المرأة حين تفوق الرجال
لا تزال بعض الأوساط تنظر إلى المرأة وكأنها اقل قيمة من الرجل, وأنها دونه رتبة وفضلاً, لذلك يجب أن يكون الرجل دائماً في المقدمة والأمام, وصاحب الرأي والأمر, وأن تبقى المرأة تابعة خاضعة, لمجرد أنها خلقت أنثى, وكان الرجل ذكراً.
ومن قديم الزمان كانت هناك تصورات وآراء خاطئة، تميّز بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية, بل وتشكك في إنسانيتها, وفي هدفية وجودها، إن كان لذاتها أو من أجل الرجل؟
لكن انبثاق نور الإسلام شكل منعطفاً، ونقلة تاريخية، في مسألة النظر إلى المرأة، وتحديد موقعيتها ومكانتها في المجتمع الإنساني.
حيث أكد الإسلام على وحدة النوع الإنساني, وتساوي شقيه الذكور والإناث في القيمة الإنسانية, وفي مصدر الخلقة وأصل التكوين. يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [1] ويقول تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾[2] . والخطاب للإنسان ذكراً وأنثى بأن الله تعالى قد خلق له من نفس جنسه ونوعه زوجاً تتكامل به حياته. فالرجل زوج المرأة ومن ذات جنسها، والمرأة زوج الرجل ومن نفس نوعه.
وخالقهما واحد وهو الله تعالى، وقد أنشأهما من مصدر واحد وعبر نظام وطريقة واحدة يقول تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ﴾ [3] .
والمرأة كالرجل أوجدها الله تعالى لذاتها، ومن أجل أن تحقق العبودية والخضوع لله تعالى في حياتها، تماماً كما هو هدف وجود الرجل. يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [4] .
وورد عنـه أنـه قـال: «إنما النساء شقائق الرجال» [5] .
وبناءً على أصل المساواة والمشاركة في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة، لا تكون الذكورة ميزة للتفوق والتميز، فالرجل باعتباره رجلاً، ليس أفضل من المرأة لكونها امرأة.
ذلك أن الإسلام أقرّ معايير وقيماً للتفاضل والتمايز بين أبناء البشر، ذكوراً وإناثاً، فمن كان منهم أقرب إلى تلك المعايير، وأكثر إلتزاماً بتلك القيم، فهو الأفضل، رجلاً كان أو امرأة.
ومعايير التفاضل والتمايز في الإسلام ثلاثة:
1- التقوى: وهي تعني الالتزام بمنهج الله تعالى وأمره، فالأوفر حظاً منها، هو الأقرب إلى الله، والأعلى شأناً عنده، من أي عرق كان، وإلى أي قبيلة انتسب، ذكراً كان أو أنثى، يقول تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [6] .
وورد عنه أنه قال: «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى »[7] .
2- العلم: والذي هو ميزة الإنسان عمن سواه من المخلوقات، وبه يعرف ربه، ويدرك ذاته، ويفهم ما حوله، وكل من كان أكثر نصيباً من العلم، أصبح أكثر أهلية وجدارة. يقول تعالى: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [8] . ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [9] .
وروي عن رسول الله أنه قال: « أكثر الناس قيمة أكثرهم علما وأقل الناس قيمة أقلهم علما »[10] .
وورد عن الإمام علي قوله: « قيمة كل امرءٍ ما يحسنه »[11] .
3- العمل: فحركة الإنسان في الاتجاه الصحيح، وإنجازه وفاعليته في طريق الخير، هي التي تحدد موقعيته في الدنيا، ومكانته في الآخرة، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [12] . ويقول تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [13] .
وواضح للمتأمل أن هذه المعايير التي أقرها الإسلام للتمايز والتفاضل، تعبّر عن قيم حقيقية واقعية، فالتقوى والعلم والعمل، كل واحدة منها تفرز نتائج ومعطيات مؤثرة لصالح حياة الفرد والمجتمع.
بينما قد تسود في بعض المجتمعات معايير ومقاييس لا واقعية لها، أو تدفع باتجاه مؤثرات سلبية، كالتفاضل على أساس العرق أو اللغة أو اللون، أو مسابقات اختيار ملكات الجمال، أو لمجرد تسجيل رقم قياسي في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، كتربية أطول شارب، وصنع أكبر فطيرة، أو كعكة، وإنجاز أطول قبلة..
