.
لكل ذلك نشأت مؤسسات خاصة تقوم بمهمة نقل الحجاج، وترتيب شؤون سفرهم، وأدائهم لمناسك الحج، ويطلق عليها في مجتمعنا (حملات الحج). ولبحث البعد الاجتماعي في الحج، لابد أن نسلط الأضواء على دور (الحملة) في توفير الأجواء الاجتماعية المناسبة للحاج، والمنسجمة مع الأهداف التربوية والروحية لفريضة الحج العظيمة.
إدارة الحملة هي الجهة المؤسسة لها والمتحملة لأعبائها وتصريف شئونها، ومن أجل أن تكون إدارة صالحة ناجحة ينبغي أن تتوفر على المواصفات التالية:
1- استحضار الهدف المعنوي:
صحيح أن من حق مسؤول الحملة أن ينال مصلحة وكسباً مادياً جراء جهوده وأتعابه، فقد تكون الحملة مصدراً لرزقه، لكنه في نفس الوقت يقوم بعمل خيّر صالح، يستحق عليه الأجر والثواب من قبل الله تعالى.
لما في وجود الحملة من تشجيع وإعانة على أداء عمل ديني عبادي، وما تقتضيه من تقديم الخدمة لأناس مؤمنين، متجهين لطاعة الله تعالى، ومنشغلين بعبادته.
واستحضار صاحب الحملة لهذا الهدف المعنوي، يجعله مستحقاً لثواب الله تعالى ورضاه، كما يشعره بقيمة العمل الذي يؤديه، وأنه ليس مجرد حرفة مهنية مادية، بل هو إلى جانب ذلك عمل عبادي خيري يتقرب به إلى الله تعالى، مما يعطيه اندفاعاً وراحة نفسية، تعينه على مواجهة مشاقّ العمل وصعوباته.
2- الإدارة بين الفردية والجماعية:
مهما كانت كفاءة الشخص وقدراته، فإنه قد لا يحيط بمختلف الأمور، وقد يفوته الانتباه والالتفات إلى بعض القضايا والجوانب، لذلك فإن الإدارة الأفضل، والتخطيط الأنجح، والقرار الأصوب، هو الذي تشارك فيه أكثر من طاقة وكفاءة، ويتم عن طريق فريق منسجم.
إن المؤسسات الناجحة هي التي يديرها مجلس إدارة، وليس شخصاً متفرداً، فينبغي على صاحب كل حملة أن يشكل فريقاً لإدارة حملته، يتناقشون من خلاله ويخططون ويسيّرون الأمور.
ومن يشترك في صنع القرار يصبح أكثر التزاماً واندفاعاً للتنفيذ والتطبيق، وتحمل أعباء القرار ومسؤوليته.
3- توفير الأجواء والوسائل:
على إدارة الحملة أن تجتهد في توفير الأجواء المناسبة، والبرامج والوسائل التي تعين الحجيج على أداء مناسكهم بسهولة ويسر وإتقان، وأن تتهيأ لهم ظروف الراحة والانسجام.
إن التقصير تجاه الحجاج، أو الإخلال بالوظائف المتفق عليها بينهم وبين الإدارة، قد يعكّر أجواء العلاقة بين الطرفين، ويسبب المشاكل والنزاعات، كما قد يحصل في بعض الحملات، فيسيء ذلك إلى سمعة الحملة وصاحبها، ويؤثر على الأجواء السائدة فيها.
4- حسن التعامل:
فالحجيج الذين ينضمون للحملة، عادة ما يكونون من شرائح وفئات مختلفة من المجتمع، ففيهم المرأة والرجل، والكبير والشاب، والتاجر والعامل، والمثقف والجاهل… ولكلٍ عاداته ومزاجه وأخلاقياته، كما أن طبيعة السفر، ووظائف الحج، قد تسبب للبعض شيئاً من التعب الجسمي أو النفسي، فهم جميعاً بحاجة إلى استيعاب ومداراة، وحسن تعامل من قبل إدارة الحملة، لامتصاص المشاكل، ومعالجة ما قد يحدث من إشكاليات.
