التعليم ومسؤولية العائلة
لا تنتهي مسؤولية العائلة عند حدود التنشئة الجسدية للولد، بتوفير احتياجاته الغذائية والصحية، بل إنها معنية أيضاً بتنمية قدراته العقلية، ومداركه المعرفية، وبتوجيه صفاته النفسية، وسلوكه الاجتماعي.
من هنا تؤكد النصوص الدينية على مسؤولية العائلة عن تعليم أبنائها، وأن ذلك حق من حقوق الأبناء، على الآباء.
جاء في الحديث عن أبي رافع عن رسول اللَّه أنه قال: «حق الولد على والده: أن يعلمه الكتابة، والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيّبا»[1] .
وفي حديث آخر عن أبي هريرة عنه : «حق الولـــد على والده: أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب»[2] .
ومن قديم الزمان كان الحريصون على مستقبل أبنائهم، يهتمون بتوفير فرص التعلم لهم، ويبحثون لهم عن المعلّمين، وينفقون على ذلك ما يلزم من التكاليف والمكافآت.
وفي حالات متقدمة لدى بعض المجتمعات كان يُبذل جهد أهلي من قبل الجهات الدينية وأصحاب الخير لإقامة مدارس التعليم، حيث لم تكن الدولة تتحمل مسؤولية التعليم. ومع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وبعد أن نشأت الدولة الحديثة في الغرب أصبح التعليم من وظائف الدولة تجاه المواطنين، وتدريجياً ساد هذا النظام في العالم، وأصبح لكل حكومة وزارة أو أكثر مكلفة بشؤون التعليم، وميزانية مخصصة لذلك.
وصار يقاس تقدم الدول، ومستوى التنمية البشرية فيها بمقدار اهتمامها بالقضية التعليمية، كواحد من أهم المؤشرات والمقاييس.
وإذا كان التعليم في الماضي يعتبر إضافة تكميلية لشخصية الإنسان، ووسيلة لتقدمه وتفوقه، فإنه في العصر الحاضر أصبح مقوماً أساسياً لحياة الإنسان، وطريقاً يكاد يكون وحيداً لبناء مستقبله.
فالإنسان في الماضي كان يمكنه العيش أميّاً، وكان يجد فرص العمل المعتمد على قواه العضلية دون مستوى دراسي، وكان يستطيع إدارة شؤونه وترتيب حياته وإن لم يمتلك شهادة علمية، لكن واقع الحياة اليوم مختلف تماماً عن الماضي، كما هو واضح ومعلوم.
إذ لا مكان في حياة هذا العصر لغير المتعلم، بل ولا لغير المتقدم في التعليم. وذلك يضاعف من مسؤولية العائلة تجاه تعليم الأبناء، فأي تساهل أو تفريط يعني ضياع مستقبلهم، بينما تمكنهم الرعاية والاهتمام التعليمي من شق طريق الحياة بقدرة ونجاح.
باعتبار أن الدولة تتحمل مسؤولية التعليم، وأن المدارس الحكومية تستوعب الطلاب والطالبات، فإن الكثيرين من الآباء يرون أنفسهم غير معنيين بتعليم أبنائهم، ويلقون بكامل المسؤولية والعبء على المدرسة.
وصحيح أن المدرسة بما تتوفر لها من إمكانات، وباحتضانها للطالب والطالبة فترة طويلة من الوقت، فإنها تستطيع القيام بالدور الرئيس في العملية التعليمية، لكن ذلك لا يعفي العائلة من تحمّل المسؤولية، ولا يغني عن دورها في الرعاية والاهتمام.
ومع بدء هذا العام الدراسي الجديد نشير إلى بعض الملاحظات والنقاط حول مسؤولية العائلة في مجال الدراسة والتعليم.
العائلة الواعية هي التي تعتبر نفسها جهة المسؤولية أولاً وبالذات عن تعليم أبنائها، وأن تكون هي الاحرص على نجاحهم، والأكثر رعاية ومتابعة لهم. لأنها مخاطبة من الناحية الدينية بتحمل هذا الواجب، ولأن حبها لأبنائها وحرصها على مصلحتهم يجب أن يدفعها للاهتمام بتعليمهم، ولأنها التي ستجني ثمار نجاحهم أو تدفع ثمن إخفاقهم.