من ناحية أخرى فإن مقاييس التفاضل في الإسلام كلها اختيارية كسبية، يمكن لأي إنسان أن يحصل منها بمقدار سعيه وجهده، وهي ليست كاللون أو العرق أو الشكل، الذي لا دخل للإنسان فيه، وليس هو الذي يختاره، ولو كانت الذكورة من معايير التفاضل عند الله تعالى، كان ذلك خلاف العدل والإنصاف، لأن الإنسان لا يختار ذكورته أو أنوثته، وإنما هي قدر إلهي، فكيف يكون مقياساً لتحصيل الفضل أو الحرمان منه؟
وانطلاقاً من هذه المعايير والقيم الإسلامية فإن الحياة ساحة مفتوحة للسباق والتنافس على الخير، والطريق مشرع أمام الجميع، وبإمكان المرأة كالرجل، أن تشمّر عن ساعد جدها، وتستنهض قدراتها وإمكانياتها، لتحرز أكبر قدر من التفوق، وتحقق أعلى درجة من التقدم، في آفاق العلم والعمل، والالتزام بتقوى الله تعالى.
وليست هناك مساحة في أشواط السباق خاصة بالرجال، محظورة على النساء، لذلك تحدث القرآن الكريم في آيات عديدة عن إتاحة فرص التقدم أمام المرأة كالرجل في مختلف المجالات.
يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [14] .
فكل جهد تبذله المرأة، وكل عطاء تقدمه، يكون موضع الاحترام والتقدير، وعلى أساسه تتحدد موقعيتها ومكانتها.
ويقول تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [15] .
فالعمل الصالح المنبثق من الإيمان والتقوى، هو الذي يمنح درجة التقدم للإنسان في الدنيا والآخرة، ولا تؤثر الذكورة والأنوثة في تقويم مستوى العمل.
ولتأكيد هذه الحقيقة تستعرض الآية الكريمة رقم 35 من سورة الأحزاب، العديد من مجالات الخير، وآفاق التقدم والسمو، مع ذكر المرأة المتصفة بذلك جنباً إلى جنب الرجل، لإثبات حضورها وأهليتها لاقتحام كل الميادين، وإنجاز مختلف المهام، وأنها لا تقصر عن الرجل في استعداداتها وقابلياتها. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [16] .
التسابق في ميدان القيم الفاضلة يعتمد على أمرين: الإرادة وقابلية المعرفة، فبالإرادة تتوفر ملكة التقوى، وتتحقق الإنجازات والمكتسبات، وبالعقل يُنال العلم والمعرفة، والإرادة والعقل منحتان إلهيتان للإنسان لا تختص بالرجال دون النساء، ولا تتفاوت درجتهما بين الصنفين، وإنما يتفاوت أفراد البشر ذكوراً وإناثاُ في مدى استفادتهم واستثمارهم لهاتين النعمتين العظيمتين. وعلى هذا الأساس تتحدد رتبة كل فرد ودرجة تقدمه وتفوقه.
وبإمكان المرأة أن تقطع شوطاً أبعد، وتنال درجة أكبر من الرجل، إذا ما تفوقت عليه في السعي نحو العلم، وبذل الجهد في العمل، وفي الالتزام بتقوى الله تعالى.
فأنوثتها لا تمنعها من التفوق، ولا تعوّق حركة تقدمها، ولا تفرض عليها أن تكون في رتبة تالية، أو في موقع التبعية والانقياد.
وقد يستشهد البعض بنصوص دينية، مفادها أفضلية الرجل ذاتاً على المرأة، وأنها دونه رتبة كقوله تعالى:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [17] .
والآية الكريمة إنما تتحدث عن العلاقة الزوجية، وأن الرجل قوّام بحقوق زوجته عليه، ومسؤول عن رعايتها وحمايتها والإنفاق عليها، وأن له عليها حق الطاعة في حياتهما الزوجية، وفق الضوابط الشرعية، ولا يستفاد من الآية أن كل رجل قوام على كل النساء، ولم يقل أحد من الفقهاء والعلماء بسلطة أي رجل على أي امرأة خارج إطار العلاقة الزوجية، إلا فيما يرتبط بولاية الأب على أبنائه وبناته ضمن تفصيل في مسائله وأحكامه.