وفي ذلك أجر كبير، وعون على نجاح الحملة.
وجود إرشاد ديني ضمن الحملة ضروري لسببين:
الأول: أن مناسك الحج بحاجة إلى توضيح وتبيين، خصوصاً لمن يحجون لأول مرة.
الثاني: الاستفادة من فرصة الحج في التوجيه والتوعية والتربية الدينية الشاملة، فأثناء رحلة الحج ينقطع الحاج عن ارتباطاته واهتماماته المادية المختلفة، ويكون متفرغاً من ناحية الوقت، مهيئاً في حالته النفسية لتقبل التوجيه والإرشاد، مما يفسح المجال جيداً للمرشد الديني أن ينمِّي عنده مستوى التدين والوعي، وأن يحدث في نفسه الاهتمام بالقيم والمبادئ، بحيث تصبح رحلة الحج دورة تربوية مكثفة، يتخرج منها الحاج، وهو أكثر وعياً بدينه، وأشد التصاقاً بمبادئه.
إن أغلب الناس لا تتسع أوقاتهم الاعتيادية لبرامج الإرشاد والتوجيه، وقد لا يقبلون عليها، وفرص المرشدين والواعظين في الالتقاء بالناس والتخاطب معهم محدودة ضمن مناسبات معينة، أمّا في الحج فالمجال متاح، والفرصة سانحة، ومرافقة المرشد للناس ومعايشته معهم في الحملة، تجعله أكثر انفتاحاً عليهم، وإدراكاً لحاجاتهم، وتجعلهم أكثر تجاوباً وتفاعلاً مع إرشاده ووعظه.
من هنا فإن رحلة الحج يمكنها أن تقدم زخماً كبيراً للحالة الدينية والتربوية في المجتمع، وذلك بمراعاة النقاط التالية:
1- فريق للإرشاد:
لكي يتمكن الإرشاد الديني في الحملة من استيعاب كل الأفراد، وتوفير المستوى المناسب من التوجيه لهم، لابد وأن يكون هناك عدد كاف من المرشدين يتناسب مع عدد الحجيج، مما يعني وجود فريق للإرشاد، يتقاسمون الأدوار، ويخططون لإنجاز المهام، ويتناقشون في وضع أفضل البرامج للتعليم والتوجيه.
ومع تعدد المرشدين يجب أن تتوفر بينهم حالة التنسيق والتعاون، وأن لا يسمحوا للشيطان بأن يبذر بينهم بذور الحساسية والتعارض، وكأنهم يعيشون وضع تحاسد شخصي، وتنافس مصلحي، أو استقطابات فئوية.
2- القدوة الحسنة:
يتأثر الناس بسلوك المرشد وممارساته أكثر من تأثرهم بكلامه وخطاباته، وعادة ما ينظرون إليه نظرة تقديس واحترام، ومع معاشرتهم له في رحلة الحج، إذا ما رأوه ملتزماً بالقيم الدينية، متصفاً بمكارم الأخلاق، فستزداد ثقتهم به، واستجابتهم لمواعظه، أمّا إذا لاحظوا منه ضعف الالتزام والانضباط، أو سوء المعاملة والأخلاق، فسيسقط اعتباره في أعينهم، وسيفقد مصداقيته لديهم، وقد ينعكس ذلك سلبياً على نظرتهم لصنف المرشدين وعلماء الدين كافة.
3- التوعية والتوجيه الشامل:
صحيح أن المطلوب من المرشد بالدرجة الأولى تعليم وتبيين مناسك الحج، لكنه كصاحب رسالة، وكعالم ديني، عليه أن يتحمل مسؤوليته الشرعية، ما دامت الفرصة متاحة لديه، في الدعوة إلى الله، وبث الوعي، وبذل التوجيه الديني الشامل لاحتياجات من حولـه من الحجيج، عقائدياً، وفقهياً، وأخلاقياً.
