المجتمع وعلماء الدين
يقاس تقدم المجتمع في أي مجال من المجالات بمقدار عدد المتخصصين فيه، والمتصدين له، فكلما كثر عدد الأطباء، كان ذلك مؤشراً على تقدم المستوى الطبي والصحي في المجتمع، وكذلك فإن كثرة الأدباء تنبئ عن ارتفاع المستوى الأدبي، وهكذا في سائر المجالات.
لأن هناك علاقة جدلية بين الأمرين، فلولا وجود اهتمام بذلك المجال، لما توجه إليه عدد كبير من أبناء المجتمع، كما أن كثرة المتوجهين لأي حقل من الحقول تكرّس الاهتمام به وتوّسع رقعته.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر نسبة عدد علماء الدين في البلاد واحداً من أهم مقاييس الحالة الدينية في المجتمع، لأنه يكشف عن مدى اهتمام الناس بالدين، ومدى عمق الحالة الدينية وتجذرها.
وكانت بلادنا (المنطقة الشرقية) فبل حوالي ثلاثة عقود من الزمن تعاني من قلة وجود علماء الدين، وضعف الإقبال على دراسة العلوم الدينية، فأكثر المدن والقرى لم يكن فيها عالم دين واحد، بل كان علماء الدين يعدّون على الأصابع في المنطقة، وأتذكر أن بعض العلماء في الهفوف أو المبرز كان يخصص ليلة في الأسبوع لهذه القرية أو تلك القرية، وفي بعض الأحيان ليلة من كل أسبوعين.
وفي القطيف كان بعض العلماء كالشيخ فرج العمران والشيخ عبد الحميد الخطي رحمهما الله تعالى، يقوم بجولة سنوية على بعض القرى، ويمكث في كل قرية بضعة أيام، لملئ شيء من الفراغ في التوجيه الديني، الذي تعاني منه تلك القرى.
لكن ومع الصحوة الدينية المباركة التي هب نسيمها على عالمنا الإسلامي، وشملت المنطقة بركاتها، أقبل عدد وفير من أبناء المنطقة وشبابها على دراسة العلوم الدينية، في بلادهم، وبالهجرة إلى أماكن الحوزات العلمية.
وبحمد الله تعالى فقد أصبحت بلادنا زاخرة بعدد طيب من العلماء، وطلاب العلوم الدينية، ففي كل مدينة أو قرية هناك مجموعة منهم.
إن مجتمعاتنا اليوم في حاجة ماسّة لتفعيل دور العلماء وطلاب العلوم الدينية، حيث تواجه طوفاناً من الاعلام والمعلومات، والثقافة الموجهة من قبل الحضارة الغربية المادية، بما تحمل من مفاهيم مغايرة، وما تبشر به من قيم وأنماط سلوك مخالفة لقيمنا الإسلامية، وتعاليمنا الدينية. مما يستلزم نشاطاً معرفياً مكثفاً، وجهداً ثقافياً كبيراً، لحفظ الهوية، وحماية القيم.
إن التطورات المتلاحقة في العلم والتكنولوجيا، تثير أمام شبابنا العديد من التساؤلات العقدية والثقافية والأخلاقية، فلا بد من تصدي العلماء العارفين بالدين، والواعين بمشاكل الحياة، للإجابة على هذه التساؤلات والتحديات.
وهذا النشئ الجديد من الفتيان والفتيات، والذي قد لا يتوفر له التوجيه الديني المطلوب ضمن العائلة والأسرة، نظراً لانشغالات الوالدين، وتعدد اهتماماتهما غالباً، أو لمحدودية مستواهما، فإنه بحاجة إلى الاستيعاب والتوعية بقيم الدين وأحكامه، وإلا كان عرضة للضياع والفساد، كما يحدث ذلك بالفعل لقطاع كبير من هذا الجيل.