وحتى في الحياة الزوجية فقوامة الرجل على امرأته ضمن حدود علاقتهما، ولا شأن له بآرائها وأفكارها، ولا بتصرفاتها المالية، أو مواقفها الاجتماعية وما شابه.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله): (والظاهر من الآية الكريمة أن المراد فيها قوامّية الرجال على النساء في الأسرة فقط، وباعتبار علاقة الزوجية فقط، بحيث لا منافاة بين كون الزوج قيّماً على المرأة باعتباره زوجاً، وتكون قيّمة عليه باعتبار آخر ككونها رئيسة لجمعية خيرية أو سياسية أو نقابية هو عضو فيها.. اللهم إلا أن يُنفى أهليتها لتولي أي مسؤولية على جماعة فيها رجل، فلا تصلح لرئاسة جمعية، بل ينبغي على هذا ألاّ يصح منها أن تستأجر رجلاً أو رجالاً للقيام بعمل يقتضي أن تأمرهم وتنهاهم بشأنه وهذا ما لا يمكن الالتزام به قطعاً ولا نظن أن فقيهاً يلتزم به)[18] .
كذلك فإن الروايات التي تتحدث عن نقص عقل المرأة قياساً إلى الرجل، فإن هناك نقاشاً في سندها، وإن بعضها جاءت مرسلة أو بسند ضعيف، وحتى لو كان سندها صحيحاً فلا يمكن قبولها بظاهرها، لمنافاتها ومخالفتها لسائر النصوص والمبادئ، ولإمكانية تأويلها وفهمها بطريقة أخرى، لا تستوجب الحط من قدر المرأة ومكانتها.
تقدم المرأة في ميدان العلم والفضيلة، وتفوقها على الرجال في ساحة المجد والعظمة، ليس أمراً نظرياً يبحث ضمن دائرة الإمكان والاحتمال، وإنما هو أمر حاصل ومتكرر على مستوى الواقع التاريخي في أكثر من مجتمع، وعلى أكثر من صعيد.
حيث يسجل لنا تاريخ البشرية بإكبار وإعظام، مواقف رائعة لشخصيات نسائية، برزت في مجتمعاتها، وتفوقت بمواصفاتها النبيلة، والتزامها الإيماني، وعطائها العلمي والعملي، على معاصريها من الرجال.
كان فرعون طاغية مستبدا، بل هو رمز وعنوان للطغيان والاستبداد، ادعى الألوهية، ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى ﴾[19] . وخضع له آلاف أو ملايين الرجال والنساء، رهبة من بطشه، أو رغبة في عطائه، لكن امرأة واحدة تحدّت ذلك الطغيان، وتمردت على ذلك الجبروت، إنها زوجته آسيا بنت مزاحم، والتي كانت تعيش تحت هيمنته، لكنها استجابت لدعوة الحق، وآمنت بالله تعالى رباً، وصدقت بموسى نبياً، وقاومت كل ضغوط فرعون وإغراءاته، تخلت عن موقعها كملكة لمصر، وعن كل مظاهر السلطة والترف والرخاء، بل تحملت التعذيب والتنكيل، التزاماً منها بالهدى، وصموداً على الحق، حتى فارقت الحياة شهيدة محتسبة.
إنها امرأة ولكنها أفضل من كل الرجال الخاضعين والخانعين للظلم والاستبداد الفرعوني.. لذلك يقدمها الله تعالى نموذجاً للأجيال المؤمنة رجالاً ونساءً على مر العصور، يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [20] .
ويقدم القرآن الكريم ملكة سبأ (بلقيس) نموذجاً للموقف الحكيم، والتصرف الواعي، في إدارة السلطة والحكم، فحينما تلقت كتاب نبي الله سليمان يدعوها وقومها إلى الله، لم تتساهل في الأمر، ولم تستبد في اتخاذ القرار، بل استدعت أعيان الشعب، ورجالات الدولة، لتستشيرهم في الموقف المناسب ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي﴾ [21] .
وحينما أظهر أكثر رجالات حكمها ميلهم إلى إظهار القوة والرفض تجاه دعوة نبي الله سليمان، على أساس امتلاك القدرة العسكرية الكافية، ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [22] .
