المرأة إذ تطالب بحقوقها «1»

غالباً ما يكون اختلال موازين القوة بين الناس سبباً لحدوث العدوان والظلم ، فالأقوياء يدفعهم غرورهم وطمعهم للاعتداء على الضعفاء .

لذلك تجتهد الشرائع والأنظمة في خلق قوة قانونية تنتصر للضعيف وتحمي حقوقه من بطش القوي.

لكن قوة القانون هذه على فرض وجودها لا تتحرك ذاتياً وبشكل آلي، لحماية أي حق ينتهك، بل تحتاج إلى اثارة واستنهاض، يضعها في موقع الحاجة لدورها.

وهنا يأتي دور المستضعف نفسه في أن يكون واعياً بحقوقه، مطالباً بها، مناضلاً من أجل حمايتها.

إن الكثيرين من الناس يجهلون ما لهم من حقوق بحسب إنسانيتهم، أو بحسب الموقع الذي يعيشونه في محيطهم، وهذا الجهل هو أرضية سكوتهم على الظلم، وتكيفّهم مع ما يقع عليهم من عدوان مادي أو معنوي.

وقسم من الناس يدركون حقوقهم، ويتألمون لمصادرتها أو الانتقاص منها، لكنهم لا يجرأون على المطالبة بها أو الدفاع عنها.

تربية الإسلام:


والإسلام الذي جاء لإعزاز الإنسان وإسعاده، ورفع شعار تكريمه وتبجيله، اعتمد منهجية البناء الذاتي للإنسان على أساس الوعي بمكانته وحقوقه، والثقة بالنفس في الدفاع عن مصالحه ومكاسبه.

وما آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الإنسان كخليفة لله في الأرض، وكسيّد سخر الله تعالى له ما في الكون والحياة، وكمخلوق مميز في قدراته وطاقاته، وكملك نافذ الأمر تتحقق له كل رغباته وشهواته في الجنة حينما يدخلها. ما هذه الآيات إلا تأسيس لوعي الإنسان بذاته، وإدراكه لقيمته ودوره.

ثم إن التشريعات الإسلامية، والتي ينبغي أن يفقهها الإنسان، ما هي إلا برامج وأحكام، تحدّد ما له وما عليه، وتبصّره بواجباته وحقوقه، وتضع الحدود والضوابط لردع أي ظلم أو اعتداء عليه.

ولا تقف منهجية الإسلام عند حد توعية الإنسان بذاته، وتشريع القوانين الحامية لحقوقه، بل توجهه التعاليم الإسلامية إلى ضرورة تمسكه بحقوقه، وحفاظه عليها، ودفاعه دونها.

فمن الصفات التي يركز عليها القرآن للمؤمنين أنهم ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون[1] .

وفي آية أخرى، يشيد القرآن الكريم بانتصار المؤمنين لحقوقهم، ودفعهم الظلم عن أنفسهم، يقول تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا[2] .

وعبر فقرات الدعاء والمناجاة يغرس الإمام زين العابدين علي بن الحسين في نفسية الإنسان المؤمن وذهنيته طموح الكرامة والعزة، وامتلاك القدرة والجرأة، للدفاع عن الذات والحقوق، يقول في دعاء مكارم الأخلاق: «اللـهم صل على مـحمد وآله، واجعل لـي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كابدني، وقدرة على من اضطهدني، وتكذيباً لمن قصبني، وسلامة ممن توعدني»[3] .

وحينما يشجع الإسلام الإنسان على المطالبة بحقوقه والدفاع عنها، وعدم السكوت على الظلم والعدوان، فإنه يستهدف عدم إتاحة الفرصة للظالمين المعتدين، والذين إذا لم يُواجهوا ويُردعوا فسيستمرون في ممارساتهم العدوانية.

أما الدعوة إلى الصفح والعفو والتسامح فهي أخلاقيات يأمر بها الإسلام ويشجّع عليها، لكنها لا تعني السكوت عن الحق، ولا الخنوع للباطل والظلم، ومورد استخدامها هو مع الأنداد والضعفاء، وليس أمام المعتدين الأقوياء، والعفو إنما يصدق عند القدرة على أخذ الحق.