وفي المجتمع مشاكل وقضايا تحتاج إلى التصدي والمعالجة، والجهة الدينية بما يفترض لديها من وعي وإخـــلاص ونفـــوذ، هي الأقـــدر على تحمــل هـــذه المسؤوليات، والأكثر تفرغاً لها.
فالدور المتوقع من الوسط العلمي الديني هو بث معارف الإسلام، وتوفير التوجيه والتربية لجيل الناشئين، والتصدي لمشاكل المجتمع وقضاياه.
يتساءل البعض من الناس وهم يلحظون وجود عدد من المنخرطين في سلك العلوم الدينية، بزيّهم الخاص، ولباسهم المتميز، عن مدى الدور الذي يقوم به هؤلاء العلماء والطلاب؟ ويبالغون في تحميلهم المسؤوليات، وفي التوقعات المنتظرة منهم.
ومع الإقرار بما تتحمل هذه الفئة الدينية من مهام ومسؤوليات، وما يقع على عاتقها من وظائف وأدوار، لكن ما يغيب الحديث عنه هو التذكير بواجب المجتمع تجاه العلماء والطلاب.
فطالب العلم الديني إنسان متطوع لخدمة العلم والدين، يغامر بمستقبل حياته، حيث لا وظيفة مضمونة، ولا دخل مالي ثابت يعتمد عليه، ولا مؤسسة رسمية ينتمي إليها، وهو يتحمل الغربة والهجرة في طلب العلم، ويتحمل مواجهة التحديات المختلفة، وهو مسؤول عن وضع عائلته وأسرته، مما يجعله في أمس الحاجة إلى الدعم والعون، من أجل تلبية متطلبات الحياة، ليعيش كسائر أبناء مجتمعه من متوسطي الحال، وعلى صعيد أدائه لمهامه الدينية والاجتماعية، فإنه بحاجة إلى مواقف التشجيع والمساندة، ليتمكن من القيام بواجب الدعوة والتبليغ.
فهناك حقوق متقابلة، وواجبات متبادلة، بين العلماء والطلاب من جهة، والمجتمع من جهة أخرى.
وليس صحيحاً أن يطلب العلماء من المجتمع الاحترام والدعم، دون أن يقوموا هم بواجب بذل العلم، ونشر المعرفة، والاهتمام بأمور المجتمع.
كما لا يصح من المجتمع أن يتوقع من العلماء كل تلك الأدوار والمهام، دون أن يقف إلى جانبهم، ويقدم لهم ما يحتاجون من مساعدة وعون.
طالب العلم الديني وقد انتهل من معارف الإسلام، واستوعب قدراً من علومه وتعاليمه، وعاش في رحاب كتاب الله، وسنة رسوله ، وسيرة الأئمة الهداة ، واقترب من حياة العلماء الصالحين، الذين تتلمذ على أيديهم، أو سمع وقرأ عن جهادهم وتضحياتهم، بعد كل هذا يفترض فيه أن يكون مبادراً لتحمل مسئوليته تجاه الدين والمجتمع، يدفعه إلى ذلك خشيته من الله تعالى ﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [1] ورغبته في ثوابه، وإدراكه لمدى التحديات والأخطار التي تحيط بالدين والمجتمع.
وإذا كانت تواجهه بعض المصاعب الحياتية، والعقبات في طريق العمل، فعليه أن يتحلى بالصبر والاستقامة، وأن يحتسب ما يعانيه عند الله تعالى، وأن يستحضر في ذهنه ونفسه ما تحمّله الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحون في سبيل الله، ومن أجل خدمة الدين، فقد تحملوا الجوع والفقر والعناء وألوان الأذى والتنكيل، ولم يثنهم شيء من ذلك عن القيام بواجب الدعوة إلى الله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [2] .
والعلماء ورثة الأنبياء، ونواب الأئمة، وامتداد مسيرة الدعوة.