إن الحج جزء من منظومة الفرائض الإسلامية، وهو ليس مجرد طقوس وممارسات مقصودة لذاتها، وإنما هو أعمال تستهدف صياغة شخصية الإنسان، على أساس العبودية لله تعالى، وزرع ملكة التقوى في أعماق نفسه. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم عند حديثه عن واجب الهدي في الحج، يقول تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [2] .
فلا بد من تبيين فلسفة الحج، وأغراض مناسكه، ومعالجة النواقص التي يعاني منها الحاج في المجال الفكري والسلوكي، ليكون الحج منعطفاً هاماً في حياته، وليترك تأثيره الروحي على شخصيته.
بالطبع ينبغي اختيار أفضل الأساليب للجذب والتأثير، ومراعاة المشاعر في النصيحة والموعظة، كما هو أدب الإسلام، ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [3] .
إنّ التعنيف والتوبيخ والإحراج، كما قد يفعله البعض من محاسبة الأفراد على أخطائهم في واجبات الوضوء، وأفعال الصلاة والقرائة والأذكار فيها، أمام الآخرين، قد يسبب نفوراً من الإرشاد الديني، ويحدث رد فعل في النفوس، وهو إيذاء وإهانة يحرمها الشارع المقدس.
يفترض في حملة الحج أن تكون أنموذجاً مصغراً للمجتمع الإسلامي، وأن تقدم صورة عن الأجواء والأخلاقيات التي يجب أن تسود بين المؤمنين، ذلك أن أفراد الحملة هم مجموعة من المتدينين المستجيبين لأحكام الدين، وما توجههم للحج وعزمهم على أداء مناسكه، إلا دليل ومؤشر على تدينهم واستجابتهم لأوامر الله تعالى. وهم إذ يجتمعون في الحملة إنما يجمعهم الإشتراك في القيام بعمل عبادي. كما أن طبيعة المناسك تفرض الابتعاد عن النزعات الانانية والعدوانية، وتشعر الحاج بعضويته واندماجه في المجتمع الإسلامي الكبير، عبر ارتداء لباس موّحد تقريباً هو الإحرام، والعيش في زمان ومكان واحد، وتأدية نسك وعمل واحد.
ومن محظورات الإحرام حمل أي نوع من السلاح، حيث لا يجوز للمحرم لبس السلاح، ولا حمله على وجه يعد مسلّحاً، كما يحرم الاقتراب من الشهوات الجنسية، ويحرم الفسوق، وهو يشمل الكذب والسب والمفاخرة التي تعني التباهي بالنسب أو المال أو الجاه أو العلم وما أشبهها، أمام الآخرين للحط من مكانتهم، ويحرم الجدال المشتمل على الحلف بالله تعالى لإثبات أمر أو نفيه، وتفاصيل مسائل محظورات الإحرام مذكورة في كتب المناسك. يقول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [4] .
إن كل ذلك يستلزم أن تسود الحملة أجواء إيمانية إيجابية، تنطلق من تعاليم الإسلام وأخلاقه وآدابه.
ونذكّر هنا ببعض النقاط والملاحظات التي ينبغي أن يتقيّد بها الحاج خلال رحلته العبادية العظيمة:
الحج ليس رحلة ترفيه وتسوّق، وإنما هو في الأصل برنامج عبادي تربوي، يستهدف تحقيق القرب من الله تعالى، ونيل مغفرته ورضاه، فعلى الحاج أن يجعل هذا الهدف المقدس نصب عينيه، فيختار الحملة التي ينضم إليها ليس على أساس خدماتها المادية الرفاهية فقط، وإنما يأخذ بعين الاعتبار برامجها الروحية التربوية.
وعن تقويم الحملة ونقدها ينبغي الالتفات إلى هذا الجانب، بالنظر إلى مستوى اهتمامها على هذا الصعيد.
