التقريب ببن أتباع المذاهب

في بادرة طيبة تستحق الشكر والتقدير، خصصت جريدة المدينة صفحتين كاملتين من ملحقها الأسبوعي «الرسالة»، بتاريخ 23 جمادى الأولى 1422هـ لمناقشة مسألة التقريب بين السنة والشيعة، وأشركت في بحث الموضوع علماء ومفكرين أفاضل سنة وشيعة من المملكة وإيران ومصر.



فمن المملكة:


الدكتور الشيخ عبدالله بن بيّة عضو مجمع الفقه الإسلامي في جدة وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبدالعزيز.

الدكتور الشيخ عبدالله العبيد الأمين العام السابق لرابطة العالم الإسلامي عضو مجلس الشورى السعودي حالياً.

الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.

السيد علي الموسى من فضلاء الحوزة العلمية في الأحساء.

ومن إيران:


الشيخ محمد واعظ الخراساني الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران.

الشيخ محمد يزدي رئيس مجلس القضاء الإيراني سابقاً عضو مجلس صيانة الدستور في إيران حالياً.

الشيخ محمد مهدي الآصفي من أساتذة الحوزة العلمية في قم.

ومن مصر:


مفتي الديار المصرية الدكتور نصر فريد واصل.

الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي العالم والداعية المعروف.

الدكتور محمد عمارة المفكر والكاتب المعروف.

وتأتي أهمية هذه البادرة من حساسية هذا الموضوع لدى الوسط الديني في المملكة، لذلك لم تكن الصحافة السعودية تتناول معالجته، إلا من خلال نقل وجهة نظر واحدة. ويبدو أن التطورات والظروف الجديدة هي التي شجعت طرح هذا الموضوع بجرأة علمية، وأسلوب موضوعي، يجمع آراء كل الأطراف، ويعالج المسألة بشفافية ووضوح دون تشنج وتهريج.

وللإنصاف فإن مهرجان الجنادرية قد بادر إلى طرح الموضوع في السنتين الماضيتين، كما أن جريدة الوطن السعودية نشرت بعض المقالات الإيجابية في هذا السياق. ويأتي الآن ملحق جريدة المدينة ليكّرس هذا المنحى الموضوعي من الطرح والمعالجة لهذه المسألة الشائكة: العلاقة بين السنة والشيعة، في لحظة تشتد فيها حاجة الأمة إلى الوحدة، وفي ساحة طالما عانت من الحدة والتشنج المذهبي.

التقريب بين المذاهب أو الاتباع:


قبل خمسين عاماً تبنى عالمان مصلحان من السنة والشيعة موضوع التقريب بين المذاهب الإسلامية، هما الشيخ محمد تقي القمي من إيران، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر آنذاك، وتكونت في القاهرة مؤسسة رائدة في هذا المجال، باسم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقامت بدور تاريخي جيد، لكن نشاطها توقف لأسباب سياسية فيما بعد.. وقبل سنوات قررت القيادة الدينية في إيران تجديد النشاط والتحرك على هذا الصعيد، ضمن مؤسسة بعنوان «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية».

ومن وجهة نظري فإن عنوان التقريب بين المذاهب الإسلامية ليس دقيقاً.

أولاً: لأن المذاهب الإسلامية هي متقاربة في أصولها وفي خطوطها العامة، حيث تتفق جميعاً على مرجعية الكتاب والسنة، وتؤمن باصول مشتركة هي التوحيد والنبوة والمعاد، وتجمع على أركان الإسلام وفرائضه الأساسية، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.

والاختلاف بين المذاهب إنما هو في بعض التفاصيل والفروع، ضن نسبة محدودة وهذا لا يعني التباعد. لكن المشكلة تكمن في ما حدث للامة في عصور تخلفها، من التركيز على نقاط الخلاف المحدودة، وتجاهل مساحات الاتفاق الواسعة.

يقول الدكتور حسين علي محفوظ، وهو عالم باحث من العراق: اطلعت على كتب الفقه وقرأت مسائل الخلاف وهي «4152» مسألة، من مجموع مسائل الفقه الكثيرة، التي تبلغ في بعض كتبه «160000» مسألة، فلم أر مسألة في مذهب، ولم أجد رأياً عند طائفة، إلا قال به جمع من الفقهاء، أو قال بعض جماعة منهم، أو هو المروي عن قوم. ولقد حققت ما انفردت به بعض المذاهب، وما يظن انفرادها به فوجدته «253» مسألة فقط من مسائل الخلاف بين المذاهب لا من مجموع مسائل الفقه.

وإذا قرأنا كتب الفقه والأحكام لوجدناها على منوال واحد تقريباً، بلغة فقهية مشتركة، متقاربة في الألفاظ والاشتقاقات[1] .

فالمذاهب قريبة من بعضها ولا تحتاج إلى تقريب.

ثانياً: قد يثير هذا العنوان مخاوف وهواجس البعض بأن التقريب بين المذاهب يعني التنازلات المتبادلة بينها، والتخلّي عن بعض الآراء والقناعات، حتى تلتقي المذاهب عند نقطة وسط.

وقد أعلن البعض تحفظه على فكرة التقريب بين المذاهب انطلاقاً من هذا الهاجس.

ولا يبدو أن المطلوب من أحد أن يتنازل عن شيء من قناعاته الدينية المبدئية، في مسألة عقدية أو فقهية ضمن صفقة مساومة أو مجاملة.