أبدت بلقيس موقفاً أكثر حكمة وتعقلاً، بضرورة التعرف أولاً على حقيقة دعوة سليمان، هل أنها مجرد غطاء لأطماع توسعية، ومطامح مادية، أم أن لها مغزى آخر، ثم وعلى أساس تشخيص الواقع يتم اتخاذ القرار المناسب، فاقترحت إرسال هدايا ضخمة إلى سليمان لمعرفة ردود فعله ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [23] .
وكانت النتيجة أن اكتشفت صدق الدعوة الإلهية، فقادت بلادها وقومها إلى حظيرة الإيمان والحق: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [24] .
ولا بأس أن نشير هنا إلى أن القرآن لم يورد في سياق قصة ملكة سبأ أي اعتراض أو تنديد، بتبوئها لموقع الحكم والسلطة، وما ذم قومها لخضوعهم لحكم امرأة. كما أن نتيجة موقفها هو فلاح وصلاح قومها بدخولهم في دين الله، مما يوجب النقاش في معنى الحديث المروي عن رسول الله أنه لما بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة »[25] .
وقد ورد هذا الحديث في بعض المصادر الشيعية ككتاب الخلاف للشيخ الطوسي وتحف العقول للحرّاني، ولكن برواية مرسلة، وبالتالي لا يمكن اعتماده عندهم. أما عند أهل السنة فقد أورده البخاري في صحيحه والنسائي والترمذي وقال عنه الترمذي: (هذا حديث صحيح) كما رواه ابن حنبل في مسنده.
لكن يمكن المناقشة في معنى الحديث ومدلوله، بأنه بقصد الإخبار عن مستقبل الانهيار لمملكة الفرس كما حصل ذلك بالفعل على أيدي المسلمين. ولا يفيد حكماً مطلقاً ونهياً شرعيا.
وللشيخ محمد الغزالي تعليق جميل حول الموضوع نقتطف منه ما يلي:
وقد تأملت في الحديث المروي في الموضوع « خاب قوم ولوا أمرهم امرأة » مع أنه صحيح سنداً ومتناً، ولكن ما معناه؟ عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكية مستبدة مشؤومة، الدين وثني، والأسرة المالكة لا تعرف شورى، وكان في الإمكان وقد انهزمت الجيوش الفارسية، وأخذت مساحة الدولة تتقلص، أن يتولى الأمر قائد عسكري يوقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثاً لفتاة لا تدري شيئاً، فكان ذلك إيذاناً بأن الدولة كلها إلى ذهاب، في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفاً للأوضاع كلها.
إن النبي قرأ على الناس في مكة سورة النمل، وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ، التي قادت قومها إلى الإيمان والفلاح بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي!
إن إنجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة (فكتوريا) وهي الآن بقيادة ملكة، ورئيسة وزراء (تاتشر) وتعد في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي، فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟[26]
بالجد والاجتهاد والعلم والمعرفة فرضت المرأة المسلمة شخصيتها في عصور التاريخ، وكان المجتمع الإسلامي يعترف للمرأة الكفوءة بكفائتها، وما كان الرجال يتوقفون أو يترددون في الرجوع إلى ذات الكفاءة والعلم، بل كانوا يحترمون المرأة العالمة، ويأخذون عنها الحديث والفقه والأدب، وتحتفظ لنا كتب التاريخ والتراجم بسير العديد من العالمات العارفات اللاتي كن يمثلن دوراً مرجعياً في مجتمعاتهن، وكن يعلمن الرجال، ويفضن عليهم من علومهن ومعارفهن.
فقد جاء في ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب صاحبة المقام المشهور الذي يزار في القاهرة، والمولودة بمكة سنة 145هـ ونشأت بالمدينة المنورة، ثم دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق حتى توفيت هناك سنة 208هـ. يقول الأستاذ عبد اللطيف فايد: كانت دارها مزار كبار العلماء في عصرها، يجلسون إليها، ويستمعون منها، ويناقشون مسائل العلم معها.. ومن العلماء الذين لم ينقطعوا عن زيارتها للتزود من علمها إسماعيل بن يحيى المزني، وهو فقيه عالي المعرفة بالدين كثير التلاميذ. ومن العلماء الذين داوموا على التعلم في مجلسها ثوبان بن إبراهيم، المعروف بذي النون المصري، وعثمان بن سعيد المصري، وعبد الله بن عبد الحكم الذي انتهى إليه مجلس الإمام مالك، وكذلك عبد السلام بن سعيد الفقيه المالكي الذي غلب عليه اسم سحنون. ومنهم يوسف بن يحيى البويطي الذي أسند إليه الإمام الشافعي رئاسة حلقته في التدريس.