ومؤسف أن بعض الحجيج يصرفون وقتاً طويلاً في التسوق والتجوال في المجمّعات التجارية، على حساب البرامج الروحية والتوعوية.
إن أيام وساعات إقامة الحاج في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ثمينة وغالية، عليه أن يستثمرها بأقصى حد في تحقيق أهدافه المعنوية السامية، من تحصيل المعارف الدينية، واكتساب الآداب الإسلامية، وأداء السنن والمستحبات من زيارة وطواف وسعي وصلاة ودعاء وتلاوة قرآن. واطلاع على المعالم وآثار التاريخ الإسلامي المجيد.
وليس محظوراً الذهاب إلى الأسواق وأماكن الترفيه، ولكن ضمن حد لا يؤثر على سائر البرامج الروحية الهامة.
يعيش الحاج ضمن الحملة مع مجموعة من إخوانه المؤمنين، والذين قد يكونون من مناطق وأسر ومستويات مختلفة. وعليه أن يهتم بحسن التعامل معهم، وأن يكسب مودتهم ومحبتهم. إن ظروف السفر والتنقل، وطبيعة أعمال الحج التي يكتنفها شيء من التعب والعناء بسبب الزحام، كل ذلك قد يحدث عند بعض الحجيج حالة من التوتر النفسي، فيظهر عليهم الانزعاج والغضب لأتفه الأسباب، وذلك أمر سيئ يجب أن لا يقبله الحاج لنفسه، وعليه أن يتحمّل ما قد يبدر من رفاقه في الحملة، ليساعد على تهدئة نفوسهم، وامتصاص حالات التوتر لديهم.
إن البعض قد تضيق نفوسهم، فيتحاسدون ويتنافسون على امتيازات جزئية بسيطة، كالجلوس على مقاعد معينة من السيارة، أو احتياز أماكن مفضّلة في السكن، أو الحصول على وجبات غذائية ذات مواصفات خاصة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب أن يتسامى عليها الحاج، ويتخلق بالإيثار والتواضع والسماحة.
ومن الأخلاقيات الرائعة التي يؤكد عليها الإسلام في صحبة الآخرين ومرافقتهم وخاصة في السفر، المبادرة للخدمة والعون. فقد روي عن رسول الله أنه قال: « ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه »[5] .
وعنه : « من أعان مؤمناً مسافراً فرج الله عنه ثلاثاً وسبعين كربة »[6] .
ويتحدث الإمام جعفر الصادق عن جده الإمام زين العابدين قائلاً: « كان علي بن الحسين لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدّام الرفقة فيما يحتاجونه إليه »[7] .
وتؤكد رواية أخرى على أهمية الإنسجام بين المسافرين وضرورة المحافظة على أسرار رفقاء السفر، وعدم نشر أخطائهم وكشف عيوبهم فيما بعد بين الناس، وذلك فيما روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: « وأما مروءة السفر، فبذل الزاد، والمزاح في غير ما يسخط الله عز وجل، وقلة الخلاف على من صحبك، وترك الرواية عليهم إذا أنت فارقتهم »[8] .
والملفت للنظر أن الفقهاء والمحدّثين، يذكرون جملة كبيرة من آداب السفر والرفقة والمعاشرة، عند الحديث عن مقدمات الحج وأحكامه، ويتعجب الإنسان من ذلك العدد الهائل من الأحاديث حول الموضوع، مما يؤكد أهمية حسن التعامل والعشرة مع الناس، وخاصة ضمن رحلة الحج العبادية المقدسة.
ففي أحد المصادر الحديثية الهامة التي يعتمد عليها الفقهاء وهو موسوعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) وضمن كتاب الحج خصص 287 باباً، تقع في أكثر من 500 صفحة، وتشتمل على 1415 حديثاً، كلها تدور حول آداب السفر وأحكام العشرة والصحبة[9] .
مما يعني أن على الحاج أن يهتم بحسن تعامله مع رفاقه الحجيج، كما يهتم بأداء مناسك حجه وأحكام عباداته.