إن ما يراه طالب العلم في المجتمع من ضعف تجاوب واهتمام، هو نتيجة لقلة التوجيه والتربية الدينية الإيمانية، وذلك يحمّله مسؤولية أكبر في العمل والإصلاح، وقد أثبتت التجارب مدى تأثير التحرك والنشاط الذي يقوم به العلماء والطلاب في تغيير واقع المجتمع، وجعله أكثر تفاعلاً واهتماماً بقضايا الدين، وأكثر اقتراباً والتفافاً حول العلماء.
ذلك أن الناس إذا لاحظوا من العالم الإخلاص والجدّ، وحسن الأخلاق وسعة الصدر، ورأوا آثار توجيهه وتوعيته في أوساط أبنائهم ومجتمعهم، وتصديه لقضاياهم ومشاكلهم، فإنهم سيقبلون عليه، ويلتفون حوله، ويبدون له كل دعم وتأييد.
حينما ندعو المجتمع لتقدير العلماء وطلاب العلوم الدينية، والالتفاف حولهم، والتجاوب معهم، فليس ذلك من أجل أشخاصهم، ولا لتوفير المكاسب الذاتية لهم، وإن كان العلم يستحق الإجلال والتقدير، لكن الهدف المقصود هو استثمار وجودهم، والاستفادة من الدور الذي يقومون به لمصلحة المجتمع.
وقد تكون هناك ملاحظات يبديها بعض الناس تجاه البعض من العلماء وطلاب العلوم الدينية، وتتعلق بالمستوى العلمي والثقافي، حيث يلحظون شيئاً من النقص والقصور لدى بعض الطلاب، وخاصة في مواكبة التطورات الفكرية والعلمية المعاصرة، مما يضعف قدرتهم في التخاطب مع المثقفين، والجيل المتعلم المنفتح على العصر. وملاحظات أخرى ترتبط بسلوكيات وأخلاقيات التعامل، كالتعاطي بطريقة فوقية مع الناس، واستخدام أسلوب الهيمنة والاستبداد دون إتاحة الفرصة للحوار والنقاش، وبالتالي عدم احترام الرأي، وقبول النقد من الآخرين.
ولسنا بصدد ردّ هذه الملاحظات أو رفضها، فأفراد هذه الطبقة ليسوا معصومين، وكأي شريحة من شرائح المجتمع، تتفاوت فيها المستويات، وتكون فيها عناصر غير ملتزمة أو غير لائقة.
تجد هذا الأمر في الأطباء والمهندسين والمعلمين وغيرهم، حيث فيهم المتفوق، ومتوسط المستوى، وضعيف الكفاءة، وفيهم المخلص الأمين، والمتساهل، وسيئ التصرف.
ولكن لا يصح التعميم، وأخذ انطباع عن الكل من خلال عنصر أو أكثر.
من ناحية أخرى فإن بعض الملاحظات يمكن معالجتها بالنصيحة والترشيد، وبعض طلاب العلوم الدينية قد تعوزه الخبرة والنضج، لحداثة تجربته الاجتماعية، فإذا ما أعطي الفرصة الكافية، وقدمت له النصيحة والنقدّ البناء، فسيتجاوز ما يعانيه من ضعف أو نقص.
إن الدراسة العلمية النظرية شيء، والممارسة التطبيقية الاجتماعية شيء آخر، فمهما درس طالب العلم الديني، وحقق من تقدم علمي، فإنه بحاجة إلى فترة من الخبرة والتجربة العلمية، لتنصقل مواهبه، وتتكامل شخصيته.
فإذا ما رأينا نقصاً أو ضعفاً عند أحدهم، فلا يصح أن نلغيه من الحساب، ونسقطه من الاعتبار، بل علينا أن نساعده في تجاوز ضعفه، وتلافي نقصه.
مما يُفخر به في بلادنا، ويستحق الاعتزاز والفخر، بروز مجموعة من الكفاءات والقدرات العلمية الناضجة، خلال هذه الفترة، فيهم العالم الفاضل، والخطيب المتميز، والمفكر العارف، والكاتب القدير، والقيادي المتصدي لأمور المجتمع.