يقول الإمام زين العابدين : «وحق ولدك أن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه»[3] .
إن توفر فرص التعليم في المدارس الحكومية يساعد العائلة على تحمّل هذه المسؤولية تجاه الأولاد، ويرفع عن كاهلها الجزء الأكبر من الأعباء، لكنها يجب أن تدرك دورها الأساس في إنجاز هذه المهمة. وإذا ما انعدمت فرصة التعليم الرسمي أمام الولد أو البنت في أي مرحلة من المراحل، أو تضاءل مستواها، فإن العائلة ينبغي أن تتحمل مسئوليتها، بأقصى ما تستطيع من جهد، لتأمين فرصة دراسية مناسبة عبر التعليم الخاص، والابتعاث إلى الخارج.
وهذا ما تقوم به الآن بعض العوائل المتمكنة والمهتمة بمستقبل أبنائها، لذلك انتشرت المدارس الأهلية، ونأمل أن يتاح المجال لتأسيس كليات وجامعات أهلية، لتساعد في معالجة هذا المشكل الكبير الذي يواجه الكثيرين من المتخرجين والمتخرجات، من مرحلة الثانوية، حيث لم تعد طاقة الجامعات الفعلية في البلاد قادرة على استيعابهم، أو تلبية رغبة الطامحين منهم في بعض التخصصات كالطب.
وبعض العوائل قد تستطيع الإنفاق على تعليم أبنائها أو ابتعاثهم للدراسات العليا، لكنها لا تعتبر ذلك من أولوياتها، بينما تنفق الكثير من المال على كماليات الحياة ومجالات الترف. وتكتفي بإلقاء اللوم على الأوضاع والظروف.
إن الاهتمام بتعليم الأبناء، والإنفاق على ذلك، هو من أهم الأولويات، وأفضل المصارف، وهو الاستثمار الصحيح، والادخار النافع.
من الطبيعي أن لا يدرك أكثر الأبناء في فترة الطفولة والمراهقة أهمية الدراسة والتعليم، وأن ينشغلوا باللعب واللهو على حساب برامجهم الدراسية، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل الترفيه والجذب، وأساليب الاستقطاب، وإثارة رغبات الشباب والمراهقين، من برامج تليفزيونية، وقنوات بث مباشر، وأجهزة كومبيوتر، وشبكة إنترنت، ومجالات الألعاب الرياضية.. وما أشبه. وارتفعت ثقة الشباب في أنفسهم، وإصرارهم على تحقيق رغباتهم، وتكونت لهم تجمعاتهم وشللهم الخاصة، في هذا الوضع تحتاج العائلة إلى بذل جهود مكثفة لتشجيع الأبناء والبنات على الاهتمام بدراستهم، والاجتهاد فيها.
وذلك عبر التحادث مع الأبناء وتوجيههم بأسلوب تربوي حكيم، يوضح لهم ما ينتظرهم من مسؤوليات مستقبلية، وما سيواجههم من تحديات الحياة، ويدفعهم للمواظبة والجد والاجتهاد.
كما أن إشعار الولد بالتقدير، وتقديم المكافآت المادية والمعنوية له، عندما يظهر التزاماً أو يحقق نجاحاً، تعتبر من أقوى الحوافز على اهتمامه الدراسي.
أما استخدام أسلوب الأمر والنهي فقط، أو ممارسة التعنيف والزجر دائماً، دون بذل جهد للإقناع، ودون وجود انفتاح مع الولد للتعرف على ما يدور في نفسه وذهنه، فذلك منهج خاطئ وأسلوب غير مجدي.
إن شعور الولد باهتمام أهله بتعليمه، ومتابعتهم لشؤونه الدراسية، يشكل دافعاً وحافزاً له نحو الاهتمام والاجتهاد.