استضعاف المرأة:


المرأة شقيقة الرجل، وشريكته في الحياة من بدايتها، ولا يستغني عنها كما لا تستغني عنه، فوجود أحدهما يعتمد على وجود الآخر، لأن التكاثر واستمرار النسل البشري يحتاج إلى كليهما، وإدارة شؤون الحياة وقضايا العيش لا تنتظم دون تكاملهما.

لكن حكمة الحياة اقتضت أن تظهر في الرجل حالة القوة والخشونة، وأن تتجلى في المرأة حالة العطف والحنان، هذا العطف والحنان الذي يحتاج إليه الرجل حين يكون جنيناً في أحشاء المرأة، ورضيعاً على صدرها، ووليداً في حجرها، وزوجاً تبذل له حبها..

وكان يجب أن يقدّر الرجل دائماً للمرأة هذا الدور العظيم، لكنه بدلاً من ذلك غالباً ما يستضعفها، ويستغل طبيعتها اللينة الطيبة، ويتعامل معها من موقع قوة مهيمنة، حدث ذلك في ماضي الزمان ولا زال مستمراً إلى حاضره، فقد كانت إنسانية المرأة يوماً ما محل نقاش وجدال، بين الفلاسفة الرجال: هل أنها روح أم لا؟ وهل روحها إنسانية أم لا؟ وعلى فرض إنسانيتها هل هي كالرجل؟ وهل خلقت لذاتها أم لخدمة الرجل وإمتاعه؟

وكان يتعامل معها في بعض الأزمان الغابرة كرقيق يباع ويُشرى، أو كسلعة تقتنى وتمتلك، ويُنظر إليها كمصدر للشرور والخطيئات، وفي بعض الأحيان كان يُستكثر عليها الحق في الحياة والوجود، فتوءد وتدفن حيّة، كما يُنقل ذلك عن عرب الجاهلية مثلاً، وأشار إليه القرآن الكريم بقولـه:﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[4] .

في ظل الإسلام:


ومع أن الإسلام أعاد للمرأة اعتبارها، وأقر لها بدورها المميّز، وشأنها العظيم، وحرّم أي تنكر أو تجاهل لحقوقها ومكانتها، وأعلن على لسان النبي محمد أن الجنة على عظمتها وخطرها هي تحت قدم المرأة الأم. فقد روى أنس عنه أنه قال: «الجنة تحت أقـدام الأمهات»[5]  وفي حديث آخر عنه : «الزمها فإن عند رجليها الجنة»[6] .

وعاشت المرأة في ظل الإسلام واقع العزة والكرامة، لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث عادت رواسب الجاهلية وبقايا آثارها إلى الظهور، وصار يُُنظر إلى المرأة نظرة دونية، وكأنها إنسان من الدرجة الثانية، وتعرضت حقوقها للامتهان والانتهاك، وأسوأ ما في الأمر هو تبرير وتسويغ ذلك الظلم والعدوان من الناحية الدينية الشرعية، باختلاق نصوص موضوعة على لسان الشرع تارة، وبتحريف مقصد بعض النصوص تارة أخرى. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ[7] .

المرأة المعاصرة:


رغم أن المرأة المعاصرة قد حققت تقدماً جيداً في اكتساب بعض حقوقها، في العديد من المجتمعات، وأصبحت تشارك في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم، إلا أنها من ناحية أخرى تعيش معاناة الاستغلال لأنوثتها، والتسليع لجمالها، وعادت في ظل الحضارة المادية فريسة سهلة لشهوات الرجل، وأداة لإمتاعه ولذته، تقام لها أسواق النخاسة تحت عنوان انتخاب ملكات الجمال، وتُدفع إلى التعري واستعراض المفاتن باسم التحرر، وتبتذل صورها الفاضحة كأدوات دعاية وإعلان للجذب والاستقطاب، وتدفع هي ثمن كل ذلك بإهدار إنسانيتها وكرامتها، ونزعات الأمومة العميقة لديها، وتصبح عرضة للاغتصاب والابتزاز والاستغلال.