وهذه نعمة كبيرة نشكر الله تعالى عليها، ويجب أن نقابلها بما تستحق من التفاعل والتجاوب، حتى تأخذ هذه الكفاءات مداها في خدمة الدين والوطن.
إن البعض من الناس لا تملأ عينه كفاءات بلده، وينبهر دائماً بمن هم خارج بلده فقط، ويحصل أحيانا أن يُبخس حق بعض الكفاءات لتصنيفات طبقية أو فئوية، فلأنه من أسرة ضعيفة الحال، أو من أتباع المرجع الفلاني، تتجاهل مكانته، ولا تقدّر كفاءته، وهذا ظلم وعدم إنصاف، وحرمان للمجتمع من الاستفادة من طاقات أبنائه. إن الله سبحانه يحذّر وينهى عن بخس الحقوق حيث يقول تعالى: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾[3] وقد تكرر هذا النص ثلاث مرات في القرآن الكريم، في سورة الأعراف آية 85، وسورة هود آية 85، وسورة الشعراء آية 183.
والبخس هو إنقاص الحق، سواء كان حقاً مادياً أو معنوياً، والتعبير بـ﴿ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ يشمل الجانبين المادي والمعنوي لأي إنسان مسلماً كان أو كافراً، ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾
وقد فجعت بلادنا هذه الأيام بفقد كفاءة علمية متميزة، ذات عطاء ونشاط علمي واسع، هو العلامة الشيخ عبد اللطيف الشبيب (رحمه اللَّه)، والذي التحق بالرفيق الأعلى صباح يوم الثلاثاء 25/4/1422هـ، وهو في ريعان شبابه، وربيع عطائه العلمي والاجتماعي، حيث لم يكمل الثامنة والثلاثين من عمره، فولادته بتاريخ 13/5/1384هـ.
هاجر إلى طلب العلم في السابعة عشر من عمره، واتصف بالذكاء والنبوغ، حيث أكمل المقدمات والسطوح، وحضر بحوث الخارج في الفقه والأصول، وكان من أفاضل المدرسين للسطوح العالية، وأصبح ركناً أساسياً للحوزة العلمية في القطيف، حيث درّس فيها رسائل الشيخ الأنصاري، وكفاية الأصول للآخوند الخراساني، وكان يقرّر أبحاث مستمسك العروة الوثقى للسيد الحكيم.
وكان يتقن اللغتين الفارسية والإنكليزية.
وإلى جانب نشاطه العملي، كان له عطاء علمي واسع، حيث كان يؤم الجماعة في بلدته (أم الحمام) من قرى القطيف، ويلقي المحاضرات، ويدير حلقات الدروس الدينية للشباب، ويرعى مجموعة من الأنشطة الثقافية والاجتماعية، كان من آخرها افتتاح موقع على الإنترنت، وسبق للفقيد أن كان مبلغاً في أوساط الجالية الإسلامية في بلجيكا لمدة سنتين، وله كتابات وأبحاث علمية وثقافية مطبوعة ومخطوطة.
حقاً إن وفاته خسارة فادحة، وبرحيله افتقدنا كفاءة واعدة، كانت معقداً لآمال وطموحات كبيرة، ولكنا نسلّم الأمر لله تعالى، راضين بقدره وقضائه، قائلين: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾[4] . سائلين المولى سبحانه أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يحشره مع أوليائه الصالحين، وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان، وأن يخلف على بلادنا بالخلف الصالح.
وإذ نعزّي كافة أبناء المجتمع بهذا المصاب الأليم، لندعوهم إلى الالتفاف حول علمائهم الأعلام، والتجاوب مع الكفاءات الواعية العاملة من أجل خدمة الدين والوطن، حفظ الله الجميع من كل مكروه، وأدام على بلادنا نعمة الأمن والإيمان. والحمد لله رب العالمين.