ومشكلة بعض العوائل إهمال المتابعة لأوضاع أبنائهم الدراسية، بسبب انشغال الآباء والأمهات، أو لضعف وعيهم وإدراكهم للمسؤولية التربوية، أو لوجود مشاكل في العائلة، يدفع الأبناء ثمنها. ونسمع عن بعض الآباء أنه قد لا يعرف في أي مستوى يدرس ابنه، أو في أي مدرسة يتلقى تعليمه. ولا بد هنا من الإشادة بدور كثير من الأمهات اللاتي يبذلن جهوداً كبيرة في متابعة دراسة أبنائهن وبناتهن، إضافة إلى ما يتحملن من شؤون المنزل، ومهام الوظيفة في بعض الأحيان، أجزل الله لهن الأجر والثواب، وأقر أعينهن بصلاح أبنائهن إن شاء الله.
الأجواء التي يعيشها الولد في البيت تؤثر وتنعكس إلى حد كبير على وضعه الدراسي، فالانسجام داخل العائلة، وتبادل الاحترام والتقدير، وجدّية الوالدين، وتنظيم ظروف الحياة، كل ذلك يساعد الولد على الالتزام والاهتمام الدراسي.
بينما المشاكل العائلية، وسوء العلاقة بينه وبين الأهل، أو لا مبالاة الوالدين وتسيّب شخصيتهما، أو الفوضى في أوضاع المنزل، كعادة السهر وتأخر وقت النوم، وعدم انتظام الوجبات، وتهيئة وسائل الراحة.. كل هذه الأمور قد تسبب في ضعف الاهتمام والجدّية الدراسية عند الولد.
لكي تحقق العملية التربوية غرضها بنجاح، ولكي يستفيد الولد من فترة دراسته وينجز أهدافها، لا بد من تعاون وثيق، وتكامل في الأدوار، بين العائلة والمدرسة. ويتم ذلك عبر النقاط التالية:
1. متابعة سير الولد في المدرسة: بمعرفة مدى مواظبته على الحضور، والتزامه بأداء الواجبات، واستيعابه للمواد الدراسية، وعلاقته مع إدارة المدرسة والمدرسين وزملائه الطلاب.
وتستطيع العائلة معرفة كل ذلك بالتحادث مع الولد وتفقد أموره، وبالتواصل مع المدرسة، ففي كل مدرسة هناك مرشد طلابي معني برصد أوضاع الطلاب، كما ترحب الإدارة بأي تواصل من أولياء أمور الطلاب، وتضع برامج لذلك التواصل عبر تقارير المستوى الشهري وغيره.
2. مراقبة العملية التعليمية: حينما تنفق الدولة ميزانية ضخمة على التعليم، وتعيّن جهازاً كبيراً من الموظفين لتسيير أموره، فإنها تستهدف إنجاز العملية التعليمية على خير وجه. وواجب كل مواطن واع المساعدة على تحقيق هذا الهدف، وخاصة أولياء أمور الطلاب، بأن يهتموا بالإطلاع على مناهج التعليم، ويبدون تجاهها آراءهم ومقترحاتهم، وكذلك أنظمة التعليم، وأن يراقبوا سير الإدارة والتدريس في مدارس أبنائهم وبناتهم، فإذا ما وجدوا خللاً أو نقصاً، فعليهم المبادرة إلى التحرك والعمل من أجل معالجته وإصلاحه.
فقد يعاني بعض الطلاب من نقص أو مشكلة في مدرسته أو مع معلميه، ولا يعرف كيف يتصرف تجاه ذلك، فإما أن يستسلم ويسكت على الخطأ، أو يتصرف بشكل خاطئ تجاهه، وواجب الآباء التدخل لمعالجة مثل هذه الأمور، والسبل متاحة، وأبوابها مشرعة، بالتخاطب مع الجهات المعنية في المدرسة، أو الإدارة المرتبطة بها، أو حتى الجهات العليا إن استلزم الأمر. وقد أصبح المجال متاحاً لمناقشة أي رأي أو فكرة أو ملاحظة ترتبط بالعملية التعليمية حتى عبر وسائل الإعلام والصحافة.