ويعتبر الإمام الشافعي أكثر العلماء جلوساً إليها وأخذاً عنها في الوقت الذي بلغ فيه من الإمامة في الفقه مكاناً عظيماً، فقد كان يعتبر مجلسه في دارها مجلس تعلم عنها، ومجلسه في مسجد الفسطاط مجلس تعليم للناس. وللإمام أحمد بن حنبل نصيب في الأخذ عن نفيسة (رضي اللَّه عنها) وبهذا تكون نفيسة ذات أثر علمي في فقه عالمين كبيرين من أئمة المسلمين وهما الشافعي وأحمد بن حنبل[27] .
وجاء في ترجمة فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندية، بنت صاحب تحفة الفقهاء، وزوجة علاء الدين الكاساني صاحب بدائع الصنائع، أنها تفقهت بأبيها، وأن الفتوى كانت تخرج من البيت وعليها خطها وخط أبيها، ولما تزوجت بالكاساني صارت الفتوى تخرج من بيتها، وعليها خطها، وخط أبيها، وخط زوجها، وأن زوجها ربما كان يهم في الفتوى فترده إلى الصواب، وتعرّفه الخطأ، فيرجع إلى قولها[28] .
ومن أشهر محدّثات المائة الثانية حفصة بنت سيرين، أخت محمد بن سيرين، كانت من سيدات التابعيات، اشتهرت بالعبادة والفقه والحديث وقراءة القرآن. كان أخوها إذا شكل عليه شيء من القرآن قال: (اذهبوا فاسألوا حفصة كيف تقرأ). روت عن جماعة من الصحابة وكبار التابعين، وروى عنها أخوها محمد، وقتادة، وعاصم الأحول وغيرهم. أثنى عليها إياس بن معاوية فقال: (ما أدركت أحداً أفضّله على حفصة)[29] .
ومن المحدثات البارزات في القرن الخامس كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، قدمت مكة المكرمة وجاورت بها، وكانت عالمة صالحة، قرأ عليها الأئمة كالسمعاني، والخطيب البغدادي، وسمع منها خلق كثير توفيت بمكة سنة 463هـ[30] .
وجاء في ترجمة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد المنحّا (624هـ-716هـ) وأنها كانت تُسمع الناس الحديث بدمشق ثم استقدمت إلى مصر وأخذ عنها جمع من محدثي مصر، وصارت الرحلة إليها من سائر الأقطار للسماع عليها، وبلغ عدد الذين أخذوا عنها وتتلمذوا على يدها أكثر من تسعين عالماً ومحدثاً[31] .
وفي عصرنا الحاضر فإن امرأة قد ضربت الرقم القياسي في عدد الروايات المنشورة، وهي الكاتبة الجنوب إفريقية (كاثلين ليندساي 1903م-1973م) والتي نشرت 904 روايات خلال حياتها التي لم تتجاوز السبعين عاماً [32] .
كما تعتبر الآن الروائية الكاتبة (باربرا كارتلاند) سيدة القصة العاطفية في العالم، حيث تجاوز قراؤها 700 مليون شخص، وهي تكتب يومياً سبعة آلاف كلمة أي فصل كامل وأكثر أحياناً.
عمرها 97 سنة، تصدر قصة جديدة كل أسبوعين، ووصل مجموع قصصها 687 قصة، ادرج اسمها لسنوات في كتاب (غينيس) كأكثر كتاب القصة غزارة في الإنتاج. ترجمت قصصها إلى أربعين لغة من بينها العربية واليابانية والروسية والأردو[33] .
هكذا كانت المرأة سبّاقة في ميادين المعرفة والفضل، وهكذا تثبت المرأة عملياً إمكانية تقدمها وتفوقها على الرجال.