وبالتالي فإن المذاهب ستبقى على توجهاتها وآرائها واجتهاداتها فماذا يعني التقريب بينها؟

الأصح أن يكون العنوان هو التقريب بين اتباع المذاهب والذين باعد بينهم ضعف الوعي بالدين، وأخلاقيات التعصب والتطرف، ووجود قوى مغرضة منتفعة من الخلاف، وتآمر الأعداء لتمزيق الأمة. ولكأنما عنى الإمام علي بن أبي طالب هذه الحالة بقوله في إحدى خطبه:« وإنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازَرُون ولا تَناصَحُون، ولا تباذَلُون ولا توادُّون »[2] .

ويبدو أن هذا هو المقصود بالتأكيد أي التقريب بين أتباع المذاهب، لكن العنوان لا يعبّر عنه بدقة ووضوح.

مسئولية الخطاب الديني:


لقد تجاوزت الأمة الإسلامية والحمد لله الكثير من أخطار التمزق القومي، والصراعات القطرية، فهي وإن حصلت في بعض الأحيان، إلا أنها ضمن حدود مصلحية، لا أرضية لها في نفوس أبناء الأمة المتشبّعة بقيم الإسلام.

لكن الخطر الأكبر على وحدة الأمة اليوم يتمثل في الخلافات المذهبية الطائفية، لأنها تنطلق من أرضية دينية وفق فهم أصحابها للدين، ولأن لها جذوراً نفسية وتاريخية عميقة.

وهنا يأتي دور الخطاب الديني. فقد يقوم بدور توحيد الصفوف، ورأب الصدع، وتقريب أبناء الأمة إلى بعضهم على اختلاف مذاهبهم، من أجل مواجهة التحديات المشتركة، والأخطار المحدقة بالدين والأمة، وتذكير المسلمين بالأصول الجامعة، والمبادئ الأساسية التي ينطلقون منها.

وذلك إذا كان هذا الخطاب صادراً من جهة واعية مدركة لأهداف الدين ومصالح الأمة.

وقد تؤدي بعض الخطابات الدينية دوراً سيئاً بالتركيز على قضايا الخلاف، و إشغال الأمة عن واقعها بقضايا جانبية، وأحداث تاريخية، وتعبئة جمهورها ضد الآخر المختلف مذهبياً، بإصدار فتاوى التكفير، وبيانات التبديع والتفسيق، وتصنيف المسلمين على أساس طائفي بغيض، والتمييز بين أبناء الوطن الواحد من منطلق الخلاف المذهبي..

لقد عانت الساحة الإسلامية كثيراً من تطرف وتشنج بعض الخطابات الدينية، والتي خلقت جيلاً من المتعصبين المتطرفين، الذين أساءوا لسمعة الإسلام، وأحدثوا الفتن والاضطرابات في مجتمعاتهم، وما يحصل في الجزائر وأفغانستان وباكستان، إنما هو نتاج وثمرة لمثل هذا التوجيه والخطاب المتطرف.

دعوة التقريب وكيف تنجح؟


انطلقت دعوة التقريب من مصر وإيران، وتجاوبت معها العديد من الجهات والقوى الإسلامية من مختلف البلدان، وقطعت شوطاً جيداً باتجاه أهدافها الخيّرة، لكنها لم تحقق بعد النجاح المطلوب، ولم تصل إلى الغاية المرجوة.

وأعتقد أن المملكة العربية السعودية بما تمتلكه من ثقل دولي، ومكانة في العالم الإسلامي، وبما تتمتع به من إمكانات معنوية ومادية، تستطيع أن تقوم بدور كبير فعال، في إنجاح دعوة التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية.

وقد كان للمملكة دور ريادي في لم شمل الدول الإسلامية ضمن منظمة المؤتمر الإسلامي، فعلى أثر محاولات الصهاينة لإحراق المسجد الأقصى بتاريخ 21 أغسطس 1969م، قامت المملكة بجهد كبير للعمل على انعقاد أول مؤتمر قمة إسلامي، تأسست على أساسه منظمة المؤتمر الإسلامي.

واليوم وحيث تشتد غطرسة الصهاينة المعتدين، وتتصاعد وتيرة بطشهم، متجاوزة كل الحدود والتوقعات، وحيث يخوض شعبنا الفلسطيني الصامد معركته المصيرية الخطيرة، ما أحوج الأمة إلى منعطف إيجابي يعزز وحدتها، ويرفع معنويات أبنائها و مجاهديها، ويوجه كل إمكاناتها وجهودها نحو إنقاذ القدس الشريف، وتحرير الأراضي المغتصبة.

وذلك يتحقق بإنجاز هذه الخطوة الوحدوية الكبيرة، لتأمين التضامن بين أبناء الأمة وشعوبها، وطي صفحة الخلاف بين اتباع المذاهب الإسلامية سنة وشيعة، وإغلاق هذا الملف الأسود، خاصة وأن الأبطال الغيارى من أبناء السنة والشيعة يقفون على خط واحد في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فتضحيات وانتصار الشيعة في جنوب لبنان، هو الذي أشعل فتيل الانتفاضة المباركة في فلسطين.

وكما كان للمملكة دور ريادي في جمع رؤساء الدول الإسلامية، فإنها مؤهلة للقيام بدور وحدوي جديد لجمع قيادات المذاهب، على أساس هدي الكتاب والسنة.

ونأمل أن تكون ندوات الجنادرية حول التقريب بين المذاهب الإسلامية، وما تنشره الصحافة السعودية من كتابات وتحقيقات في هذا الاتجاه، إرهاصات للقيام بهذا الدور الخطير.

اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحّد صفوفهم، وأصلح ولاة أمورهم، وأنصرهم على أعدائهم الصهاينة المعتدين. وأقر أعيننا بتحرير فلسطين والصلاة في المسجد الأقصى إنك على كل شيء قدير.

 

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 5 جمادى الأخر 1422هـ
[1]  جواد: غانم/ نحو ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية/ جريدة الحياة 4 شعبان 1421هـ.
[2]  الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة- خطبة رقم113.