ومن حسن الحظ صدور مجلة شهرية قيّمة من قبل وزارة المعارف بعنوان (المعرفة) تهتم بمناقشة قضايا التعليم بموضوعية وانفتاح.
إنه لا يصح السكوت على النواقص والأخطاء، ولا ينبغي الاكتفاء باجترار المشاكل والسلبيات في المجالس الخاصة، بل المطلوب استكشاف الطرق والسبل لمعالجة أي نقص أو مشكل، من أجل مصلحة المجتمع والوطن.
3. التعاون مع المدرسة: المدرسة هي المكان الذي يقضي فيه الولد أكثر فترة من الوقت خارج منزله، وهي الجهة التي تمتلك أكبر تأثير على الولد بعد عائلته، وهي طريقه للنجاح والتقدم في الحياة.
لذا فعلى العائلة أن تهتم بمدرسة ابنها كما تهتم بالمنزل، وأن تساعد المدرسة على القيام بدورها ومهمتها، والتي تصب في مصلحة الولد بالنتيجة.
إن التبرع والدعم المالي من قبل الأهالي لمؤسسات التعليم، هو مؤشر على إدراك الأهالي لمسئوليتهم تجاه التعليم وتجاه أبنائهم، فيجب أن نجعل من مدارس أبنائنا أماكن جميلة مريحة تتوفر فيها كل الوسائل والمستلزمات. وصحيح أن هناك ميزانية من الدولة للتعليم، وأن الوزارة يجب أن تتحمل مسئوليتها في هذا المجال، لكننا أيضاً معنيون براحة أبنائنا ومصلحتهم، وليس حراماً ولا عيباً أن يتبرع المواطن ويسهم فيما يخدم البلاد والمجتمع، وإن لم يكن ذلك مطلوباً منه ومفروضاً عليه.
يحدث في بعض الأحيان مثلاً: أن يصاب جهاز التكييف في أحد الفصول بخلل فني، ويكون إصلاحه أو استبداله عبر القنوات الإدارية يحتاج إلى وقت طويل، ويبقى الأولاد أو البنات يعانون من الحر الشديد طيلة فترة الانتظار لإصلاح الخلل، بينما لو بادر أهاليهم أو بعضهم بشيء من العطاء، لوفروا على أبنائهم الكثير من التعب والعناء.. وأمثال ذلك من الحالات..
من جانب آخر فإن الدعم المعنوي من قبل الأهالي لإدارة المدرسة ومدرسيها، بالتواصل معهم، وتقدير جهودهم وعطائهم، وبالتنسيق معهم لمتابعة مستوى الطالب ورفع كفاءته ومعالجة بعض ما قد يحصل من إشكاليات.. كل ذلك يعود بالنفع والفائدة على الأبناء ويخدم مسيرتهم العلمية.
وما يقوله بعض الآباء من أن هؤلاء موظفون يقومون بدورهم الوظيفي مقابل راتب من الدولة، فيه الكثير من التنكر والتجاهل لما يقوم به المدرسون من دور مهم خطير تجاه أبنائنا وبناتنا. والدافع الوظيفي لا يكفي وحده غالباً للإخلاص والاجتهاد في إنجاز هذه المهمة الحساسة، فينبغي تحفيز الدوافع المعنوية لدى المعلّمين، وتواصل الأهالي واحترامهم، هو من محفزات العطاء الأكثر، والاهتمام الأكبر، لدى الإدارة والمعلمين في المدرسة.
كما يُشعر المقصّرين منهم بالإحراج وإعادة النظر في ضعف مستوى أدائهم، ما داموا تحت المجهر، وعلى صلة بأولياء الأمور.
إن وجود مجالس الآباء والمعلمين في المدارس يشكل إطاراً جيداً لتوثيق التواصل بين العائلة والمدرسة، إذا ما تفاعل الأهالي بحضورهم وعطائهم واهتمامهم بهذه المجالس.
تلك كانت بعض الملاحظات المتواضعة أقدمها بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد، أسأل الله تعالى لطلابنا وطالباتنا التوفيق والنجاح، وأن يجعلهم من أهل الصلاح والإصلاح.