أفادت دراسة أوروبية نشرت في (ستراسبورغ) بمناسبة اليوم العالمي للمرأة سنة 1999م: أن امرأة من كل خمس نساء تقع ضحية أعمال عنف مرتبطة بجنسها في دول مجلس أوروبا. وحسب الدراسة التي أجراها مجلس أوروبا فإن العنف يطاول النساء من كل الأعمار، وكل الطبقات، وكل الثقافات. وقالت (إيفيت رودي) رئيسة اللجنة التابعة للجمعية البرلمانية لدول أوروبا: في وقت وصلنا فيه إلى فجر الألفية الثالثة ترجعنا أعمال العنف هذه إلى العصر الحجري[8] .

وفي مؤتمر عقد في مدينة الإسكندرية بمصر بعنوان: واقع المرأة المصرية، نظمته الجمعية المصرية لتنظيم الأسرة بالتعاون مع وكالة التنمية الدولية، وتحدثت فيه الدكتورة عايدة سيف الله عن العنف ضد المرأة، فقالت: إن الإحصاءات تؤكد أن ثلثي النساء في مصر يتعرضن للضرب من الأزواج، وأن 30% من العاملات يتعرضن لتحرش جنسي[9] .

وكشفت اللجنة العدلية التابعة لمجلس الاتحاد الأوروبي في ستراسبورغ أنها بصدد إعداد مسودة قانون خاص بمكافحة تجارة واسترقاق النساء في بلدان الاتحاد الأوروبي، حيث يشير تقرير الاتحاد الأوروبي بالأرقام إلى أن حوالي نصف مليون امرأة تم استرقاقها وإجبارها على ممارسة الدعارة في بلدان أوروبا الغربية عام 1995م. وكانت شرطة الإجرام الألمانية كشفت في تقريرها السنوي عام 1995م حول تجارة العبيد واستعباد القاصرات في الدعارة عن ازدهار مذهل لهذا العمل الإجرامي الجديد. وقدرت الناطقة الرسمية باسم الشرطة عدد النساء العاملات قسراً في الدعارة في ولاية شمال الراين ويستغاليا وحدها بـ10 آلاف امرأة تشكل النسوة القادمات من أوروبا الشرقية حوالي 90% منهن[10] .

وفي أمريكا تشير الإحصاءات إلى أن هناك نحو 2,1 مليون امرأة يقعن في براثن المغتصبين سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية، أما عدد وقائع الاغتصاب فترتفع إلى 5,9 ملايين محاولة تمر بها النساء الأمريكيات خلال العام الواحد، وتؤكد الأرقام الأمريكية أيضاً أن واحدة من كل ست نساء مررن بتجربة اغتصاب، كما أن نحو ستة ملايين امرأة أمريكية يتعرضن لمحاولة التحرش الجنسي سنوياً[11] .

في المجتمعات الإسلامية:


يترنح وضع المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية بين واقعين سيئين: واقع الانجراف خلف النموذج الغربي للمرأة في بعده السلبي، حيث الابتذال والسفور، واستعراض المفاتن، واللهث وراء موضات الإثارة والاستهلاك، على حساب عفة المرأة وكرامتها، وعلى حساب دورها الإنساني الخطير.

وهناك واقع التخلف والجمود، الذي يشلّ حركة المرأة، ويحجّم دورها، ويصادر الكثير من حقوقها المشروعة، بحجة الحفاظ على العفة والحجاب، وبمبررات زائفة تنسب إلى الدين.

ينقل الشيخ محمد الغزالي عن خطيب مشهور وقف يصيح بأسى وغضب قائلاً: رحم الله أياماً كانت المرأة فيها لا تخرج إلا ثلاث مرات: من بطن أمها إلى العالم، ومن بيت أبيها إلى الزوج، ومن بيت زوجها إلى القبر!![12] 

ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: كنت أقرأ في كتاب (محاضرات الأدباء) للراغب الأصفهاني، فوجدته عقد فصلاً عن البنات بعنوان (فائدة موتها وتمنيه) ابتداه بقولـه: قال رسول الله :«نعم الختن القبر» وقال: «دفن البنات من المكرمات» والحديثان من الأحاديث الموضوعة المختلقة على رسول الإسلام[13] .

ولا يزال هناك من يرى: أن أفضل شيء للمرأة أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها، استناداً إلى حديث غير معتمد نقل عن السيدة الزهراء (عليها السلام).

وأن الأُمية مستحبة للمرأة لورود النهي عن تعليمها الكتابة.

وأنه لا يجوز لها أن تشارك في الانتخابات بأن تنتخب أو تُنتخب، ولا أن تقود وسائل المواصلات الحديثة، وأن صوتها عورة لا تُسمعه الرجل الأجنبي إلا لضرورة، إلى غير ذلك من الآراء التي لا تصمد أمام البحث العلمي الصحيح، وتنفّر المرأة من الإسلام، وتشرّع للتمييز ضدها.

وعلى الصعيد العملي يجري استغلال الكثير من الأحكام الشرعية من قبل بعض الرجال على حساب كرامة المرأة وحقوقها الإنسانية، فبناء على ما يراه كثير من الفقهاء من ثبوت ولاية الأب والجد على الفتاة البكر في مسألة زواجها، واشتراط إذنه وموافقته، فإن بعض الآباء يسيئون استخدام هذا الحق بشكل يؤدي إلى عضل زواج البنت، ومنعها من الخاطب الكفو الذي ترغب فيه، وذلك حرام من الناحية الشرعية، حيث تسقط ولاية الولي حينما يمارس الإعضال بحقها.

وبعض الأزواج يسيئون التعامل مع زوجاتهم استغلالاً لمبدأ قوامة الزوج، والحال أن قوامة الزوج على زوجته هي في إطار المعروف ﴿وَعَاشــِرُوهُــنَّ بِالْمَعــْرُوفِ[14]  ﴿ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [15] .

وبعضهم يستغل حق الطلاق والذي جعله الشارع بيده، لإذلال المرأة وابتزازها، وإبقائها معلقة، أو تخضع له، بإعطائه أي مبلغ يريده، مع أنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ومع تخويل الإسلام لحاكم الشرع أن يستخدم صلاحيته في رفع الضرر وتطليق المرأة، ضمن حيثيات نص عليها الفقهاء.

أمام هذين الواقعين، التقليد للنموذج الغربي، وأسر حالة التخلف، تواجه المرأة امتحاناً صعباً لوعيها وإرادتها.

فكيف تكتشف طريق الخلاص؟ وكيف تهتدي إلى الخيار الصحيح؟

إن العودة إلى مفاهيم الإسلام الصحيحة، وتشريعاته الهادية، وتعاليمه القيمة، هو سبيل المرأة لتحرير ذاتها، وتحصيل حقوقها الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى[16] .

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 19 جمادى الأخر 1422هـ
[1]  سورة الشورى الآية 39.
[2]  سورة الشعراء الآية 227.
[3]  الصحيفة السجادية- دعاء مكارم الأخلاق.
[4]  سورة النحل الآية 58-59.
[5]  الهندي: علي المتقي/ كنز العمال- حديث رقم45439.
[6]  المصدر السابق- حديث رقم 11760.
[7]  سورة الأنعام الآية 93.
[8]  الحياة: جريدة يومية/ لندن 6مارس 1999م.
[9]  الحياة: جريدة يومية/ لندن 8 مايو 1999م.
[10]  الشرق الأوسط: جريدة يومية/ لندن 28/ 4/ 1997م.
[11]  لها: مجلة أسبوعية/ لندن ص44 عدد 51 بتاريخ 12/ 9/ 2001م.
[12]  أبو شقة: عبد الحليم/ تحرير المرأة في عصر الرسالة ج1 ص5.
[13]  المصدر السابق ص13.
[14]  سورة النساء الآية 19.
[15]  سورة البقرة الآية 229.
[16]  سورة البقرة الآية 120.